الاعترافُ بالدولةِ الفلسطينية ليسَ مُجَرَّدَ مَسرَحِيَّةٍ سياسِيَّة
سلسلة الوعود الأخيرة بالاعتراف بدولةٍ فلسطينية قد لا تُغيرُ مسارَ الحرب في غزة في نهاية المطاف، أو تُمَهّدُ الطريقَ لتحقيقِ حلٍّ دائمٍ مُتعدّدِ الدول للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. لكنها تُوضّحُ أنَّ الاعترافَ ليس مجرّدَ مسرحيةٍ سياسية. إنهُ أداةٌ من أدوات سياسة القوة، وعندما يستخدمه الأقوياء، قد يكونُ أحيانًا تمثيلية، بمعنى أنه يخلقُ الواقع الذي يُعبّرُ عنه.

بول بوست*
أعلنَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أواخر الأسبوع الفائت أنَّ باريس ستعترفُ بدولةٍ فلسطينية ذات سيادة، على أن يُعلِنَ ذلك رسميًا في أيلول (سبتمبر) خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام. وتلا إعلانه قبل أيام بريطانيا، ثم كندا، اللتان أعلنتا أيضًا أنهما ستعترفان بدولة فلسطينية في أيلول (سبتمبر). واشترطت لندن اعترافها بعدمِ توصُّلِ إسرائيل و”حماس” إلى وقفٍ لإطلاق النار بشكلٍ نهائي قبل أيلول (سبتمبر)، بينما اشترطت كندا اعترافها بالتزام السلطة الفلسطينية، الهيئة التي تحكم الضفة الغربية حاليًا، بسلسلةٍ من الإصلاحات الديموقراطية.
تزامنت هذه التصريحات مع مؤتمرٍ للأمم المتحدة عُقِد في الأسبوع الفائت حول إمكانيةِ تحقيقِ حلِّ الدولتَين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. كما وقّعت فرنسا والمملكة المتحدة وكندا بيانًا مشتركًا يُدينُ ظروفَ المدنيين في غزة خلال الحرب التي استمرّت 22 شهرًا. وبينما تُلقي إسرائيل باللوم على “حماس” بما آلت إليه الأوضاع في القطاع، تُصِرُّ باريس ولندن وأوتاوا على أنَّ إسرائيل تُقصِّرُ في الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بصفتها القوة المحتلة للمنطقة، لضمان سلامة ورفاهية المدنيين الفلسطينيين المقيمين هناك. كما تُعربُ هذه الدول عن قلقها إزاء الخطط التي ناقشتها إسرائيل لإخراج وتهجير السكان الفلسطينيين من غزة.
يبدو أنَّ المنطقَ الذي يُحرّكُ التحرُّكاتَ الديبلوماسية لفرنسا والمملكة المتحدة وكندا هو أنَّ الاعترافَ بالسلطة الفلسطينية، التي تتمتّعُ بالفعل بصفةِ مراقب في الأمم المتحدة، كحكومةٍ شرعية على كلٍّ من الضفة الغربية وغزة، سيضغطُ على كلٍّ من إسرائيل و”حماس” لإنهاء الصراع. لكنّ المنتقدين، بمن فيهم إسرائيل والولايات المتحدة، يرون أنَّ هذه الخطوة غير مُجدِية، إذ قد تجعلُ “حماس” مُتردِّدة في إنهاء القتال.
بصرفِ النظر عن تفاصيل الحالة الفلسطينية، يُتيح هذا الحدث فرصةً للتأمُّل في الدور العام والغرض من الاعترافِ كأداةٍ لسياسة الدولة وممارساتها في السياسة الدولية. لماذا يجب أن نهتمَّ بقرارِ حكومةٍ ما تعترفُ بأُخرى؟
يرتبطُ الاعترافُ ارتباطًا وثيقًا بفكرة “السيادة”، وهي في جوهرها فكرة سيطرة الحكومة على أراضيها، واعتراف الحكومات الأخرى بهذه السيطرة قانونيًا. وكما كتب الفيلسوف السياسي جان بيثكي إلشتاين، أصبحت السيادة شرطًا أساسيًا “لكي يُحقّقَ شعبٌ ما مكانته الكاملة ويحظى بالاعتراف في عالمٍ من الدول”.
بالنسبة إلى العديد من الجهات الفاعلة في النظام الدولي، فإنَّ العنصرَ الداخلي للسيادة، أي عنصر السيطرة على الأراضي، وعنصرها الخارجي -اعتراف الآخرين بهذه السيطرة- يتعاونان ويُعزّزان بعضهما البعض. لنأخذ الحكومة الفرنسية مثالًا. فهي السلطة النهائية على ما يحدث داخل أراضي فرنسا، والدول الأخرى تعترف بهذه السلطة.
ولكنَّ هناك جهاتٍ فاعلة أخرى في النظام الدولي يصعبُ عليها تحديد ما إذا كان العنصرُ الخارجي أو الداخلي للسيادة ينطبقُ عليها. يُمارسُ بعضُ الحكومات سيطرةً واضحة على إقليمٍ ما، لكن لا تعترفُ بها دولٌ أخرى رسميًا، وتايوان خيرُ مثال على ذلك. تسيطر الحكومة في تايبيه بوضوح على أراضي جزيرة تايوان، لكن 13 دولة ذات سيادة أخرى فقط في النظام الدولي تعترف بها كصاحبة السيادة على الجزيرة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ اثنتين من الدول التي لا تُقدِّمُ مثل هذا الاعتراف هما الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، على الرُغمِ من أنهما على طرفَي نقيض بشأن مسألةِ ما إذا كان ينبغي أن تظلَّ تايوان كيانًا مستقلًا. تريد بكين تحقيق الوحدة مع تايوان، التي تُعتَبَرُ مطالباتها التاريخية بالسيادة عليها محلَّ نزاعٍ حاد. من جانبها، بينما لا تعترف واشنطن رسميًا بتايوان كدولةٍ ذات سيادة، فإنها لا تريد أيضًا أن ترى بكين تُخضِعُ الجزيرة لسيطرتها. في حين كان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن صريحًا في تأكيده على أنَّ الولايات المتحدة ستساعد في الدفاع عن تايوان عسكريًا في حالة سعي الصين القارِّية إلى الاستيلاء عليها بالقوة، فإنَّ الإدارة الحالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تحافظ على موقفٍ غامضٍ في ما يتعلق بوضع تايوان.
فلسطين في وضعٍ مُلتبسٍ كتايوان في ما يتعلق بسيادتها، ولكن لأسبابٍ مُتناقضة. فرُغمَ أنَّ الحكومة في تايبيه تمارسُ سيطرةً واضحةً على الأراضي التايوانية، إلّا أنها غير مُعترف بها من قِبَل مُعظم النظام الدولي. في المقابل، لا تُمارس أيٌّ من الحكومتَين في فلسطين، سواءً السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أو “حماس” في غزة، السيطرة على كامل الأراضي التي يُعتقد على نطاقٍ واسع أنها تابعةٌ للدولة الفلسطينية، ويعودُ ذلك جُزئيًا إلى احتلال إسرائيل وسيطرتها الفعلية على جُزءٍ كبيرٍ من الضفة الغربية، والآن غزة، ولكن أيضًا لأنَّ أيًا من الفصيلَين الفلسطينيَين لا يعترف بشرعية السيطرة الإقليمية الجُزئية للفصيل الآخر.
مع ذلك، تعترفُ أكثر من 140 دولة ذات سيادة في النظام الدولي بفلسطين كدولةٍ ذات سيادة. وبهذا المعنى، فبينما تُعدّ إعلانات الاعتراف الصادرة عن فرنسا وبريطانيا وكندا ذات أهميةٍ رمزيةٍ نظرًا لقوة هذه الدول ونفوذها في النظام الدولي، إلّا أنها بعيدةٌ كل البُعدِ من أن تُشكّلَ سابقةً.
تُبرِزُ حالتا تايوان وفلسطين تعقيدَ السيادة والاعتراف، في حين يُجسّد التطبيق الذاتي للاعتراف كيف يُمكن للنظام الدولي في كثيرٍ من الأحيان أن يُصبحَ ما أسماه ستيفن كراسنر، خبير العلاقات الدولية، “نفاقًا مُنظّمًا”. إنَّ الاعترافَ بدولةٍ ما لا يتعلّقُ بما ترغبُ الدولة المُعتَرِفة في اكتسابه من الاعتراف، أو حتى أحيانًا بمن تأمل تلك القوة في إلحاقِ الضررِ به، بقدر ما يتعلّقُ بمدى جدّية الاعتراف. وهذا ينطبقُ بشكلٍ خاص عندما تكون الدولةُ المُعتَرِفة قوةً عُظمى. وكما لاحظَ عالم السياسة “أم. جي. بيترسون” قبل سنوات، لطالما كان الاعترافُ محلَّ اهتمامِ المحامين وصانعي السياسات: بالنسبة إلى المحامين لأنَّ الاعترافَ “مؤسّسةٌ قانونية راسخة تؤدّي وظيفةً مهمة في تحديد الجهات الفاعلة الرئيسة في النظام الدولي”؛ وبالنسبة إلى صانعي السياسات لأنَّ “تراخي القواعد يسمح لهم باستخدامِ الاعتراف ليس فقط لتحديد الجهات الفاعلة، ولكن أيضًا للتعبيرِ عن آرائهم أو للحصولِ على تنازُلاتٍ منها”.
إذا كانت هناك أمةٌ يُظهِرُ تاريخها كيف يُمكن أن يكونَ الاعترافُ أداةً لسياسةِ القوة، فهي الولايات المتحدة. كان قرارُ فرنسا خلال الحرب الثورية الأميركية بالاعتراف باستقلال المستعمرات البريطانية المتمرّدة نابعًا من سعيها إلى تقويض قوة منافستها العالمية، بقدر ما كان نابعًا من الجدارة الحقيقية لتلك المستعمرات كجهاتٍ فاعلة مستقلة فاعلة على الساحة العالمية. ولأسبابٍ مُماثلة، خشي الرئيس أبراهام لنكولن، خلال الحرب الأهلية الأميركية آنذاك، من أن تعترفَ فرنسا أو بريطانيا بالولايات الكونفدرالية المُنفَصِلة بهدفِ إضعافِ واحتواءِ قوة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. ولم يكن هذا نتاجًا لتصرّفاتٍ بارعة من إدارة لنكولن، وديبلوماسية غير كفؤة من مسؤولي الكونفدرالية، وحظًّا.
بالعودة إلى سلسلة الوعود الأخيرة بالاعتراف بدولةٍ فلسطينية، قد لا تُغيّرُ هذه التصريحات الديبلوماسية مسارَ الحرب في غزة في نهاية المطاف، أو تُمهّدُ الطريقَ لتحقيقِ حلٍّ دائمٍ متعدّد الدول للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. لكنها تُوضّحُ أنَّ الاعترافَ ليس مجرّدَ مسرحيةٍ سياسية. إنه أداةٌ من أدوات سياسة القوة، وعندما يستخدمه الأقوياء، قد يكون أحيانًا تمثيلية، بمعنى أنه يَخلقُ الواقع الذي يُعبّرُ عنه. ولكن هل ينطبقُ هذا على فلسطين، وما إذا كان ذلك يعود بالنفع في نهاية المطاف على الفلسطينيين في غزة، فهذا أمرٌ لا يزالُ يتعيّن علينا أن ننتظرَ لنرى.
- بول بوست هو أستاذٌ مشاركٌ في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وزميلٌ غير مقيمٍ في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.