المغرب: الوقت ينفد؟

على الرغم من أن كثيرين توقّعوا بأن يعرف الإقتصاد المغربي إنتعاشاً في العام الجاري، فإن الخبراء يعتقدون بأن هذا الإنتعاش لن يصاحبه، كما في السنوات الفائتة، حل أهم مشكلتين تواجهان المملكة وهي البطالة ووصول الإنتعاش إلى جيوب الفقراء، الأمر الذي قد يولّد أرضاً خصباً وجذابة لعملية التجنيد في تنظيم “داعش”.

الملك محمد السادس: ينبغي متابعة الإصلاحات
الملك محمد السادس: ينبغي متابعة الإصلاحات

الدار البيضاء – مصطفى الزيّاني

إزدهر تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وإنتعش من خلال إستغلاله الغضب السياسي والإقتصادي للمهمَّشين في البلدان غير المستقرة والمتعثّرة مثل العراق وسوريا وليبيا. ولكن، لماذا، إذن، بدأ يستهدف المملكة المغربية المستقرة نسبياً؟ لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن تُعلِن الأجهزة الأمنية المغربية عن إعتقال أفراد خلية نائمة مزعومة لتنظيم “داعش”. في حين أن الأرقام الدقيقة غير متوفّرة، فإن بين بضع مئات وأكثر من ألف من المغاربة قد جُنِّدوا وتم تدريبهم من قبل التنظيم التكفيري في سوريا. وتخشى السلطات المغربية من أن يعود هؤلاء المقاتلون المتطرفون إلى البلاد ويقومون بدورهم بتجنيد المزيد من الشباب وشن هجمات داخل أراضي المملكة. الواقع أن إحتمال نجاح عمليات هؤلاء العائدين وتحقيق هدفهم سوف يعتمد على مستوى ومدى السخط الشعبي الذي ينتظرهم.
من ناحية، إن إرتفاع معدلات الفقر، وتزايد البطالة بين الشباب، وقمع المعارضة السياسية السلمية في المغرب يخلق الأرضية الخصبة لعملية تجنيد المواطنين من قبل تنظيم “داعش”. من ناحية أخرى، مع نهج للنمو مبتكر موجه إلى التنمية الذي يجمع بين أفضل المبادئ الإقتصادية الغربية والإسلامية وأسلوب روحي ولكن ضد الإسلام الثيوقراطي الذي لا يشجّع على التطرف، يمكن للمغرب الصمود في وجه العاصفة – وحتى تحويل نفسه إلى نموذج إقتصادي للبلدان التي تسعى إلى نزع فتيل تهديد تنظيم “الدولة الإسلامية”. إن النتائج غير مؤكدة على الإطلاق، وتعتمد في النهاية على ما إذا كان الملك محمد السادس لديه الإرادة السياسية لتسريع وتيرة الإصلاح.
خلال “الربيع العربي” في العام 2011، أطلق العاهل المغربي بطريقة سريعة سلسلة من الإصلاحات الدستورية بعد إندلاع المظاهرات المؤيدة للديموقراطية في المملكة. وعلى الرغم من انه لم يصل الى حد التخلّي عن سلطته لصالح نظام ملكي دستوري، فإنه زاد دور وإستقلالية رئيس الوزراء والبرلمان. بالإضافة إلى ذلك، قدم دستوراً مغربياً جديداً وفّر من خلاله المزيد من الحريات المدنية وتوسيع فضاء حقوق الإنسان – علماً أن وعوداً مماثلة أُطلقَت في الماضي، لكنها ما لبثت أن أُلغِيَت. على الرغم من ذلك، نجح الدستور الجديد، على الأقل مؤقتاً، في نزع فتيل الأزمة. وعلى النقيض من العديد من البلدان الأخرى، بدا المغرب أنه خرج أقوى سياسياً من “الربيع العربي”.
ولكن إذا كان للإضطرابات أن يُسيطَر عليها، سوف يحتاج المغرب أيضاً إلى معالجة المشاكل الإقتصادية العميقة التي يواجهها. لقد أُصيب إقتصاده بضرر كبير بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية بين 2008 و2009، مع تراجع تحويلات المغتربين وإرتفاع معدلات البطالة بين العمال العائدين من الخارج. وعلى الرغم من أن معدل النمو قد بلغ 4.6 في المئة بين عامي 2000 و2010، فلم تتحسّن مستويات الفقر، وعدم المساواة، والأمية، والبطالة بين الخريجين الجدد منذ العام 2000، كما نما الفساد والمحسوبية بشكل واضح بين النخبة على نحو متزايد.
وقد حاول كلٌّ من الملك والحكومة الإئتلافية، التي شكّلها “حزب العدالة والتنمية” بعد إنتخابات العام 2011، إجراء إصلاحات إقتصادية. وأعلن العاهل المغربي التوسّع في إستراتيجية اللامركزية لتعزيز الديموقراطية من أسفل إلى أعلى من خلال السماح للمجتمعات المحلية بتولي مسؤولية شؤونها المحلية. وقد ذهب “حزب العدالة والتنمية” إلى أبعد من ذلك، حيث وعد بخلق فرص عمل ورفع المستويات التعليمية إضافة إلى كبح الفساد وتحسين فعالية الحكومة وسيادة القانون ومناخ الأعمال.
مع ذلك، في حين أن المغرب قد صعد مرتبتين في التصنيف على مؤشر التنمية البشرية بحلول العام 2013، فإن تقدم البلاد لم يمتد إلى مناطق أخرى. لقد إنخفض النمو الإقتصادي إلى متوسط 3.7 في المئة بين عامي 2011 و 2014. ومعدل البطالة، الذي كان هبط إلى 9.1 في المئة في العام 2010، بقي منذ ذلك الحين راكداً، مع خلق 21 ألف وظيفة جديدة فقط في العام 2014. وقد حدث هذا التباطؤ على الرغم من وجود سوق حرة تتبع نسبياً نهجاً ليبرالياً في النشاط الاقتصادي التي إجتذبت 3.4 مليارات دولار في مجال الإستثمار الأجنبي المباشر.
وإعترف عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، في التقرير الذي قدمه أخيراً إلى القصر الملكي بأن كافة التطورات تشير إلى أن الاقتصاد الوطني في سنة 2014 ظل في مستوى نمو منخفض، مع “غياب بوادر ملموسة لوجود حيوية شمولية من شأنها خلق الثروة وفرص الشغل”، مشدّداً على أن الإقتصاد المغربي مازال رهيناً بالظروف المناخية، وأن “ما أنجز من تقدم لإستعادة التوازنات تحقق إلى حد كبير بفضل عوامل ظرفية”.
وشدّد على أن “تدهور قطاع التربية والتكوين، يشكل عقبة رئيسية أمام مسار التنمية ككل، ويُبعدنا عن الطريق نحو الإرتقاء إلى مصاف الدول الصاعدة”، معتبراً أن فشل مختلف محاولات الإصلاح يستدعي إعتماد أسلوب “العلاج بالصدمة، وأن تتجاوز جميع الأطراف المعنية مصالحها الفئوية، وتعي أن ما يوجد على المحك اليوم هو مستقبل بلادنا”.
ويكشف تكوين البطالة في المغرب عن بعض أنماط مثيرة للقلق بشكل خاص. عند معدل 20.6 في المئة، تبدو البطالة لدى الشباب مرتفعة بشكل خاص، وترتفع بشكل مذهل إلى 39.9 في المئة بين العمال في المناطق الحضرية الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. إن تهميش هذه المجموعات الكبيرة من الشباب المغربي يولّد برميل بارود محتملاً للثورة. وعلاوة على ذلك، فإن معدل البطالة يرتفع جنباً إلى جنب مع المؤهلات الوظيفية – من 4،5 في المئة لدى العمال غير المهرة، إلى 21.7 في المئة بين العمال ذوي المهارات المهنية، إلى 24.6 في المئة بين خريجي الجامعات. لذا ليس من المستغرب، أن يتصاعد إحباط المغاربة من الحكومة، كما يتضح من الإنخفاض في رأس المال الإجتماعي (أساساً لقياس الثقة)، والذي إنخفض من المرتبة 13 في العالم في العام 2010 إلى المرتبة 84 في العام 2014.
إن ضعف أداء الإقتصاد المغربي لا يعود إلى النموذج المغربي بقدر ما يعود إلى تنفيذه، لا سيما في مجال الحكم. لقد فشلت الإصلاحات السياسية والدستورية التي كان من المتوقع أن تساهم في تحسين الإدارة في القيام بذلك – في الواقع، بسبب الإفراط في التركيز على القوانين والإجراءات المؤسسية بدلاً من الإصلاح الجوهري، فإن أداء البلاد قد تدهور في خمسة من أصل ستة مؤشرات البنك الدولي للحكم بين عامي 2010 و2013. كما أن الأحكام المتعلقة بحقوق الإنسان التي نص عليها دستور 2011 تمّ تجاهلها إلى حد كبير.
وقد واجه الإقتصاد المغربي إعاقات بسبب الوتيرة البطيئة والمؤقتة للتغيير. يبدو أن “حزب العدالة والتنمية” قد إنضم إلى الفكرة الصينية القائلة ب”المؤسساتية التطورية”. بدلاً من المخاطرة بتغييرات جذرية في بيئة جديدة وغير مؤكدة إلى حد كبير، فقد تحركت الحكومة المغربية بشكل تدريجي – دائماً باحثةً عن طرق أفضل لتحسين الإقتصاد، ولكن مع إصلاحات طفيفة يمكن بسهولة إيقافها أو عكسها إذا ثبت أنها غير فعالة.
يقول بعض الخبراء بأن بعض العذر ينبغي أن يُعطى لوتيرة التغيير التدريجية في المغرب الإضافية في ضوء إنتشار الإضطراب والفوضى في جميع أنحاء المنطقة عند تطبيق الإصلاحات السابقة الليبرالية الجديدة في السوق بسرعة جداً. ومع ذلك، فإن التفسير الأكثر إحتمالاً هو أنه، على الرغم من ظهور إدارة إقتصادية شاملة، فليس هناك تنسيق حقيقي كبير بين الوزارات والوكالات المسؤولة عن تنفيذ الإصلاحات الأساسية. ولأن المغرب لا يزال يتمتع بنظام ملكي، فإن “حزب العدالة والتنمية” لا يملك السيطرة على وزارات رئيسية عدة، والتي ترفع إداراتها تقاريرها في المقام الأول إلى القصر. على الأقل يمكن أن تُعزى جزئياً وتيرة التعثر في الإصلاح الاقتصادي إلى عمل الوزارات ذات الأهداف المتقاطعة، حيث كل واحدة تركّز على أولوياتها الخاصة.
من أجل خلق الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي اللازم لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية”، فمن الأهمية بمكان أن يستكمل المغرب إنتقاله من إقتصاد التوزيع على أساس الإيجار (المصالح الخاصة) إلى إقتصاد موجه نحو الإنتاجية الحديثة. ومع ذلك، يمكنه فقط أن يفعل هذا إذا سُمِح للحكومة تطبيق نهج عملي موجه نحو هدف معين في التنمية. ولتحقيق هذه الغاية، فمن الأهمية بمكان أن يُعير أو يقرض الملك سلطته إلى “حزب العدالة والتنمية” للتغلب على المعارضة بسرعة من أصحاب المصالح الخاصة.
في حين أن النهج التدريجي البطيء للإصلاح قد أعطى دفعاً للإقتصاد الصيني، فإن الصين كان لديها الخيار للمضي بالوتيرة التي تختارها.
مع تهديد تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي يلوح في الأفق، قد يكون الوقت قد صار نوعاً من الترف الذي لم يعد بإمكان المغرب تحمله. إذا كان “الربيع العربي” أدّى إلى التحوّل على مستوى المنطقة إلى مزيد من الحكم الديموقراطي وسياسات فعالة لمواجهة التهميش الإقتصادي والسياسي، فإن جماعات مثل “الدولة الإسلامية” لا يمكن أن تتطور أبداً. في الوقت الحاضر، لا يزال لدى المغرب الفرصة لجعل هذا التحوّل واقعاً. بيد أن البديل المحتمل هو مستقبل يحدده العنف والحرب.
قال الملك محمد السادس أن المغرب لا يمكنه أن يكون “نظاماً بسرعتين حيث الأغنياء يجنون ثمار النمو، وبذلك يصبحون أكثر ثراء، في حين يُستبعَد الفقراء من عملية التنمية، وبالتالي يزدادون فقراً ويعانون المزيد من الحرمان”. والسؤال هو ما إذا كان العاهل المغربي على إستعداد لمقايضة بعض سلطاته الواسعة وإمتيازاته، ليس فقط من أجل حقوق الإنسان ومساواة أكبر في الدخل، ولكن لإنقاذ بلاده من تنظيم “داعش” وأخوته وأخواته. ويجمع الخبراء أنه ما لم يتخذ الملك إجراء في وقت قريب، أو يُقدِم “على صدمة” كما قال والي البنك المركزي، يمكن أن يأتي اليوم الذي لم يعد فيه الخيار له.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى