عالمٌ مُتعدّدُ الأقطاب بهَيمَنةٍ أميركية

كابي طبراني *

خلال حفلٍ أُقيمَ في الأسبوع الفائت في السفارة الروسية بواشنطن، أكد سفير روسيا لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنطونوف، لممثلي مجموعةٍ من الدول الأفريقية أنه على الرُغمِ من الحرب في أوكرانيا، فإنَّ موسكو لا تزال “مُلتَزِمة بشدّة بتطويرِ شراكةٍ استراتيجيةٍ مع أصدقائنا في أفريقيا”. ومن خلال الجهود المشتركة، أضاف: “ستُصبح القارة السمراء واحدة من قادة النظام العالمي مُتعدّد الأقطاب الناشئ”.

هناك الكثير من كلمات التودّد والديبلوماسية في بيان أنطونوف، لكن ما يهمّنا هي الفكرة الأساسية: إن العالم أصبح مُتعدِّدَ الأقطاب. هل هذا هو الحال بالفعل؟

يُستَخدَمُ مُصطَلح “تعددية الأقطاب” على نطاقٍ واسعٍ بين الخبراء ومحلّلي السياسة الدولية، وهو يشير إلى نظامٍ دولي تُهيمن عليه قوى كبرى متعددة. من الواضح أن الحربَ الباردة، التي هيمنت عليها أميركا والاتحاد السوفياتي، كانت فترة ثنائية القطبية. ويُشارُ عادةً إلى الحقبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرةً، والتي ظهرت فيها الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المتبقية في العالم، على أنها “لحظة أحادية القطب” لواشنطن.

هل انتهت تلك اللحظة؟ يدَّعي البعض أن التعدّدية القطبية كانت معنا لبعض الوقت. منذ ما يصل إلى 15 عامًا، أعلن طوم فينغار، رئيس مجلس الاستخبارات القومي الأميركي آنذاك، عن انتهاء “اللحظة الأحادية القطب”. بعد بضع سنوات، لاحظ وزير الخارجية آنذاك جون كيري أن وجود قوى متعددة قادرة على متابعة مصالحها على الصعيد العالمي يعني “أننا نعيش في عالمٍ يُشبهُ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وليس تنافس القوى العظمى في الحرب الباردة”. وقد أعلنت استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 التي أصدرتها إدارة الرئيس آنذاك دونالد ترامب العودة إلى “منافسة القوى العظمى”، بينما اعترفت استراتيجية الأمن القومي للرئيس الحالي جو بايدن بالصين باعتبارها منافسًا “استراتيجيًا”.

قد تختلفُ المُصطلحات، لكن الرسالة هنا واحدة: لقد انتهى زمن الولايات المتحدة في كونها القوة العظمى الوحيدة بعد نهاية الحرب الباردة.

وبعضٌ آخر ليس أكيدًا ويرفض ذلك. يجادل هؤلاء بأن تعددية الأقطاب هي “خرافة”، مُشيرين، على سبيل المثال، إلى أن قوة الصين “مُبالَغٌ فيها” وربما هي في تراجعٍ أصلًا. تشير مثل هذه الحجج إلى الحجم النسبي للاقتصاد الأميركي الذي يتم قياسه بالدولار الأميركي الحالي، على الرُغم من أن هذه الفجوة قد تُغلَقُ في العقد المقبل. كما إنها تسلط الضوء على المبالغ الهائلة التي تنفقها الولايات المتحدة على قواتها المسلحة مُقارنةً بجميع البلدان الأخرى، حيث لديها حوالي 750 قاعدة عسكرية من نوع ما حول العالم، والصين لديها واحدة فقط (في جيبوتي). وفي حين أن الصين والهند هما أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان، فإن الولايات المتحدة هي ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، لكنها أغنى بكثير منهما على أساس نصيب الفرد.

بالطبع، حتى لو ظلت الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية المهيمنة مُقارنةً بأيِّ دولةٍ أخرى، فسوف تكون موجودة في عالمٍ متعدّد الأقطاب. والادعاء بخلافِ ذلك هو الالتزام بتعريفٍ صارمٍ للقطبية، والذي بموجبه فقط الدول التي تتمتع بقوة متساوية نسبيًا يمكن اعتبارها “قوى كبرى”، أو قطبية، في النظام العالمي. ولكن حتى خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو عصرٌ يُنظَرُ إليه على نطاق واسع على أنه كان مُتعدِّدَ الأقطاب، فإن القوة النسبية للدول التي مُنِحَت مكانة القوة العظمى تباينت بشكل كبير. حكمت بريطانيا البحار وكان لديها إلى حد بعيد أكبر اقتصاد في العالم، لكن ألمانيا كانت تلحق بالركب، كما كانت روسيا تلوح في الأفق. في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة واليابان قوتين صاعدتين من القوى غير الأوروبية، حتى في الوقت الذي كانت الإمبراطورية النمساوية-المجرية في حالة تدهور. وقد أدرج المشاركون في مؤتمر باريس للسلام في العام 1919، الذي أنتج معاهدة فرساي، إيطاليا في تجمّع “القوى العظمى”، على الرُغم من أنها عوملت كلاعبٍ ثانوي بالنسبة إلى البلدان “الثلاثة الكبار” المشاركة: بريطانيا، فرنسا وأميركا.

قد يبدو كل هذا وكأنه مسألة أكاديمية، لكن الأمر ليس كذلك. في كثيرٍ من النواحي، يذهبُ إلى صميمِ فَهمِ كيف ولماذا تتكشّف الأحداث السياسية على مستوى العالم. يمكن رؤية ذلك من خلال النظر في كيفية تأثير التعددية القطبية في النظام العالمي سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.

من الناحية السياسية، يمكن أن تؤثر التعددية القطبية في آفاق التعاون الدولي، بخاصة إذا كانت القوى الكبرى تنظرُ إلى بعضها البعض على أنها منافِسة أو تشكّل تحدّيًا، وفي هذه الحالة يمكن أن تصبح المؤسّسات الدولية مُعطَّلة. يبدو أن هذا الأمر يحدث بالفعل. أنظر إلى عدم قدرة مجلس الأمن الدولي على اتخاذِ إجراءٍ بشأن الحرب في أوكرانيا، حيث أعاقت موسكو وحتى بكين جهوده لإدانة تصرفات موسكو. خلال ذروة جائحة كوفيد-19 أيضًا، أصيبت منظمة الصحة العالمية بالشلل التام بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة والصين على التعاون في التحقيق في أصول الوباء والاستجابة للأزمة الصحية العالمية التي تسبّب فيها.

هناك أيضًا إحتمالٌ أن ينقسمَ النظامُ متعدد الأقطاب إلى كتلٍ متنافسة. يمكن رؤية الشكل الجنيني لمثل هذا التصدّع في المواجهة بين الولايات المتحدة والشراكة الروسية-الصينية الناشئة، وكذلك في مجموعة البريكس المكوَّنة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، التي تكتسب أهمية متزايدة بالنسبة إلى مجموعة الدول السبع التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وكندا واليابان. وقد أدى هذا الانقسام بدوره إلى خلق مساحةٍ للقادة غير الليبراليين والسلطويين للعثور على داعمين خارجيين، ما يُساهمُ بشكلٍ أكبر في تآكل الديموقراطية في جميع أنحاء العالم.

عسكريًا، يمكن للأنظمة متعددة الأقطاب إثارة الصراع وتقويض الجهود المبذولة للحفاظ على السلام. من المؤكد أن الحرب منتشرة وموجودة تاريخيًا بغض النظر عن قطبية النظام، وبعض الأنظمة متعددة الأقطاب كان مستقرًّا. ولكن إذا سعت تلك القوى، في نظامٍ ذي قوى كبرى متعددة، إلى الهيمنة على مناطقها، فإن ذلك يخلق احتمالية خطيرة لوقوعِ حربٍ كبرى. يمكن للمرء أن يرى هذه الرغبة في الهيمنة الإقليمية كمحرّكٍ رئيس لغزو روسيا لأوكرانيا، والسلوك العدواني المتزايد للصين في بحر الصين الجنوبي وتعاملاتها مع تايوان. بالإضافة، تعني التعددية القطبية أن هناك المزيد من القوى التي قد تكون مستعدة وقادرة على استخدام التدخلات العسكرية لإثارة الصراع وإدامته داخل بلدان ثالثة. كما يمكن أن يخلق عدم رغبة بين القوى الأخرى للتدخّل لوقف مثل هذه الصراعات. ليس من قبيل المصادفة أن تزامنت الحرب الأهلية المستمرة منذ فترة طويلة في سوريا مع فترةِ تزايد تأكيد القوى العظمى والقوى الإقليمية نفسها على حد سواء، حيث تتدخل دولٌ عدة وتسعى إلى دعم الأطراف المتنافسة في هذا الصراع.

من الناحية الاقتصادية، تُعَدُّ الأنظمة متعددة الأقطاب بطبيعتها أكثر تقلّبًا. منذ سنوات، كتب الخبير الاقتصادي تشارلز كيندلبيرغر أنه “لكي يستقر الاقتصاد العالمي، فإنه يتطلّب عاملَ استقرار، عامل استقرار واحد”. تلعب الدولة دور عامل الاستقرار هذا من خلال اتخاذِ إجراءاتٍ مثل تقديم عملةٍ مستقرّة وقابلة للاستخدام على نطاق واسع، أو الحفاظ على سوقها مفتوحةً كوجهةٍ لسلع دولة أخرى. من الناحية النظرية، يمكن لأي دولة أن تلعب هذا الدور. ومع ذلك، فمن الناحية العملية، تجعل التعددية القطبية من الصعب على بلد ما القيام بهذا الدور، إذ أنه يخلق حوافز للتصرّف والتبادل بحرية، حيث تنتظر كل قوة الأُخرى لتولّي زمام المبادرة.

في الوقت الحالي، تظل الولايات المتحدة عامل الاستقرار للاقتصاد العالمي عندما يتعلق الأمر بدور الدولار كعملة احتياطية عالمية. لكن جهود الصين لبدء “عولمة” اليوان، حتى لو ظل بدائيًا، هي علامة على أن أميركا لا يمكنها الاعتماد على هيمنة الدولار إلى الأبد. الخلافات المتكررة بانتظام في واشنطن حول رفع حد الدين، والذي بدونه تخاطر الولايات المتحدة بتخلفٍ كارثي عن سداد ديونها السيادية، هي مشكلة أخرى.

لكن المصالح التنافسية في نظامٍ مُتعدّد الأقطاب يمكن أن تؤدي أيضًا إلى بلقنة الاقتصاد العالمي، ما يؤدي إلى تكوين تكتلات اقتصادية مختلفة. وهذا بالضبط ما نشهده اليوم، حيث بدأت الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى فصل اقتصاداتها عن الصين بسبب مخاوف من أن بكين سوف تستخدم نفوذها الاقتصادي لأغراضٍ قسرية مع نمو قوتها.

تشير كل هذه الأمثلة على السواء إلى أن النظام العالمي صار متعدد الأقطاب بالفعل، ولماذا هذا مهم ويعني الكثير. بعيدًا من كونه تجريدًا أكاديميًا، فهو يجسّدُ واقعَ أيِّ شخصٍ يعمل في النظام الدولي، سواء كان من قادة العالم أو ديبلوماسيًا أو رئيس شركة متعددة الجنسية. إنَّ ديناميكيات كل نظام عالمي تتشكّل إلى حد كبير من طريق القطبية، وديناميكيات اليوم تتشكّل من خلال تعدّد الأقطاب.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى