حروبُ المياه لم تَعُد تهديدًا مُستَقبَليًا، إنَّها هنا!

كابي طبراني*

بكُلِّ المقاييس، يُعاني العالمُ من الجفاف، ويَنفُدُ منه الوقت. في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي منطقةٌ لطالما عُرِفَت بمناخها القاسي وتوازُنها السياسي الهشّ، لا يُعَدُّ تغيُّرُ المناخِ مجرّدَ أزمةٍ وشيكة. إنه موجودٌ بالفعل، يُعيدُ تشكيلَ المناظر الطبيعية، ويقلبُ حياةَ الناس رأسًا على عقب، ويُهدّدُ أهمَّ موردٍ على وَجهِ الأرض: الماء.

ومع ذلك، فإنَّ أزمةَ منطقتنا ليست مجرّدَ أزمةِ جفافٍ أو ندرةِ مياه، بل هي أزمةُ سوءِ إدارةٍ وصراع، والآن، وبشكلٍ مُتزايد، تسليح. من دجلة إلى النيل، ومن الساحل إلى سواحل ليبيا، دَفَعَنا التقاءُ التدهورِ البيئي والتنافسِ الجيوسياسي والتطرُّفِ العنيف إلى ما يُمكن تسميته بعصرِ الإرهاب المائي.

لطالما كانت المياه موردًا وسببًا للقتال. لكن ما كانَ في يومٍ من الأيام مصدرًا للاحتكاك أصبحَ الآن أداةَ حربٍ مُتَعَمَّدة. تُدركُ الجماعات المُتطرِّفة والأنظمة الاستبدادية على حدٍّ سواء أنَّ السيطرةَ على الأنهارِ والسدود وطبقات المياه الجوفية تعني السيطرة على الشعوب. ووفقًا ل”معهد المحيط الهادئ” (Pacific Institute)، ارتفعت معدّلات العنف العالمي المُرتَبط بالمياه بأكثر من 50% في العام 2023 وحده. والعواقب وخيمة.

تُعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تُعدّ بالفعل أكثر مناطق العالم معاناةً من شحِّ المياه، من ارتفاعِ درجاتِ الحرارة، وموجاتِ جفافٍ أطول، وظواهر جوية كارثية. كما إنَّ مستوياتَ سطحِ البحر ترتفعُ بشكلٍ مُقلِق، والمياه الجوفية تُستَنزَفُ بوتيرةٍ أسرع من قدرتها على التجدُّد، والبُنيةَ التحتية الأساسية للمياه -السدود، ومحطات تحلية المياه، وقنوات الري- مُتهالكة، أو تُساءُ إدارتها، أو مُعرَّضة للانهيار.

في العام 2023، أدّى الانهيارُ المُميت لسدَّين في مدينة درنة، ليبيا، بعد أن ضربت العاصفة دانيال الساحل، إلى مقتلِ أكثر من 10,000 شخص، وقدّمَ لمحةً مُرعبةً عن الضررِ الذي يُمكِنُ أن يُلحِقَهُ الطقسُ المُتفاقم بفعل المناخ بالدول الهشّة. حتى البلدان الأكثر ثراءً ليست بمنأى عن ذلك. تواجهُ دولُ مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمدُ بشكلٍ كبير على تحلية المياه، مخاطرَ مُتزايدة من ارتفاع مستويات سطح البحر وتلوّث المياه المالحة، مما قد يُعرّضُ محطات تحلية المياه الساحلية للخطر – شريان الحياة للملايين.

لا يتعلّقُ الأمرُ بالمناخ فحسب، بل يتعلّقُ بالحَوكَمة أيضًا. في العراق وسوريا ولبنان، أدّت عقودٌ من نقصِ الاستثمارِ والفسادِ إلى خسائر فادحة في المياه بسببِ البُنية التحتية المُتسرِّبة والاستغلال غير القانوني. في مصر، تعتمدُ جميعُ أشكالِ الحياة تقريبًا على نهر النيل، وهو نهرٌ يتعرَّضُ لضغطٍ متزايد بسبب مشاريع السدود المُقامة على المنبع وانخفاض تدفّقه الناجم عن الطقس الأكثر حرارةً وجفافًا.

تتجاوزُ الأنهارُ التي تدعمُ حضارة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا -النيل ودجلة والفرات والأردن- الحدود الوطنية. لكنَّ التعاونَ كان الاستثناءَ وليس القاعدة. على سبيل المثال، وضع سد النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق أديس أبابا ضد القاهرة والخرطوم في صراعٍ شديدِ المخاطر للسيطرة على مستقبل النهر. في غضون ذلك، أدّت مشاريع السدود التركية على المنبع إلى الحدِّ بشكلٍ كبيرٍ من وصول العراق إلى نهرَي دجلة والفرات، ما أدّى إلى خفضِ تدفُّقات المياه بنسبةٍ تصلُ إلى 80٪ منذ سبعينيات القرن الفائت.

هذه ليست مجرَّدَ خلافاتٍ تقنية حول حقوق المياه، بل هي تهديداتٌ للأمن القومي. في ظلِّ غيابِ معاهداتٍ مُتعدّدة الأطراف مُلزِمة، تتصرّفُ الدولُ من جانبٍ واحد، وتُعاني الجهاتُ الفاعلة الأضعف -غالبًا دول المصب- أكثر من غيرها. إذا تُرِكَت هذه النزاعات من دونِ حَلٍّ، فقد تتفاقَمُ إلى صراعٍ مفتوح.

وراء التنافسات على مستوى الدول، يكمُنُ اتجاهٌ أكثر قتامة: صعودُ المياه كأداةٍ للإرهاب. في منطقة الساحل، تستغلُّ الجماعات المُتطرِّفة المُرتبطة بتنظيمَي “داعش” و”القاعدة” ندرةَ المياه للسيطرة على المجتمعات التي تخلّت عنها حكوماتها. فهي تحفرُ الآبار، وتُوصِلُ الإمدادات، وتستغلُّ اليأس لتجنيد المقاتلين. في المناطق التي تتفشّى فيها بطالة الشباب ويتفاقم فيها الضغط المناخي، يصبح الماء أداةً ليس فقط للبقاء، بل للهَيمَنة أيضًا.

هذا هو الإرهاب المائي – استخدامُ المياه كرافعةٍ للسلطة السياسية والإيديولوجية. وهو ينتشر. من تلاعُب منظمة “بوكو حرام” الإرهابية بمصادر المياه في نيجيريا إلى سيطرة المسلّحين على أنظمة الري في مالي، تُدركُ الجماعات المُتطرِّفة النفوذ الذي تُوَفّره المياه في المجتمعات البائسة.

ما ينقصنا ليس الوعي، بل الاستجابة المُنَسَّقة. ورُغمَ تزايُدِ الأدلّة، لا تزالُ حَوكمةُ المياه تُعامَلُ إلى حدٍّ كبيرٍ كقضيةٍ تنموية أو بيئية. الأُطُرُ القانونية الدولية عتيقةُ الطراز. معظم الاتفاقيات العابرة للحدود ثُنائية وضعيفة، ويسهلُ التخلّي عنها. على سبيل المثال، استَبعَدَت اتفاقية مياه النيل لعام 1959 دولَ المنبع مثل إثيوبيا، وأجّجت التوتّرات لعقود.

نحنُ بحاجةٍ إلى نهجٍ جديد. يجب على المجتمع الدولي أن يُقرَّ بأنَّ استخدامَ المياه كسلاحٍ جريمةٌ بموجبِ القانون الدولي. ينبغي أن تترتَّبَ على استخدامِ المياه لإيذاء المدنيين أو إكراهِ الدول عواقبَ وخيمة – قانونية ومالية وسياسية. يجب على مؤسّسات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، والهيئات الإقليمية مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، أن تأخُذَ زمامَ المبادرة في وَضعِ معاهداتِ مياهٍ عابرةٍ للحدود قابلةٍ للتنفيذ، تتضمّنُ أحكامًا لحلِّ النزاعات، وتبادُل البيانات والمعلومات في الوقت الفعلي، واستثماراتٍ في البنية التحتية المُقاوِمة لتغيُّرِ المناخ.

يُمكِنُ للتكنولوجيا أن تُساعدَ في هذا المجال. يُمكن لرصد الأقمار الاصطناعية وأدوات التَوَقُّعِ المدعومة بالذكاء الاصطناعي التنبّؤ بنقصِ المياه قبلَ أن يشتعلَ فتيلُ العنف. لكن لن ينجحَ أيُّ حلٍّ بدونِ مُعالجةِ الأسباب الجذرية: تغيُّر المناخ، وفشل الدولة، وتآكل ثقة الجمهور.

مع ذلك، هناك بوادر أمل. في الأماكن التي تُقصِّرُ فيها الحكومات، غالبًا ما يتدخّلُ المجتمع المدني. إنَّ مبادرات الأديان، مثل “الإيمان من أجل كوكبنا” (Faith for Our Planet)، تُدَرِّبُ القادةَ الدينيين على رَبطِ التعاليم الروحية بعلم المناخ، والوصول إلى المجتمعات بطُرُقٍ تُعبّرُ عن ثقافتها. وتعملُ منظماتٌ مثل “البحث عن أرضية مشتركة” (Search for Common Ground) على التوسُّط في نزاعات المياه المحلّية في المناطق التي اجتاحها التطرُّف. إن هذه المبادرات محلَّية ومَرِنة وفعّالة، وهي بالضبط ما تحتاجه هذه الأزمة التي تَتَّسِمُ بالتشرذُم والتفتُّت.

في نهاية المطاف، لا يَكمُنُ حلُّ أزمة المياه في محطّاتِ تحلية المياه ولوحات البيانات فحسب، بل في إعادةِ بناء الثقة بين المجتمعات، وبين الدول، وبين المواطنين ومؤسّساتهم. إذا فشلنا، فسيُحَدِّدُ عصرُ الإرهاب المائي ملامحَ قرننا. ولكن إذا تحرّكنا الآن -معتبرين الماء مصدرَ الحياة، لا سلاحًا في الحرب- فقد نسلكُ مسارًا مختلفًا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى