متحف الإِخْوَة عسَّاف: كوكبُ الصخر الناطق

هنري زغيب*

في الطريق إِليه هدوءٌ كأَنه صدى الجُرفِ الجبليِّ قبالتَهُ، يتوِّجُ واديًا هدأَتْ فيه الأَصوات، فلا حسَّ إِلَّا ما يتقطَّر من جمال الطبيعة في هذه الفِلْذة الجميلة من لبنان، ننحدر إِليها من فوهة نبع الصفا، متَّجهين نزولًا إِلى واحةٍ لبنانيةٍ استثنائيةٍ تحضُن متحف “الإِخوة عسَّاف” في البصَّيل/الورهانية (منطقة الشوف).

نصل بتُؤَدَة، خوفَ إِيقاظ الحجارة المنتظِرةِ نعمةَ أَن تصبح تماثيلَ ناطقةً بأُعجوبة النحت تحت أَزاميل عساف ومنصور وعارف عساف، الأَشقَّاءِ الثلاثة الذين جعلُوا من هذه البُقعة مزهريةَ جمالٍ مُدهشةَ الإِبداع.

يستقبلُنا منصور. يرافقُنا في دربٍ أَخَّاذةٍ بجميع أَنواع النباتات والأَزهار والأَشجار، بَرِّيِّها والجوِّي. هنا ضحكة خُزامى، هنا جُمعةُ قصعين، هنا امتشاقُ اللزاب، هنا شموخ الأَرز. ونمشي ونمشي… ومنصور يَشرحُ بحماسةِ اللبناني العارفِ ثروَةَ إِرثِ الأَرض اللبنانية وكنوزِها الطبيعية.

ينتهي الدرب إِلى مطالع المتحف. هنا ستةُ صُخورٍ كبيرةٍ متتابعة، نخالها تجريدًا، حتى ندخلَ غرفةً نُطِلُّ من طاقةٍ فيها على الستة الصخور، فإِذا هي مجتمعةٌ معًا واحدُها خلف الآخَر لتشكِّلَ رأَس ميخائيل نعيمة، هو الذي كان الإِخوة عساف أَطلعوه من قلب صخر هائل في الشخروب سنة 1999… نُكمل الجولة، ومعنا منصور لا يتوقَّف أَمام التماثيل عن شرحٍ مُنير: هنا فريد الأَطرش، عودُه إِلى جانبه، في دقَّةٍ نَحتية مذْهلة الثنايا في ثيابه وفي تفاصيل العود ونوتات أُغنيته “لحن الخُلود”. هنا شوشو، عصاه في يده، وتفاصيلُ في شاربيه العريضين وشَعره الكثيف وستارة المسرح أَمامه، وخطوةٌ تكاد تتقدَّم إِلى الأَمام بمجموعةِ نقاطٍ دقيقةٍ في هذا التمثال الأُعجوبي. هنا فيليب سالم بوقفة كاملة، يدُه إِلى ذقنه، كعادته حين يُصغي. وكنا قبل أُسبوعين شهدنا نسخة التمثال النهائية وتمثالَ والده أَديب سالم لدى افتتاح حديقة أَديب سالم في بطرام. نُكمِل الجولة في المتحف. هنا شارل مالك، هنا غسان تويني، هنا سعيد عقل، هنا مايكل دبغي، ونسختُهم الأَصلية موجودة في الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا (AUST) في منطقة الأشرفية، بيروت. نكمل بعد؟ طبعًا. هنا وجيه نحلة يغمِس ريشته في الـمَلْوَن قبل نقلها إِلى القماشة البيضاء. هنا فخر الدين بكامل هَيْبَتِه. هنا سعيد فخر الدين شهيدُ الاستقلال. وهنا كمال جنبلاط بكامل عمقه نظرةً وفكرًا.

نجول بعد، نجول ونُدهَش، نجول ونَكتشف. ولا تنتهي رغبتُنا في مزيد. نَخرج من المتحف، نستريح تحت خيمة طبيعية شكَّلَتْها ثلاث سنديانات كبيرة تظلل أَغصانُها الكَثَّةُ ساحة للاستراحة والتأَمُّل. تتلقَّانا أُم عساف بلُقمة البَرَكة، يساعدُها عارف، الأَخُ الأَصغر، بتنويعةٍ لصحاف الخير من أَرض الخير. يبادرنا عساف، الأَخ الأَكبر، بأَحلامِ الإِخوة الثلاثة في تحويل المكان إِلى أَكاديميا للتدريس والتجارب والاختبارات. يُطلُّ علينا من المداخل زوَّار، بين كبارٍ يندهشون، وأَولاد يحاولون فَرِحين أَن يَفهموا.

تَطول الزيارة تحت السنديانات. تَندهُنا الشمس المتزحلقةُ أَمامنا خلْف الجرف الجبلي. نتهيَّأُ للمغادرة، يحفُّ بنا خُلْقُ الإِخوة الثلاثة وطيبةُ أُم عساف. ونتأَمل: هذا هو لبنانُ الحقيقي. لبنان الوطن. لبنانُ الإِبداع الباقي فيما يمضي العابرون من أَهل السُلطة ومَن لا يَرَون من لبنان إِلا الدولةَ الزائلةَ الأَهلِ غدًا أَو بعده، فيما لبنانُ/الوطنُ خالدٌ بإِرثِ مبدعيه الذين يأْتون من المستقبل فيجعلون الحاضرَ ساطعًا لا إِلى انقضاء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى