اليَمَن يَنزَلِقُ نحوَ تقسيمٍ فعلي – أو ما هو أسوأ!
في الوقت الراهن، المسار الأكثر ترجيحًا في اليمن هو صراعٌ محدود، وتشرذمٌ متزايد، وشللٌ سياسي. العودة إلى حربٍ شاملة ليست حتمية، لكن استمرار إهمال ديناميكيات اليمن لن يؤدّي إلّا إلى زيادة احتمال اندلاع عنفٍ في نهاية المطاف، مما يهّددُ الأمن الداخلي والإقليمي.

جوناثان فنتون-هارفي*
رُغمَ أنَّ الحربَ بين إيران وإسرائيل قد توقفت مؤقتًا، إلّا أنَّ التوتّرات الإقليمية لا تزال قائمة. ومن بين الدول الأكثر عُرضةً للخطر تقف اليمن، التي تُواجِهُ احتمالَ الانزلاق بصمتٍ وهدوء مرة أخرى إلى فوضى عنيفة، أو إلى التشرذم الفعلي.
منذ نيسان (أبريل) 2022، عندما توسطت الأمم المتحدة في هدنةٍ حوَّلت الحرب الأهلية الوحشية في اليمن إلى صراعٍ مُجَمَّد لا حرب فيه ولا سلام، تراجَعَ اهتمامُ العالم باليمن. لكن البلاد عادت إلى دائرة الضوء بعد هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، عندما بدأ الحوثيون –الجماعة الشيعية المتمرّدة التي تسيطر الآن على معظم أنحاء البلاد– بإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل واستهداف الشحن في البحر الأحمر، معتبرين أفعالهم تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة.
ومع ذلك، فإنَّ اليمن الآن مهددٌ بالعودة إلى الصراع أو إلى حالة من الانقسام أو التشرذم الدائم. ففي 12 حزيران (يونيو)، أي قبل يوم واحد من شنِّ إسرائيل أولى غاراتها الجوية على إيران –التي تدعم الحوثيين منذ اندلاع الحرب الأهلية في اليمن في العام 2014– حذّر المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبيرغ، من أنَّ “الوقت ليس في صالحنا”. وأضافَ أنَّ “”خطوطَ المواجهة المتعددة في جميع أنحاء اليمن لا تزال هَشّة، وتُواجه خطر الانزلاق إلى قتالٍ أكثر نشاطًا”.
ورُغم أنَّ الهدنة بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليًا –والمدعومة من السعودية والإمارات– لا تزال صامدة، إلّا أنَّ الهدوءَ الظاهري يخفي حقيقة أنَّ سيادة الدولة اليمنية تتفتّت بشكلٍ متزايد سياسيًا واقتصاديًا وجغرافيًا. وغالبًا ما يُبَسَّطُ الصراعُ في اليمن على أنه صراعٌ بالوكالة بين إيران الشيعية والسعودية السُنّية، لكن التوترات في اليمن طالما كانت مدفوعةً بمظالم داخلية تعود إلى توحيد شمال وجنوب اليمن في العام 1990. واليوم، بدأت هذه الانقسامات بالتجذُّر.
الحوثيون، وهم حركة شيعية زيدية تسيطر على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من الشمال، زادوا من تأكيدهم على أنهم الحكومة الشرعية منذ وقف إطلاق النار. ويعتبر قادة الحوثيين أنفسهم خلفاء للنظام الإمامي الانعزالي الذي حكم شمال اليمن من العام 897 حتى إسقاطه في ثورة جمهورية بدعمٍ مصري في العام 1962. وفي المقابل، فإنَّ الحكومة المعترف بها دوليًا، المعروفة باسم مجلس القيادة الرئاسي، تمارس سلطة محدودة على الأرض، وتُعاني من انقساماتٍ داخلية بين فصائل ذات أجنداتٍ مُتباينة. وقد تأسس المجلس في محاولةٍ لتوحيد الفصائل المسلّحة المدعومة من السعودية والإمارات، لكنه لا يزال منقسمًا حول قضايا محورية، خصوصًا مسألة الحفاظ على الوحدة الوطنية أو السعي نحو استقلال الجنوب.
في الجنوب، يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من دولة الإمارات إلى إحياء الدولة الجنوبية ما قبل 1990، كما يتضح من محاولاته ترسيخ السيطرة على عدن وموانئ جنوبية أخرى من خلال ميليشياته التابعة. وتُعَدُّ هذه السيطرة أداةً استراتيجية للإمارات لتأمين طرقها البحرية من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، مع عدن وسقطرى كمواقع رئيسة.
في ظلِّ هذه الانقسامات القائمة، أثارت التصعيدات الإقليمية بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة مخاوف من أنَّ اليمن قد يُسحَبُ إلى حربٍ أوسع، ما قد يشعل من جديد الصراع الداخلي. وقد أطلق الحوثيون بعض الصواريخ نحو إسرائيل بالتنسيق مع طهران ردًا على هجمات إسرائيل على البنية التحتية الإيرانية العسكرية والسياسية والنووية في حزيران (يونيو)، لكنهم لعبوا دورًا محدودًا نسبيًا خلال المواجهة. ومع ذلك، استأنفوا هجماتهم على إسرائيل بعد أربعة أيام فقط من وقف إطلاق النار، مما يبرز تزايد استقلالهم العملياتي عن إيران.
وفي الوقت نفسه، لم تؤدِّ الضربات الإسرائيلية ضد البنية العسكرية للحوثيين إلى تدمير قدراتهم، بل استغلها الحوثيون لحشد الدعم الشعبي الداخلي. وقد صوّروا مواجهتهم مع إسرائيل كمصدرٍ للشرعية الداخلية والمقاومة الشعبية، حتى مع استمرار تدهور الخدمات والوضع الاقتصادي تحت حكمهم.
وقد يَعكُسُ ذلك إعادة ترتيب أولوياتهم، مع تركيزٍ أكبر على تعزيز السيطرة الداخلية بدلًا من لعب دور الوكيل الإقليمي لإيران. وبينما لا يزال الحوثيون يعتمدون على الدعم الإيراني في الصواريخ بعيدة المدى، إلّا أنهم طوّروا بعض قدرات التصنيع المحلية، ما يمنحهم قدرًا من الاستقلالية. وتبعًا لضعف إيران وخسارتها للبنية التحتية العسكرية بعد الضربات الأميركية والإسرائيلية، فقد يتجه الحوثيون للتركيز أكثر على الداخل وتقليل الاعتماد على طهران.
تعمُّق الانقسام
مع أنَّ الحوثيين قد سيطروا نسبيًا على شمال اليمن، إلّا أنهم ما زالوا يواجهون جيوبًا من المقاومة القبلية والمعارضة الإيديولوجية. وينطبق هذا بشكلٍ أكبر على الجنوب، حيث يواجهون عداءً مفتوحًا من الفصائل المنافسة، بما في ذلك الميليشيات المتحالفة مع المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الموالية للحكومة. ومع ذلك، لا تزال هذه الفصائل المتعارضة مُجَزَّأة، مما يُعقّدُ جهودَ مواجهة الحوثيين. على سبيل المثال، في حزيران (يونيو) 2023، تأسس مجلس حضرموت الوطني بدعمٍ سعودي، ليُشكّل ثقلًا موازنًا للمجلس الانتقالي الجنوبي، ويسعى إلى الحصول على حكم ذاتي إقليمي في محافظة حضرموت الشرقية الغنية بالموارد.
ويكشف ظهور المجلس عن أنَّ حتى المعسكر المعادي للحوثيين يُعاني من الانقسام والتفتّت، مع استمرار التنافس بين الرياض وأبوظبي في جنوب اليمن. وتسعى السعودية للتأثير في حضرموت عبر مجلس حضرموت الوطني، ما يعكس مخاوفها الإستراتيجية القديمة تجاه حدودها الجنوبية، وكذلك توتراتها المستمرة مع الإمارات منذ أن خفت حدة الصراع اليمني.
في غضون ذلك، يشهد الاقتصاد اليمني حالةً من الانقسام المتزايد. فهناك الآن مصرفان مركزيان، أحدهما تحت سيطرة الحوثيين في صنعاء، والآخر يتبع الحكومة في عدن، ولكلٍّ منهما سياساته النقدية المستقلة. بل وحتى العملة أصبحت منقسمة، بأسعار صرف مختلفة وأوراق نقدية متباينة بين الجانبين. وإلى جانب تعميق التفكك الاقتصادي، فإنَّ ظهورَ أنظمةٍ موازية للحكم والمالية يجعل من إعادة التوحيد أمرًا أكثر صعوبة كل يوم.
ويُشكّل تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” تهديدًا أمنيًا متصاعدًا من الأسفل. ورغم ضعفه وطرده من العديد من المناطق، يسعى التنظيم إلى استعادة حضوره، وقد أدان زعيمه الحالي، سعد بن عاطف العولقي، إسرائيل والولايات المتحدة في خطابٍ حديث. وعلى الرُغم من أنه من غير المرجح أن يستعيدَ سيطرته السابقة على الأرض، إلّا أن وجودا المستمر قد يؤجج عدم الاستقرار، لا سيما في الجنوب الهشّ.
ركودُ الجهود الديبلوماسية
وسط هذه التحدّيات، فإنَّ الجهودَ الديبلوماسية لتجاوز حالة الجمود بين الحرب والسلام قد توقّفت إلى حدٍّ كبير. ففي أيار (مايو) الفائت، توسّطَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اتفاقٍ غير رسمي مع الحوثيين لإنهاء الهجمات على السفن الأميركية في البحر الأحمر، بعد حملة ضربات أميركية جوية وصاروخية لم تكن حاسمة. ومع ذلك، فإنَّ الوضعَ لا يزالُ في حالة جمود، وتراجعت الجهود الإقليمية والأميركية نحو حلٍّ سياسي مُوَحَّد بعد أن اصطدمت بعقبات عدة، مع عدم وجود رؤية واضحة لدى الأطراف الخارجية حول كيفية التعامل مع الحوثيين.
ويظلُّ احتمالُ العودة إلى الحرب قائمًا، سواء عبر مبادرة من القوات الحكومية أو استغلال الحوثيين لفرصة للسيطرة على أراضٍ جديدة. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تعبئةً وتحركاتٍ قرب خطوط التماس في مناطق مثل مأرب، وكذلك محافظات أخرى مثل الحديدة ولحج. وفي 5 تموز (يوليو)، صدت القوات الحكومية هجومًا حوثيًا شرق تعز، المدينة المحاصرة من الحوثيين منذ وقت طويل. وبعدها بأيام، في 12 تموز (يوليو)، قُتل خمسة أطفال في انفجار، وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن الحادث.
من الواضح أنَّ اليمن يقتربُ من نقطة الانهيار.
التدخّل الإقليمي
رُغمَ قدراتها العسكرية ودعمها للحكومة المعترف بها دوليًا، تبدو السعودية حذرة من إعادة إشعال حرب شاملة مع الحوثيين. وبدلًا من ذلك، يفيد بعضُ التقارير أنَّ الرياض لجأت إلى تدابير غير مباشرة، مثل دعم القبائل الشمالية لتكون حاجزًا أمام الحوثيين – وهو نهجٌ استخدمته المملكة منذ سبعينيات القرن الماضي.
وتتردد شائعات حول خطط سعودية وإماراتية لدعم تجدُّد الصراع، لكن كلا البلدين نفى ذلك. إذ تحمل كلٌّ من السعودية والإمارات ذكريات مؤلمة لهجمات صاروخية حوثية استهدفت منشآتهما النفطية، لا سيما في العامين 2019 و2022، كما إنَّ الحرب ستقوّضُ خطط التنمية الوطنية، خصوصًا “رؤية السعودية 2030”. ومع ذلك، يظل الحوثيون تهديدًا دائمًا لأمن البحر الأحمر، وهو ما يدفع البلدين إلى الرغبة في تحجيمهم.
وقد مارست الإمارات ضغوطًا على إدارة ترامب لإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو ما فعله ترامب بالفعل في آذار (مارس) 2025. وردد المجلس الانتقالي السرد الإماراتي المتشدد ضد الحوثيين، مشيدًا برئاسة ترامب كداعم لمواجهتهم، ما يشير إلى أنَّ المجلس الانتقالي قد يكون في طليعة أي عودة للصراع، إذا ما نجح في تجاوز خلافاته مع بقية المجلس الرئاسي.
ومع ذلك، فإنَّ اتفاق ترامب مع الحوثيين يوضِّح أولويّاته المتضاربة: الإبقاء على الضغط مع تجنُّب الحرب المفتوحة. لذا، من المرجح أن يستمر الجمود. وإذا لم تتفق السعودية والإمارات على دعم استقلال الجنوب بقيادة المجلس الانتقالي، فمن المرجح أن يتكرس الانقسام الفعلي.
وفي الوقت نفسه، وعلى الرُغم من التنافس بينهما في الجنوب، تُدرك الرياض وأبوظبي أنَّ انهيار المجلس الرئاسي لن يصبَّ إلّا في مصلحة الحوثيين. لذا من المرجح أن يظلَّ البلدان شريكين –وإن كانا حذرَين ومُتَرَدِّدَين– في رسم مستقبل اليمن. ومع ذلك، ما لم يتجاوزا خلافاتهما، فإنَّ التقسيم الفعلي في اليمن سيكون كلَّ شيء عدا كونه مستقرًا، حتى في الجنوب.
في الوقت الراهن، المسار الأكثر ترجيحًا هو صراعٌ محدود، وتشرذمٌ متزايد، وشللٌ سياسي. العودة إلى حربٍ شاملة ليست حتمية، لكن استمرار إهمال ديناميكيات اليمن لن يؤدّي إلّا إلى زيادة احتمال اندلاع عنفٍ في نهاية المطاف، مما يهّددُ الأمن الداخلي والإقليمي.
- جوناثان فينتون-هارفي هو محللٌ وصحافيٌّ بريطانيٌّ يُركّز عمله بشكلٍ كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.