كيف تُعيدُ العملاتُ المُستَقرّةُ صياغةَ الهَيمَنة المالية؟
تعتقد إدارة دونالد ترامب أنَّ العملات المشفّرة قادرةٌ على المساعدة في الحفاظ على هيمنة الدولار، فهل هذا صحيح؟

عمران خالد*
عندما طرحت “سيركِل” (Circle)، ثاني أكبر شركة عملات مستقرّة بالدولار في العالم، أسهمها للاكتتابِ العام في بداية حزيران (يونيو) الفائت، كان رَدُّ الفعل حماسيًا. بحلول 27 حزيران (يونيو)، لامَسَ سهمُ “سيركل” 299 دولارًا لفترةٍ وجيزة قبل أن يستقرَّ قرب 183 دولارًا – وهو ارتفاعٌ مُذهِلٌ بستة أضعاف، جعلَ حتى بعض مُكتتبيها يُشكّكون في تقييمها. على الرُغم من أنَّ المستثمرين المتفائلين أشادوا به باعتباره دليلًا على نضجِ منظومةِ العملات المشفّرة المالية -فالعملات المستقرّة هي عملة مشفَّرة مرتبطة بعملةٍ مثل الدولار أو سلعة مثل الذهب- إلّا أنَّ المُتشكّكين حذّروا من نشوءِ فقّاعة مضاربة تُذكّرنا بفقّاعات التكنولوجيا المالية (fintech) السابقة.
مع ذلك، فإنَّ هذا الارتفاع هو أكثر من مجرّدِ انتصارٍ لطموحِ الشركات. يُجسّد هذا مفارقةً أعمق: في عصرٍ تُراقَب فيه سيادة الدولار الأميركي بشكلٍ متزايد، هل يُمكِنُ أن تكونَ العملات المُستقرّة المدعومة بالدولار بمثابة السقّالة الرقمية التي تُعزّزُ هيمنته العالمية، أم الشرارة التي تُسرّع من تراجعه؟ العملات المستقرّة، بعيدًا من كونها أدواتٍ تكنولوجية طوباوية هامشية، أصبحت البنية التحتية لعصرٍ جديد من فرض القوة الناعمة.
في الوقت الحالي، تُشيرُ الأرقام إلى حالةٍ من التماسُك لا التراجع. تُسيطرُ العملات المستقرّة المُرتبطة بالدولار -وهي رموزٌ رقمية مُصَمَّمة للاحتفاظ بقيمةٍ تعادل قيمة الدولار الأميركي- على 95% من سوق العملات المستقرّة العالمية. هذا ليس مجرّدَ فضولٍ تقني، بل هو صدى للهيمنة النقدية الأوسع للدولار، مدعومةً بمناخٍ تنظيمي في واشنطن لطالما فضّلَ التساهل على الرقابة الصارمة.
في حزيران (يونيو)، أقرّ مجلس الشيوخ ما يُسمّى بقانون “جينيوس” (GENIUS)، وهو أولُ إطارِ عملٍ فيدرالي مُصمّم لضبط سوق العملات المستقرّة الجامحة. ولم يُخفِ وزير الخزانة سكوت بيسنت، المُسلّح بصلاحياتٍ واسعة بموجب هذا التشريع، تفاؤله عندما قال: يُمكنُ أن تتضخّمَ سوق العملات المستقرّة الأميركية بنحو ثمانية أضعاف لتصل إلى أكثر من تريليوني دولار في غضون بضع سنوات. في جلسةِ استماعٍ بمجلس الشيوخ الشهر الماضي، أصرّ بيسنت على أنَّ انتشارَ العملات المستقرّة من شأنه أن “يُرسّخَ الطلب على سندات الخزانة الأميركية ويرسّخ دور الدولار كعملة الاحتياطي الرئيسة في العالم”. على الرُغم من أنَّ الدعمَ الساحق من مجلس الشيوخ في 17 حزيران (يونيو) مثّل إنجازًا بارزًا، إلّا أنَّ مشروعَ القانون لا يزالُ ينتظرُ الموافقة النهائية في مجلس النواب، حيث قد تُعقِّدُ المناقشات حول الرقابة الفيدرالية مقابل الرقابة من الولايات مساره.
وإضافةً إلى الزخم التنظيمي، قدّمت شركة “سيركل” طلبًا إلى مكتب مراقب العملة الأميركية في أواخر حزيران (يونيو) لتصبح بنكًا استئمانيًا معتمدًا على المستوى الفيدرالي – وهي خطوة من شأنها، في حال الموافقة عليها، أن تُرسِّخَ دورها كوصيٍّ على الدولارات الرقمية، مع إمكانية الوصول المباشر إلى البنية التحتية للمقاصة التابعة للاحتياطي الفيدرالي.
يبدو أنَّ المقاييس قصيرة الأجل تُبرّرُ هذا التفاؤل. فقد تجاوزت القيمة السوقية للعملات المستقرّة 260 مليار دولار، مع تسجيل أكثر من 240 مليون عنوان نشط يحمل هذه العملات خلال العام الماضي. ولا لبس في هذا التضمين الهادئ والسريع للعملات المستقرة في مجرى المدفوعات العالمية. فعلى عكس بيتكوين أو غيرها من العملات المشفّرة التي قد تتقلبُ قيمتها بشكلٍ كبير، فإنَّ العملات المستقرة، بحُكمِ تصميمها، تضمنُ ثباتًا في الأداء. وهذا يجعلها جذّابة ليس فقط لمتداولي العملات المشفرة، بل أيضًا للشركات التي تخوضُ غمارَ التجارة عبر الحدود، والموظّفين الباحثين عن رواتب ثابتة، والمواطنين في الاقتصادات الهشّة الذين يحاولون التحوُّطَ من انخفاض قيمة عملاتهم.
خُذ هذا في الاعتبار: لا يزال البنك الدولي يُحدّدُ متوسّط تكلفة التحويلات المالية عبر الحدود عند 6.35%، مع طول مدة التسوية التي تصل إلى خمسة أيام. أما العملات المستقرّة، التي تعتمد على تقنيات “بلوكتشاين” مثل “سولانا” (Solana) (وهي منصّة بلوكتشاين وعملتها المشفرة الأصلية هي SOL)، فتُسوّي المعاملات في الوقت الفعلي، على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وغالبًا بأقل من دولار واحد. ليس من المستغرب أنَّ ما بدأ كأداةٍ متخصّصة لتسويات العملات المشفّرة يتسرّبُ الآن إلى القطاع المالي السائد، من فواتير التجارة إلى التحويلات المالية وكشوف الرواتب الرقمية.
وراء هذا الارتفاع الهائل، تكمن حقيقة بالغة الأهمية غالبًا ما تُغفل في العناوين الاحتفالية. أكثر من 90% من الأصول التي تدعم هذه العملات المستقرة هي سندات خزانة أميركية قصيرة الأجل. عندما يشتري المرء عملةً مستقرة بالدولار، فإنه يضمنُ فعليًا كلًا من الدولار وآلة الدين الأميركية المترامية الأطراف، وهي علاقة تكافلية لطالما لاءمت حتى الآن شهية واشنطن للاقتراض بأسعار فائدة منخفضة. تشير التوقعات الأخيرة من “AInvest” إلى أنَّ العملات المستقرة يمكن أن تضخَّ ما بين 1.4 و3.7 تريليون دولار في أسواق سندات الخزانة الأميركية بحلول العام 2030، مما قد يقلل تكاليف الاقتراض الفيدرالية بأكثر من 100 مليار دولار سنويًا. بعيدًا من التمويل الهامشي، أصبحت هذه الرموز الرقمية بسرعة ركائز أساسية للاقتصاد الكُلّي.
ومع ذلك، وكما هو الحال دائمًا، للعملة وجهان. ففي الأسبوع نفسه الذي حققت فيه أسهم “سيركل” نجاحًا باهرًا، أصدر صندوق النقد الدولي بهدوء أرقامًا تُلقي بظلالها على الوضع. فاعتبارًا من الربع الثالث من العام 2024، انخفضت حصة الدولار في الاحتياطيات الرسمية العالمية إلى 57.4% – وهو أدنى مستوى لها منذ العام 1995. وانخفض مؤشر الدولار إلى ما دون 97 في 30 حزيران (يونيو)، مسجِّلًا أضعف نقطة له منذ آذار (مارس) 2022. وأشار بنك أوف أميركا، الذي لا يُعدّ معقلًا للمعارضة الراديكالية، إلى أنَّ هذا كان أسوأ نصف أوّل للدولار منذ فجر أسعار الصرف الحرة في العام 1973. وبعبارةٍ أوضح: يزدادُ قلقُ المستثمرين من استثمار رؤوس أموالهم غير المُحَوَّطة في الأصول الأميركية.
وعزّزَ قرارُ وكالة “موديز” في 17 أيار (مايو) الفائت بخفضِ التصنيف الائتماني السيادي الأميركي، مشيرًا إلى “تدهور المؤشرات المالية”، هذا القلق. تجاوز الدين القومي الأميركي 36 تريليون دولار هذا العام، ومع ذلك، لا تزال الرغبة السياسية في إصلاحٍ ماليٍّ جاد بعيدة المنال كما كانت دائمًا. في غضون ذلك، نادرًا ما بدت بيئة الحوكمة أكثر اهتزازًا. فمن الحروب التجارية المتقلّبة إلى الجمود الحزبي الذي يهدد دوريًا بتعطيل الحكومة الفيدرالية، تتسع الفجوة بين وعد “الاستثناء الأميركي” وواقع الخلل الداخلي.
في ظل هذه الخلفية، يسهل فهم سبب اعتبار بعض المراقبين العملات المستقرّة ليس فقط مُثبِّتات للدولار، بل مُسرّعات محتملة لتراجعه. فهي تُسهّلُ تدفّقات رأس المال، لكنها تخلق أيضًا ثغرات قد تُقوّضُ أدوات التحكُّم التقليدية. لعقود، لم ترتكز القوة الغاشمة للدولار على التجارة أو سندات الخزانة فحسب، بل على قوة العقوبات، وقدرتها على استخدام الدولار كسلاحٍ في الصراعات الجيوسياسية. العملات المستقرة -بلا حدود، وسريعة، وغير منظَّمة بشكل متزايد في بعض الجوانب- تُضعف هذه الميزة القسرية.
بدأت دولٌ مثل الصين والهند والبرازيل بالفعل في تنويع احتياطياتها، وشراء الذهب، وتسوية المعاملات التجارية الثنائية بالعملات المحلية، وبناء قنواتِ دَفعٍ تتجاوز الدولار تمامًا. وإذا استمرّت الولايات المتحدة في إساءة استخدام العقوبات المالية، فإنَّ المنطقَ يقول إنَّ الحوافزَ لابتكارِ حلولٍ بديلة ستزداد. وبينما لا تزال العملات المستقرّة اليوم يُهَيمن عليها الدولار، فإنَّ التكنولوجيا التي تدعمها يمكنها بسهولة تثبيت سلة من العملات – أو لا شيء منها على الإطلاق.
علاوةً على ذلك، فإنَّ العملات المستقرّة ليست بمنأى عن فوضى المُضارَبة التي تُصيب قطاع العملات المشفّرة. يُقدّمُ التاريخ قصصًا تحذيرية. فمن كارثة الرهن العقاري عالي المخاطر في العام 2008 إلى انهيار “TerraUSD” في العام 2022، فإنَّ الخطَّ الفاصل بين الابتكار والانفجار الداخلي رفيعٌ للغاية. إذا انفجرت فقاعةُ عملاتٍ مستقرّة مستقبلية، فإنَّ تداعياتها ستمتدُّ إلى ما هو أبعد من بورصات العملات المشفّرة، وربما ترتد إلى سوق سندات الخزانة الأميركية نفسها التي كان من المفترض أن تدعمها.
في الوقت الحالي، لا تزال هيمنة الدولار قائمة لأنَّ البدائل لا تزال مُجَزَّأة. لكنَّ الرضا عن الذات سيكون حماقة. فالنظام المالي الذي يعتمد على سك المزيد من العملات الرقمية لدعم الدولار قد يجد نفسه في حالةِ انهيارٍ تام إذا لم تُعالج نقاط الضعف الهيكلية الأعمق – تضخُّم الديون، والاستقطاب السياسي، وتآكل الحواجز المؤسّسية.
العملاتُ المستقرّة، من نواحٍ عديدة، هي أحدثُ تجسيدٍ للإبداع المالي الأميركي. إنها سريعة الحركة ومُثيرة للإضطراب، لكنها أيضًا عُرضةٌ للتجاوزات. فهي تُسلّطُ الضوءَ على الجاذبية الدائمة للدولار، لكنها تكشف أيضًا عن نقاط ضعفه. ومثل العملة التي تُردد صداها، تُذكّرنا بأنَّ كلَّ قصّةِ استقرارٍ تَخفي بذورَ اضطرابها.
لقد أدّى الطرحُ العام الأوّلي لشركة “سيركل” إلى ظهور مليارديرات جدد، وألهَمَ عناوين رئيسة جديدة حول قدرة أميركا على إعادة ابتكار بنيتها المالية. لكن ما إذا كانت هذه البنية قادرة على احتواء الضغوط المتراكمة داخل جدران “قلعة الدولار” هو سؤال مفتوح، وربما يكون الأهم في النهاية.
- عمران خالد هو محلل جيوستراتيجي وكاتب عمود في الشؤون الدولية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.