لماذا ينبغي على الصين إعادةَ تَقييمِ عملتها الرنمينبي – ولماذا يَصعبُ عليها ذلك؟
نظرةٌ سريعة على التعقيدات الكامنة وراء وضع بكين المُحرِج والمعقّد في ما يتعلق بإعادةِ تقييم عملتها، على الرُغم من مزايا قوة العملة.

مايكل بيتيس*
في مقالٍ نُشِرَ أخيرًا في صحيفة “فاينانشال تايمز”، جادلَ الخبير الاقتصادي البريطاني وعضو مجلس إدارة بنك الصين (المملكة المتحدة)، جيرارد ليونز، بأنَّ عملةَ الصين، الرنمينبي، مُقوَّمَةٌ بأقلِّ من قيمتها الحقيقية، وأنَّ تشجيعَ الصين على رَفعِ قيمتها سيساعد على تعزيز مكانتها الدولية. وبينما طرحَ العديدُ من المحللين والخبراء حججًا مُماثلة، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان ارتفاعُ قيمة الرنمينبي سيُعزِّزُ بالفعل دوره الدولي. فرُغمَ ارتفاعِ قيمة الرنمينبي بشكلٍ مُطرد في العقد الذي تلا تموز (يوليو) 2009، إلّا أنَّ دوره الدولي خلال تلك الفترة بالكاد ارتفع. بل في الواقع، تراجَعَ مُقارنةً بالارتفاع الحاد في حصّةِ الصين من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والتجارة الدولية.
مع ذلك، هناكَ أسبابٌ اقتصادية وَجيهةٌ للغاية تدفَعُ الصين إلى إعادةِ تَقييمِ عملتها، بالإضافة إلى أسبابٍ أخرى تجعلُ من الصعب على الأرجح إجراءُ إعادةِ تقييمٍ جدّية. ففي أيِّ اقتصاد، تعملُ العملة المرتفعة القيمة على دَعمِ الاستهلاك بشكلٍ فعّال من خلالِ خفضِ أسعار الواردات، في حين تَفرُضُ ضرائبَ على الإنتاج من خلال جعلِ إنتاج السلع القابلة للتداول أقل قدرةً على المنافسة على الصعيد العالمي. ومع استمرارِ فائضِ الإنتاج ونقص الاستهلاك، من شأنِ إعادة تقييم الرنمينبي أن تُساعِدَ على تصحيحِ بعض التشوُّهات الهيكلية العميقة في الاقتصاد الصيني من خلال تحويلِ توزيع إجمالي الدخل المحلّي من الشركات إلى الأُسَر.
نقصُ الاستهلاك والناتج المحلّي الإجمالي للصين
يَعكُسُ الإنتاجُ المُفرِطُ ونَقصُ الاستهلاك في الصين تحوُّلَ الدخلِ في الاتجاه المعاكس على مدى العقود الثلاثة الماضية، حيثُ دعمت الأُسَرُ فعليًا بقيّةَ الاقتصاد من خلالِ سلسلةٍ من التحويلات الضمنية والصريحة، بما في ذلك ضعف نمو الأجور، وانخفاض أسعار الفائدة، والإفراط في الإنفاق على البنية التحتية اللوجستية، وانخفاض قيمة العملة. تعملُ جميع هذه الآليات بالطريقة نفسها: فهي تنقلُ الدخلُ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بعيدًا من قطاعِ الأُسَرِ لدَعمِ الاستثمار والتصنيع.
ومع قيام هذه الآليات بخفض حصّة الأُسَرِ في الناتج المحلي الإجمالي إلى بعض أدنى المستويات التي شهدتها أيُّ دولة، فإنها أجبرت الأُسَرَ أيضًا على استهلاكِ حصّةٍ مُتناقصة من كلِّ ما أنتجته. وهذا الانخفاضُ الشديدُ في حصّةِ الأُسَرِ من الناتج المحلي الإجمالي هو ما يُفَسِّرُ بشكلٍ رئيس الانخفاضَ الاستثنائي في حصّةِ الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي للصين.
في السنوات الأخيرة، أدركت بكين بشكلٍ مُتزايدٍ طبيعةَ المشكلة. فبينما تعهّدت ببذل قصارى جهدها لزيادة حصة الاستهلاك في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، إلّا أنها فشلت فشلًا ذريعًا في ذلك، ولأسبابٍ عدّة مُماثلة تجعل من الصعب إعادة تقييم عملتها. وبالسماح بارتفاع قيمة الرنمينبي، ستُعيدُ بكين توزيع الدخل على الأُسَر، وتُعيدُ توجيه الاقتصاد في الاتجاه الذي تريده وتدّعي رغبته.
لماذا يُشكّلُ ارتفاعُ قيمة الرنمينبي مشكلة؟
إنَّ ارتفاعَ قيمةِ العملة هو بالضبط ما يَصعبُ على نموذجِ النموِّ الصيني تحمّله. لا يزالُ النظامُ الاقتصادي الكُلّي الصيني يعتمدُ اعتمادًا كبيرًا على الاستثمارِ والتصنيع لدَفعِ عجلةِ النمو. ومع استمرارِ ترنُّحِ قطاع العقارات، وعدمِ قدرة استثمارات الحكومة المحلّية في البنية التحتية على استيعابِ فائضِ الطاقة الإنتاجية للاقتصاد، لجأت الصين إلى صادراتِ الصناعاتِ التحويلية للحفاظِ على نموِّ الناتج المحلّي الإجمالي. ومن نتائج ذلك أنَّ قطاعَ الصناعات التحويلية يلعبُ دورًا كبيرًا وغير مُتناسِب في الاقتصاد الصيني.
ولهذا السبب، يُصبحُ ارتفاعُ قيمة الرنمينبي مشكلة – إذ سيُقوّضُ القدرة التنافسية للمصنّعين الصينيين، تمامًا كما ازداد اعتماد بكين عليهم في التوظيف والنشاط الاقتصادي. إنَّ النقطةَ الحاسمة التي غالبًا ما يغفلها المحلّلون هي أنَّ القدرة التنافُسية العالمية للصناعات التحويلية للصين واستهلاكها المحلّي الضعيف للغاية ليسا سمتَين مُنفَصِلتَين للاقتصاد الصيني. فكلٌّ منهما يُمثّل الوجهَ الآخر للآخر – فالقدرة التنافُسية للصناعاتِ التحويلية الصينية هي نتيجة التحويلات نفسها التي تُؤدّي إلى انخفاضٍ حادٍ في حصّةِ الأُسَرِ الصينية من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإنّ رفعَ هذه النسبة يُقوّضُ الأولى.
وبينما سيُعزِّزُ هذا الأمرُ دورَ الاستهلاكِ المحلّي في استيعابِ الإنتاج الصيني، إلّا أنَّ الخطرَ يَكمُنُ في أنَّ ارتفاعَ قيمةِ العملة قد يُقلّلُ في البداية الطلبَ على الصادرات بوتيرةٍ أسرع من زيادته للطلب المحلي، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنَّ التحوُّلَ من الطلبِ على الصادرات إلى الطلبِ المحلّي سيتطلّبُ من المصانع إعادةَ تجهيزٍ وتوجيهَ السُلع التي تُنتِجها، وهو أمرٌ قد يستغرقُ سنوات. وقد تكون النتيجةُ في المدى القصير فقدانَ الوظائف، وانخفاضَ الأرباح الصناعية، وتجدُّدَ الضغوط المالية – لا سيما في المقاطعات الصناعية المُثقَلة بالديون.
القيودُ السياسية والمالية: لا حلولَ سريعة لبكين
هناكَ قيودٌ إضافية، سياسية ومالية. إذا رفعت بكين قيمة الرنمينبي، فمن المرجح أن يُواجِهَ ذلك مُقاومةً سياسية من جانبِ المصالح القوية المُوَجَّهة نحو التصدير والتي تعتمدُ على تنافُسية العملة للصمود والبقاء. علاوةً على ذلك، إذا باعَ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) احتياطياته الأجنبية لتعزيز قيمة العملة، فسيؤدّي ذلك إلى شحِّ السيولة والمخاطرة بارتفاعِ أسعار الفائدة، مما سيزيدُ من تكاليف خدمة الديون المُرتَفعة أصلًا. في بلدٍ تتجاوز فيه نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 300%، قد تكونُ لهذا النوع من التشديد النقدي آثارٌ سلبية خطيرة.
ومع ذلك، لا يعني أيٌّ من هذا أن عملية إعادة تقييم العملة ورَفعها ليست ضرورية. فكما هو الحال مع معظم أشكال إعادة التوازن الأخرى، يصعبُ للغاية إدارتها في المدى القصير. أما في المدى الطويل، فيجب على الصين تحويل نموذج نموّها نحو نموذجٍ يلعبُ فيه الاستهلاك المحلي دورًا أكبر، ولكنَّ الطريقةَ المُستدامة الوحيدة لزيادة حصّة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي هي زيادة الحصّة النسبية لقطاع الأُسَرِ من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا بدوره يتطلّبُ تحويلَ الموارد إما من قطاع الأعمال أو من القطاع الحكومي. المشكلة الجوهرية هي أنَّ الخيارَ الأوّل من شأنه أن يؤدّي إلى تقليصِ النموِّ الاقتصادي في الأمد القريب، في حين أنَّ الخيارَ الثاني من شأنه أن يتطلّبَ على الأرجح إجراءَ تغييراتٍ في المؤسّسات السياسية.
الخلاصة
في النهاية، تعكسُ معضلة العملة في الصين حقيقةً أوسع نطاقًا: يُمكِنُ للنماذج غير المُستدامة أن تستمرَّ لفترةٍ أطول بكثير مما يتوقعه أيُّ شخص، ويرجعُ ذلك أساسًا إلى أنَّ تكاليف التكيُّف فورية، وأنَّ فوائدها لا تتحقّق عادةً إلّا في المدى الطويل. لكنَّ الفشلَ في التكيُّف يجعلُ النظامَ ككُلٍ أكثر هشاشة، مما يزيد من التكاليف طويلة الأجل المترتبة على الفشل في التكيُّف، ويزيد أيضًا من تكاليف التكيُّف قصيرة الأجل. وكما هو الحال دائمًا مع الصين، فإنَّ السياسة طويلة الأجل الصحيحة واضحة. لكن ما هو غير واضح هو كيف -أو ما إذا- ستكون مُجدية سياسيًا في المدى القصير.
- مايكل بيتيس هو زميل أول غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وهو خبير في الاقتصاد الصيني، وأستاذ في المالية بكلية قوانغهوا للإدارة بجامعة بكين، حيث يتخصص في الأسواق المالية الصينية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.