درعُ الخليجِ الهَشّ: لماذا تُعَدُّ حربُ إسرائيل وإيران جَرَسَ إنذار

كابي طبراني*

في عالمٍ مُترابطٍ ومُتَّصِلٍ للغاية يعتمدُ بشكلٍ كبير على الطاقة، لا تُوجَدُ مناطق أكثر أهمّية من الناحية الجيوسياسية –وأكثر عُرضةً للخطر اقتصاديًا– من منطقة الخليج العربي. الحربُ التي استمرّت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، رُغم قصرِها واحتوائها نسبيًا من حيثُ العواقب الاقتصادية الفورية، خلَّفت أثرًا نفسيًا واستراتيجيًا عميقًا في دول مجلس التعاون الخليجي. بالنسبة إلى منطقةٍ رَوَّجت وسوَّقَت نفسها على أنها واحةُ استقرارٍ في شرقِ أوسطٍ مُضطرب، كشفت الحربُ مدى هشاشة هذا التصوّر – والحقيقةَ الكامنة وراءه.

ما يُميِّزُ هذا الصراعُ عن المواجهاتِ الإقليمية السابقة ليس الصواريخ أو الاستعراضات الديبلوماسية، بل الضربة المباشرة على أراضي الخليج التي كَشَفَت وَهمَ الحصانةِ من الحرب. لقد شكّلت الضربةُ الإيرانية لقاعدة العديد الجوية في قطر، وهي منشأة عسكرية أميركية حيوية، صدمةً ذات أبعادٍ وتداعياتٍ بعيدة المدى. لم تُظهِر فقط استعدادَ إيران وقدرتها على استهدافِ قلب البنية التحتية الخليجية، بل دَحضَت الفكرةَ القائلة بأنَّ القواعدَ الأميركية في المنطقة تُمثّلُ درعًا موثوقًا به وليست أهدافًا مُغرية.

ورُغمَ أنَّ الأسواقَ استقرّت بسرعة، وارتفعت أسعارُ النفط مؤقتًا فقط، واستمرَّ المرورُ البحري في مضيق هرمز من دونِ انقطاعٍ يُذكَر، فإنَّ السُحُبَ الاقتصادية لم تتبدَّد. بدأ المستثمرون والمُقيمون إعادةَ تقييمِ جاذبيةِ الخليج كمنطقةٍ “آمنة” من الناحية الجيوسياسية. انتشرَت مقاطعُ فيديو مُصَوَّرة على الهواتف الذكية التي تُظهِرُ الصواريخ في فضاء قطر على نطاقٍ واسع. وقيل إن مواطنين خليجيين سارعوا لحجزِ رحلاتٍ أو فنادق في الخارج، مُستعيدين ذكريات أزمات وصدمات إقليمية سابقة، من حصار قطر في العام 2017 إلى صواريخ سكود إبان حرب الخليج.

يُمكنُ القول أنَّ هذا التغيُّرَ في الانطباع، أو التحوّلَ في النظرة، ربما يشكلُ ضررًا اقتصاديًا أكثر من أيِّ ضربةٍ مادية فعلية. لعقود، اعتمدت اقتصاداتُ الخليج على سمعتها كمنطقةٍ آمنة واستغلّتها لجذب الاستثمارات الأجنبية، والعمالة الماهرة، وصناعات السياحة والخدمات اللوجستية. كلُّ ذلك أصبحَ الآن محلَّ تساؤلٍ وعلى المحكّ. فعندما تهتزُ الثقة بالأمن والأمان، من الصعب جدًا استعادتها.

والأمرُ الأكثرُ إثارةً للقلق هو إدراكُ محدودية خيارات الحماية المُتاحة لدول الخليج في المدى القصير – سواء عسكريًا أو اقتصاديًا. ورُغمَ أنَّ الدفاعات الجوية القطرية أدّت أداءً جيدًا نسبيًا أثناء الضربة، فإنَّ منطقة الخليج ككل تُواجِهُ تحدّياتٍ لوجستية واستراتيجية جسيمة أكبر من أن تُحَلَّ بسهولة. إنَّ التنافُسَ مع إسرائيل وأوكرانيا وتايوان على الإمدادات المحدودة من أنظمة الدفاع الجوي الغربية هو أمرٌ غير عملي ومُعَوِّق. كما إنَّ حماية البنية التحتية المُترامية –من مصافي النفط إلى الموانئ وكابلات الاتصالات– من الهجمات الصاروخية أو السيبرانية تُشكل بالقدر نفسه أمرًا صعبًا ومُرهقًا للغاية.

لا يزال مضيق هرمز، الشريان الحيوي، ممرًّا اقتصاديًا حيويًا. يمرُّ عبر هذا الممر المائي الضيِّق نحو ثلث صادرات النفط العالمية وجُزءٌ كبير من واردات الخليج وصادراته غير النفطية. تمتلكُ إيران الوسائل والدوافع لتهديده، بدءًا من الألغام البحرية والغواصات، وصولًا إلى الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الباليستية. الممرّات البرية البديلة، مثل ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا، لا تزال في طور التخطيط. أما خطوط الأنابيب التي بُنيت لتجاوز المضيق فهي تفتقرُ إلى السعة الكافية والوفرة، وهي نفسها عُرضة للهجمات.

كلُّ ذلك ليس جديدًا على صانعي القرار في الخليج، لكنَّ الحربَ كشفت مدى قلّة وضآلة التقدُّمِ الذي أُحرِزَ نحو تحقيقِ مرونةٍ اقتصادية حقيقية. إنَّ سلاسل التوريد الفورية، والاعتماد على صادرات النفط والغاز، والاعتماد المفرط على طرق التجارة العالمية عبر ممرّات غير مستقرة، كلها تبدو اليوم كرهاناتٍ خطيرة.

ماذا إذن …الآن؟

أولًا، يجب على دول الخليج أن تقرَّ وتعترفَ بأنَّ الاستراتيجية القديمة –شراء الحماية الغربية، والتحوُّطُ من خلال التطبيع مع إسرائيل، والاستثمار في الأصول الأميركية لكسب النفوذ السياسي– لم تُحقّق الأمنَ الموعود والمكاسب المطلوبة. إنَّ قرارَ الولايات المتحدة بإجلاء قواتها من قاعدة العديد قبل الضربة الإيرانية، بدون تنسيقٍ مع السلطات القطرية، بعثَ برسالةٍ مُقلقة حول محدودية نفوذ دول الخليج في واشنطن.

ثانيًا، يجب أن يتحوّلَ مجلس التعاون الخليجي بسرعةٍ نحو الاعتماد على الذات والتعاون الداخلي بين دوله. القوة العسكرية الخليجية المشتركة، المعروفة باسم “درع الجزيرة”، ظلت حتى الآن هيكلًا رمزيًا ذا تأثيرٍ عملي محدود. لذا فهي بحاجة إلى أن تتحَّولَ إلى آليةِ دفاعٍ جماعي حقيقية موثوقة، لا سيما من خلال دمج نظام دفاعٍ جوي مُتكامل مشترك. لقد أظهرت قطر ودولة الإمارات بعض بوادر التقارب بعد الضربة، لكن هذا التقارُب يجب أن يمتدَّ إلى التخطيط الاقتصادي أيضًا.

إنَّ المرونة الحقيقية تتطلّبُ من دول الخليج الاستثمار بكثافةٍ في القدرات الصناعية المحلية، والمخزونات الاستراتيجية، والبنية التحتية اللوجستية وشبكات الإمداد. كانَ من المفترض أن يكونَ عالم ما بعد “كوفيد” قد حفّزَ هذا التحوُّل، لكنَّ الأزمةَ الأمنية الحالية تجعله أمرًا حتميًا. لا يقتصرُ التنويعُ على إضافة السياحة والتمويل إلى النفط؛ بل يجب أن يشملَ التصنيعَ الدفاعي، والأمنَ الغذائي، واستقلالية البنية التحتية الحيوية.

ولعلَّ الأهمَّ من ذلك كله هو أن تتبنّى دولُ الخليج سياسةً ديبلوماسية أكثر صرامةً وتوازنًا. لا يمكنُ أن يمرَّ طريقُ السلام حصريًا عبر واشنطن أو تل أبيب. ينبغي على مجلس التعاون الخليجي تعميق علاقاته مع مجموعةٍ أوسع من القوى -بما في ذلك دول “بريكس”- والدفع نحو حوارٍ أمني إقليمي حقيقي مع إيران. ربما أضعفت العزلة والاحتواء النفوذ الإيراني الإقليمي، لكن زعزعة الاستقرار التام داخل الجمهورية الإسلامية ستكونُ كارثية على الخليج اقتصاديًا واستراتيجيًا. فإيران المُنهارة، على غرار ليبيا، من شأنها أن تُعطّلَ التجارة، وتُثيرَ امتدادًا للتطرُّف، ومن المرجح أن تُشعِلَ أزمةَ لاجئين. يجب أن يكونَ الاستقرارُ، وليس الغزو، هو الهدف.

في الحقيقة، كانت حرب إسرائيل وإيران تجربة اختبار – ليس فقط لأنظمة الدفاع، بل لقدرة الخليج على الاستعداد للأزمات، والتفكير الاستراتيجي، وأساساته الاقتصادية. ربما تجاوزت المنطقة هذه الجولة بأضرارٍ سطحية، لكن الضربة المقبلة قد تكون أعمق بكثير.

أمامَ قادة الخليج خيارٌ واضح: إما الاستمرار في الاعتماد على افتراضاتٍ بالية قديمة وفاعلين وجهات خارجيين، أو اغتنام هذه الفرصة لصياغةِ نظامٍ إقليمي جديد أكثر مرونة. الوقتُ يمرُّ ويُداهِم، وفي الخليج، لم تكن المخاطر يومًا أعلى مما هي عليه الآن.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى