هل يبقى سلاحُ “حزب الله” كي “لا تُسبَى زينب” مرّةً أُخرى؟
يبدو أنَّ مقاربة الشيخ نعيم قاسم لما يحدث في لبنان والمنطقة قاصرة عن مخاطبة شركائه في الوطن والطائفة الذين يرون أنَّ سلاحَ حزبه هو السبب الذي سيؤدي الى تقسيم لبنان، وأنَّ الخوفَ الوجودي الذي يتحدث عنه موجودٌ فقط على منصّات التواصل الاجتماعي.

ملاك جعفر عبّاس*
بعدما غادرَ المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان السفير توماس برّاك بيروت يكونُ لبنانُ طوى عمليًا صفحةَ اتفاقِ وَقف إطلاق النار الذي أنهى جولة التصعيد الكبرى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 ليدخل في المجهول. إذ أعلن برّاك صراحةً أنَّ الاتفاقَ لم ينجح، من دون الذهابِ إلى التهديدِ بتحرّك أميركي ضد لبنان مُكتَفيًا بالتلويح بإطلاق يد إسرائيل، ف”حزب الله” هو “منظمة إرهابية اجنبية” بالنسبة إلى واشنطن وبالتالي “لا تفاوضَ” معه، ولا “ضماناتٍ للبنان” ولا “إرغامًا لإسرائيل” على أيِّ شيء. وفيما تُرجّحُ أوساطٌ لبنانية احتمالَ عودةِ الحرب تمهيدًا لإعادةِ صياغةِ اتفاقٍ أوضح وأشمل ينهي الحالة العسكرية ل”حزب الله”، يخشى البعضُ من أنَّ سردية “الخوف الوجودي من الجماعات التكفيرية الحاكمة في سوريا” التي يُرَوِّجُ لها الحزبُ بكثافة قد تكون مُقدّمة إلى اشتباكٍ عابرٍ للحدود الشرقية يُعيدُ صياغةَ دورِ السلاح ووجهته.
وكان الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم قد استبقَ زيارة برّاك برفضِ الورقة الأميركية، أو الحديث عن أيِّ اتفاقٍ جديد، واصفًا اتفاق تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 ب”الاتفاق الجيد” للبنان، حيث ينصُّ صراحةً على انسحابِ إسرائيل من النقاط التي تحتلّها ويمنعها من القيامِ بأيِّ عملياتٍ على الأراضي اللبنانية. وفيما يَعرِفُ القاصي والداني أنَّ قدرةَ “حزب الله” ومن بعده الدولة اللبنانية على اجبار إسرائيل على الالتزام ببنود الاتفاق تكاد تكون معدومة، يرسلُ الشيخ قاسم بين سطورِ رفضه المُعلَن لورقةِ برّاك رسائلَ طمأنةٍ لإسرائيل يتحدّث فيها لأول مرة عن “أمن المستوطنات الشمالية” المُستَتِب منذ ثمانية أشهر، مؤكِّدًا “أنَّ طلقةً واحدة لم تُطلَق باتجاه إسرائيل”، مُشَدِّدًا على الخطر الوجودي الذي يتهدّدُ الحزب وبيئته والآتي من “العناصر الداعشية وإن تنكّرت بلبوسٍ آخر” على الحدود الشرقية للبنان ما يقتضي بقاء السلاح بيد الحزب.
وتتقاطَعُ هنا قراءةُ الحزب مع القراءة الإسرائيلية للجوهَرِ السلفي الجهادي للنظام الجديد في سوريا، حيثُ لا تكفي ربطةُ العُنقِ الجديدة للرئيس السوري أحمد الشرع لإقناعِ خصومه الإسرائيليين واللبنانيين بأنه لم يَعُد أبا محمد الجولاني. وتتجذّرُ هذه القراءة عند كلِّ مُنعطفٍ تفتكُ فيه العناصر “غير المنضبطة” المحسوبة على وزارة الدفاع السورية قتلًا وتنكيلًا بالعلويين تارةً، وبالدروز تارةً أخرى، وتتركُ المسيحيين فريسةً لتنظيماتٍ داعشية غامضة. وضمن التعهّد بالحفاظ على أمن إسرائيل عند الحدود الشمالية، يتعهّدُ قاسم ضمنًا بأنَّ سلاحه سيكونُ سدًّا في وجهِ المَدِّ الأصولي السنّي الآتي من الشرق طمعًا في تفاهُمٍ ضمني على إعادة تصويب بوصلة السلاح بتوجيهه شرقًا.
وفي هذه الرسالة أبعد مما يتعلّقُ بالحدود السورية، فالطموحُ التركي الذي يُشكّلُ الرافعة الإقليمية الأولى لحُكمِ الشرع يصطدمُ بالجموحِ الإسرائيلي المُوغِلِ في القتل والتوسّع، ويشتبكان في ملفّاتٍ عدة على رأسها مصير الحكم الذاتي الكردي، وملف الدروز، وترتيبات الجنوب السوري الذي تريده إسرائيل منطقةً منزوعة السلاح وخالية من عناصر النظام، وصولًا الى طبيعة النظام نفسه في دمشق، وهي تعني، إن نجحت إسرائيل في فرضها، نهايةً للحُكم الجديد قبل أن يُبصِرَ النور، في تحدٍّ صريحٍ للإدارة الأميركية المعنية على ما يبدو بنهضةِ هذا الحكم لأسبابٍ عدة ليس اقلها أنَّ الرئيس دونالد ترامب بات يرى في رجب طيب أردوغان شريكًا حقيقيًا للولايات المتحدة يجلبُ معه الكثير من الاستثمارات والأموال على عكس نتنياهو الذي قالت له الإدارة صراحةً أنه لا يستطيع أن يستمرَّ بفتحِ حربٍ جديدة كل بضعة أيام من دون أن تُترجِمَ ذلك ببطاقةٍ حمراء صريحة.
ومن جهةٍ أخرى، يصطدمُ المشروعَين التركي والاسرائيلي بمحاولة إيران إعادة وَصلِ خطِّ طهران-بيروت من خلال زعزعةِ حُكمِ الشرع، والإبقاء على خطوطِ التهريبِ والإمداد مفتوحة في غفلةٍ من الأمن السوري المُنشَغِل بالتحدّيات الداخلية. وتشترطُ تركيا اندماجًا كاملًا لقوات سوريا الديموقراطية (قسد) في قوات الأمن السورية، وسيطرةً كاملةً لحكومة دمشق على مناطق الحكم الذاتي، وتخشى من أن تؤدي أيُّ تنازلاتٍ من الرئاسة السورية في الملف الدرزي لمراعاة حساسيات طائفية ومناطقية الى مطالبات كردية للمعاملة بالمكيال نفسه. فيما يتلاقى المشروعان الإيراني والإسرائيلي على مُعاداة الشرع، يتصادمان على مسألةِ السماح لإيران بإعادة بناء المحور ولعب دورٍ في صدِّ المدِّ الإسلامي السنّي العائد. وقد انتجت دورة العنف الأخيرة في السويداء اتفاقًا دوليًا على وقف إطلاق النار قال النائب وائل أبو فاعور أنه كان بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والسعودية والإمارات والأردن وسوريا ولم يكن محلّيًا فقط، وربما تحاول إيران إيجاد كرسي لها على هذه الطاولة لوضع ترتيبات أمنية تشمل سلاح الحزب ضمن سلة تفاهمات أشمل تحت شعار حفظ الاستقرار.
وقد خبرت إسرائيل تفاهمات سابقة مع “حزب الله” منذ 1997، وبَعدَ 2006 تحديدًا، رعتها قنواتٌ خلفية أوروبية ضمنت صمتَ جبهة لبنان لثمانية عشر عامًا كاملة مقابل سيطرة الحزب على النظام السياسي اللبناني، راكم الحزب خلالها فائضًا هائلًا من القوة مكّنه من التوسُّع شرقًا، فقدّمَ خبراته القتالية للنظام السوري والميليشيات العراقية والحوثي في اليمن، وأسّسَ جيلًا من العقائديين الجدد الذين تدرّبوا على القتال ضد “هيئة تحرير الشام” التي كان يقودها الجولاني وتنظيم “داعش” الذي كان يقوده أب بكر البغدادي حصرًا ولم يطلقوا حجرًا على إسرائيل. واليوم يُذكّرُ قاسم إسرائيل بتلك التفاهمات من خلال الحديث عن هدوء الجبهة لثمانية أشهر متواصلة والتعهّد ضمنًا بعدم المبادرة إلى الهجوم وعدم استخدام السلاح إلّا في حالة الدفاع عن النفس مقابل الحفاظ عليه كأداة استقرارٍ في لبنان وأداةِ ضبطٍ لأداءِ الشرع وجماعته إن احتاجَ الأمر. في المقابل، قد يدفعُ التلكؤ اللبناني الرسمي، في مقاربةِ سلاح الحزب، إلى تفاهُماتٍ من خارج القنوات الرسمية، وإن أنكر برّاك معرفته بها، خصوصًا إِن اقتنعَ بعضُ الدوائر الغربية بسرديةِ أنَّ الفراغَ الذي يمكن أن يتركه إضعافُ “حزب الله” داخليًا قد يملأه مؤيّدو الشرع السُنّة في لبنان.
يُدركُ الحزبُ عُمقَ تأثيرِ خطابه العقائدي في مواجهة السلفية الجهادية التي بنت أدبيّاتها، منذ صعود تنظيم “القاعدة في العراق”، على يد أبي مصعب الزرقاوي، على الاستهدافِ المُمنهَج للشيعة “باعتبارهم رافضة مُرتَدِّين… قتالهم أولى من قتال الأميركان” في لحظةِ تحوُّلٍ في الخطاب السلفي الجهادي مُرتبطة بشكلٍ وثيق بسقوط نظام صدام حسين آنذاك. مع اندلاعِ الحرب السورية في العام 2011، أُعيدَ إنتاجُ هذا الخطاب على أيدي تنظيمَي “جبهة النصرة” و”داعش”، اللذين حَوَّلا الصراعَ إلى معركةٍ وجودية ضد الشيعة. ارتكزت دعايتهما على تكفير الطائفة الشيعية، وشَيطَنة “حزب الله” بوصفه “رأس الحربة الإيرانية” في المشرق العربي. في المقابل، بنى الحزب خطابه على تصوير نفسه حارسًا للأقليات في مواجهة “الخطر التكفيري” مُستَحضِرًا رموزًا كربلائية “فزينب لن تُسبَى مرّتين”، كما يُدركُ “حزب الله” أنَّ صدى الخطاب لا ينحصرُ فقط ضمن بيئته، بل يُحاكي سرًّا وعلانية الخوف الوجودي لكثير من اللبنانيين من طوائف ومشارب سياسية مختلفة يرون في التوحُّشِ الأعمى للتكفيريين خطراً أكبر على وجودهم من إسرائيل.
في المقلب الآخر تبقى مقاربة قاسم قاصرة عن مخاطبة شركائه في الوطن والطائفة الذين يرون أنَّ سلاحَ حزبه هو السبب الذي سيؤدي الى تقسيم لبنان بسببِ ارتفاعِ كلفة الإبقاء عليه مقابل أخطار وهمية صنعتها سرديات مشاريع توسُّعية لم تجلب إلّا الدمار، وأنَّ الخوفَ الوجودي الذي يتحدث عنه موجودٌ فقط على منصّات التواصل الاجتماعي التي تُسَخَّرُ للترويج لبروباغندا الهويات القاتلة، فيما الخطرُ الحقيقي على وجود الجميع هو انهيار الدولة الفاشلة التي حمى سلاحه فساد مشغّليها لعقود.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.