سوريا: مَعضَلةُ العلويين ما بَعدَ الأسد
كابي طبراني*
سقوطُ بشار الأسد، الذي كان يُعتَبَرُ لفترةٍ طويلة أحدَ أعمدةِ الاستبدادِ غير القابلة للإزاحة في الشرق الأوسط، أدخَلَ سوريا في فصلٍ جديدٍ مليءٍ بالغموض في تاريخها المضطرب. وبينما يحتفلُ البعضُ بنهايةِ سلالةٍ مُتَّهَمةً بعقودٍ من القمعِ الوحشي، يُواجِهُ آخرون، وخصوصًا الأقلّيات السورية، مُستقبلًا أكثر التباسًا وغموضًا. وفي مقدمتهم تأتي الطائفة العلوية —الطائفة الغامضة التي ارتبطت تاريخيًا بنظام البعث بقيادة الأسد— والتي تجدُ نفسها الآن مكشوفةً أمام الانتقام، والإقصاء السياسي، وحالةٍ عميقة من عدمِ اليقين الاجتماعي.
غالبًا ما يُساءُ فهم الطائفة العلوية، التي تُشكّلُ حوالي 10% من سكان سوريا، والتي ارتبطت منذ الستينيات الفائتة بمفاصل الدولة. وقد رسّخَ صعودُ حافظ الأسد إلى الحُكم في العام 1970، وتولّي ابنه بشار السلطة من بعده في العام 2000، سيطرةَ العلويين على المؤسسات العسكرية والأمنية السورية. ومع ذلك، لم تَكُن هذه السيطرة مُوَحّدةً ولا مُمَيَّزةً كما يَعتَقِدُ البعض. فقد بقي الكثيرون من العلويين فقراء، خصوصًا في المناطق الريفية والأحياء العشوائية، وكانت استفادتهم من قربهم من النظام مُتفاوتة تبعًا للطبقة والموقع الجغرافي والانتماء القبلي.
لكنَّ التصوّرات المُتَجَذِّرة عن امتيازات العلويين —والتي غذّاها كلٌّ من إعلام النظام وخطابات المُعارضة الطائفية— أسهمت في انزلاق الانتفاضة السورية في العام 2011 إلى حربٍ أهليةٍ شاملة. والآن، بعد الحرب وهروب الأسد إلى روسيا، تفاقَمَت الأخطار المُحدِقة بالعلويين. ففي مناطق مثل اللاذقية، التي كانت تُعَدُّ معاقلَ مُوالية للنظام، تؤكّدُ مجازرُ الميليشيات المعارضة، المؤلَّفة من مقاتلين متحالفين مع الحكومة الانتقالية السورية والجيش الوطني السوري وسرايا أنصار السنة وأجانب، (حسب جماعات حقوقية)، التي حدثت في آذار (مارس) الفائت ضد العلويين هشاشةَ المرحلة الانتقالية في سوريا.
وقد تعهّدت الحكومة الانتقالية الجديدة، التي يُهَيمِنُ عليها قادةٌ سابقون في جماعة “هيئة تحرير الشام” الإسلامية، بالانفتاح والإصلاح. ومع ذلك، فإنَّ الخطوات الأوّلية —كإقصاءِ من يُشتبه بولائهم للأسد وتأجيل الانتخابات— تُوحي بنموذجٍ أكثر استبدادًا منه ديموقراطيًا. والأسوأ من ذلك، أنَّ جهازَ الأمنِ المُتشظّي في البلاد عاجزٌ عن منع الميليشيات الإسلامية المحلّية والجهات الأجنبية من ممارسة العنف ضد الأقليات.
في هذا الانتقال المزدوج من الاستبداد والحرب، تُواجِهُ الأقليات، وخصوصًا العلويين (وأخيرًا الدروز)، تهديداتٍ من نوعَين: انعدامُ الأمن، والاستقطابُ المجتمعي. لقد أدّى انهيارُ السلطة المركزية إلى تركِ العديد من العلويين —لا سيما العاملين في مؤسّسات الدولة من جيشٍ وخدمةٍ مدنية— من دونِ حمايةٍ أو مصدرِ دَخل. وفي الوقت نفسه، فإنَّ القتلَ الانتقامي ومُصادرةَ الممتلكات يُقوِّضان الثقة في التزام النظام الجديد الذي يرأسه أحمد الشرع بمبدَإِ المواطنة المتساوية.
تاريخيًا، عندما تُربَطُ الأقليات بأنظمةٍ سابقة —كما حدث مع التوتسي في رواندا أو التيغراي في إثيوبيا— فإنها تُصبحُ أهدافًا سهلةً للانتقامِ الجماعي. وسوريا تبدو على وشك تكرار هذا السيناريو. فحتى مع تنوُّعِ المواقف السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل الطائفة العلوية، فإنَّ السردية العامة حولَ “ذَنبٍ جماعي” قد ترسّخت في أوساطٍ من الغالبية السُنّية، مما يُفاقم من مشاعر الضغينة التي خلّفتها الحرب، ويؤجّجها كلٌّ من القوى الطائفية والمقاتلين الأجانب الذين ما زالوا فاعلين في الساحة السورية.
لكنَّ مُستقبلَ سوريا لا يجب أن يكونَ رهينةَ ماضيها. فعلى الرُغمِ من إرث الأسد الدموي، إلّا أنَّ ما بعده يُمثّلُ فرصةً لبناءِ هَويّةٍ وطنيةٍ جامعة جديدة — هويةٌ تعترفُ بتعدُّديةِ سوريا وتحمي الأقليات بدلًا من معاقبتها. وهناك سوابق تاريخية، بل حتى خلال سنوات الحرب، تُثبتُ وتؤكّدُ إمكانية التعايُش: فالمظاهرات الأولى ضمّت علويين ودروز وسُنّة معًا، كما إنَّ المناطق ذات الغالبية العلوية استقبلت مئات الآلاف من السُنّة النازحين ابتداءً من العام 2012.
بل إنَّ المعتقداتَ الدينية العلوية نفسها تحمُلُ في جوهرها نظرةً تقدُّمية تجاه التعدُّدية والديموقراطية. فالعقيدةُ العلوية تؤمن بأنَّ التعدُّديةَ الدينية مَشيئةٌ إلهية، وأنَّ الديموقراطيةَ ضروريةٌ للحفاظ على التعايش. ومن هذا المنظور، فإنَّ سقوطَ الأسد —الذي استغلَّ الخوف الطائفي لتثبيت حكمه— قد يفتحُ أمامَ العلويين آفاقًا أوسع للاندماجِ الحقيقي في المجتمع السوري.
لكنَّ هذا الاندماجَ يتطلّبُ حكومةً راغبةً فعلًا في تعزيز التعدُّدية، وليس فقط التلاعُب بالانقسامات كما فعل النظام السابق. المؤشّرات الأوَّلية لا تبعثُ على التفاؤل: تشكيلُ حكومة من لونٍ واحدٍ إسلاميٍّ متشدّد، صياغةُ الدستور المؤقت بأسلوبٍ إقصائي، ممارسةُ “عدالةٍ انتقائية” ضد من يُصَنَّفون كموالين للأسد، والاعتماد على ميليشياتٍ أجنبية … كُلُّها علاماتٌ مُثيرةٌ للقلق.
لرَسمِ مسارٍ مختلف، يجب على الحكومة الانتقالية أن تتّخذَ خطواتٍ عدة. أوّلًا، عليها أن توفّرَ حمايةً حقيقية للأقلّيات، من خلالِ مُحاسبةِ مَن يرتكبون جرائم انتقامية بحقّهم. ثانيًا، ينبغي تسريعُ عملية نزع سلاح الميليشيات كافةً، بما فيها تلك التابعة للنظام الجديد، لمنع تكرار أعمال العنف الطائفي. ثالثًا، يجب توسيع المشاركة السياسية لتتمكّن مجتمعات مثل العلويين من رؤية أنفسهم كمواطنين فاعلين في سوريا الجديدة، لا كأطلالٍ من نظامٍ بائد.
لن يكونَ هذا سهلًا. فندوبُ الحرب، وانهيارُ المؤسّسات، وانعدامُ الثقة العميق بين المكوِّنات الاجتماعية، ستحتاجُ إلى سنواتٍ لتُشفى. لكنَّ نجاحَ الانتقالِ السوري لا يتوقّفُ فقط على إعادةِ بناءِ الاقتصاد أو فَرضِ الهَيبة السياسية، بل يتوقّفُ على قدرةِ الدولة على توفيرِ الحماية والمُعاملة العادلة لجميع مواطنيها، مهما كانت طوائفهم أو خلفياتهم.
إنَّ قصّةَ العلويين في سوريا —تلك الطائفة التي أُسيء فهمها، وشُوِّهَت صورتها، وتجد نفسها اليوم في موقفِ ضُعفٍ شديد— يجب أن تكونَ بمثابةِ اختبارٍ حاسمٍ لمُستقبلِ البلاد. فإذا تمَّ تحويلهم إلى أكباش فداء، فإنَّ سوريا تُخاطِرُ بأن تَستبدِلَ استبدادًا بآخرٍ أخطر. أما إذا تمّت حمايتهم ودمجهم، فربما تكون تلك أولى إشارات الخروج من ليلٍ طويلٍ من الحرب والطائفية. وهنا تلزمنا أعجوبة!!
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani