لا حربَ، لا سلام: الإبحارُ في مياهِ العلاقات الأميركية-الإيرانية العَكِرَة

كابي طبراني*

يَجِدُ الشرقُ الأوسط، وخصوصًاً المُثلّث المُتَقلِّب المُتمثّل بإيران وإسرائيل والولايات المتحدة، نفسه مرّةً أخرى عندَ نقطةِ تحوُّل. وبينما قد يكونُ الضررُ المادي الناجم عن الضربات والعمليات السرية الإسرائيلية والأميركية والإيرانية الأخيرة ملموسًا، إلّا أنَّ التحوّلات الجيوسياسية الأعمق أقل وضوحًا بكثير. لقد تدهورت قدرة إيران بشكلٍ واضح، لكن نواياها الإيديولوجية لا تزالُ قائمةً بلا شك. في غضونِ ذلك، يبدو أنَّ الولايات المتحدة تتأرجَحُ بين التكتيكات بدون أن تتمسَّكَ بغايةٍ استراتيجيةٍ واضحة. وفيما تُقيّمُ واشنطن وطهران خطواتهما التالية، يتّضِحُ أمرٌ واحد: بدونِ رؤيةٍ مُحَدَّدة وجبهةٍ مُوَحَّدة، سيُكتَبُ لنا البقاء في حالةِ جمودٍ معاملاتي – لا حربَ، لا سلام.

يَرسُمُ النقاشُ الأخير الذي استضافه نائب المُنسِّق الخاص لشؤون الشرق الأوسط سابقًا في وزارة الخارجية الأميركية، آرون ديفيد ميلر، مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، الجنرال ديفيد بترايوس، وخبير الشؤون الإيرانية كريم سجادبور، صورةً قاتمة للديناميكيات الحالية. رُغمَ النجاحات العسكرية الإسرائيلية والأميركية في كَبحِ القدرات العملياتية الإيرانية، لا يزالُ النظامُ في طهران مُتَماسِكًا ومُتَمَسِّكًا بالمبادئ الإيديولوجية التي ميّزته منذ العام 1979: العداءُ لأميركا وإسرائيل، واتِّباعُ نظامٍ إسلاميٍّ مُتشدِّد في الداخل. وعلى حدِّ تعبير سجادبور، تتصرّفُ إيران كأفراد “عائلة البوربون” (les Bourbons) العائدين إلى فرنسا ما بعد نابليون – “لم يتعلّموا شيئًا ولم ينسوا شيئًا”.

أوقفت طهران مواجهتها المباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس استسلامًا، بل لتعزيز نفوذها داخليًا. ويشملُ ذلك قمع المعارضين وزرع جنون الشك والإضطهاد من خلال اتهامات التجسُّس. في غضون ذلك، في المجال النووي، تُبقي إيران قَدَمًا في الديبلوماسية بينما تستخدم الأخرى لتجاهل الرقابة الدولية ذات المغزى، وتقليص التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإطلاق تهديدات مُبَطَّنة بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي تمامًا.

في هذا السياق، تُواجِهُ إدارةُ دونالد ترامب -أو أيُّ إدارةٍ مستقبلية- ثلاثة خيارات واسعة: مُواصَلةُ المفاوضات، أو استئنافُ العمليات العسكرية، أو البقاءُ عالقة في منطقة رمادية غامضة بين الحرب والسلام. حتى الآن، يبدو أنَّ المسارَ المُفضَّل هو مزيجٌ من الديبلوماسية الاستعراضية والردع العسكري، بدونِ تحديدٍ واضحٍ للنتيجةِ المَرجُوّة. هل هي نزعُ السلاح النووي؟ تغييرُ النظام؟ الاحتواء الإقليمي؟

يُشيرُ بترايوس إلى أنَّ الوقتَ قد حانَ للضغطِ على إيران، باستخدامِ النفوذ الحالي الناتج عن ضُعفِ موقف طهران الإقليمي والهيمنة العسكرية الإسرائيلية. إنه يتصوّرُ مسارًا يُجبِرُ إيران على تفكيكِ برنامجها النووي مُقابل تعاوُنٍ نووي مدني وإشرافٍ موثوق من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن هذا يَفتَرِضُ وجودَ طرفٍ عاقلٍ في طهران، مُستَعِدّ لإعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية على العقيدة الثورية – وهو أمرٌ لا يَنصَحُنا التاريخُ بالاعتمادِ عليه.

لا يزال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، البالغ من العمر 86 عامًا، مُتمسِّكًا بإيديولوجيته، ولم تُبدِ دائرتُهُ المُقَرَّبة أيَّ رغبةٍ تُذكَر في تقديمِ تنازُلاتٍ جادة. يشير سجادبور، مُحقًا، إلى أنَّ تنازُلات إيران السابقة غالبًا ما خضعت لضغوطٍ اقتصادية شديدة، كما رأينا خلال الاتفاق النووي في العام 2015 في عهد باراك أوباما. لم ينشأ هذا الاتفاق من إصلاحٍ إيديولوجي، بل من يأسٍ اقتصادي، فَرَضَهُ إجماعٌ عالمي وتهديدٌ وشيك بالانهيار الاقتصادي. يتطلّبُ تكرار هذا النفوذ اليوم جُهدًا دوليًا مُنَسَّقًا يبدو صعبًا بشكلٍ متزايد في ظلِّ نظامٍ عالمي مُمَزَّق.

علاوةً على ذلك، يجب على واشنطن أن تكونَ واقعيةً بشأن تغيير النظام. فعلى الرُغمِ من الاستياءِ العميق بين الإيرانيين العاديين، لا يزالُ النظامُ يحتكرُ العُنفَ المُنَظَّم. ولا يزالُ الحرس الثوري الإسلامي وميليشيا الباسيج وفيلق القدس موالين بشدّة، ومُستَعدِّين لاستخدامِ القوة الوحشية لقمع المعارضة. وكما يُحذّر بترايوس، لا تُوجَدُ مُعارَضةٌ منظَّمة وذات مصداقية مُستَعدّة لتولّي زمام الأمور في حالِ سقوطِ النظام. ينبغي أن يكونَ دَعمُ القوى الديموقراطية داخل إيران استثمارًا طويل الأجل، لا طريقًا مختصرًا لانهيار النظام.

هذا يقودنا إلى أحد أكثر جوانب السياسة الأميركية الحالية إثارةً للقلق: تآكل القوة الناعمة الأميركية. لقد أُقفِلَت مؤسّسات مثل إذاعة صوت أميركا وإذاعة أوروبا الحرة -التين كانتا من الأدواتِ الرئيسةً في كسب الحرب الباردة- إضافةً إلى تلفزيون “الحرّة”. في عصرٍ تُضاهي فيه حروب المعلومات قوة ضربات الطائرات المُسَيَّرة، فإنَّ هذا الجرحَ الذاتي يمنحُ القيادة الإيرانية حريةً أكبر في تشكيلِ الخطاب المحلّي. وكما يُلاحظُ سجادبور، فإنَّ خامنئي يخشى الثقافة والأفكار الأميركية أكثر من خوفه من قنابلها. إنَّ تمكينَ المجتمع المدني الإيراني، ودعم الحرية الرقمية، وتضخيم أصوات المعارضة، هي مكوّناتٌ أساسيةٌ لاستراتيجية احتواءٍ وتحويلٍ طويلة الأمد.

ومع ذلك، في خضمِّ كلِّ هذا، لا يسع المرء إلَّا أن يشعُرَ بأنَّ المنطقة عالقةٌ في حلقةٍ مفرغة. تفتقرُ الولايات المتحدة إلى رؤيةٍ متماسكة، وإيران عالقةٌ في دوّامةٍ ثورية. لذا، فإنَّ الخطرَ لا يَكمُنُ في التصعيد فحسب، بل في الجمود – حالةٌ من الجمود السياسي، حيث تكونُ الاختراقاتُ الديبلوماسية بعيدةَ المنال، والردعُ العسكري غير كافٍ، والمنطقة تترنَّحُ من أزمةٍ إلى أخرى.

إذا استمرَّ الجمودُ الإيديولوجي الإيراني بَعدَ خامنئي، فإنَّ احتمالاتَ التطبيع أو الإصلاح ستظلُّ قاتمة. ولكن إذا ظهرت قيادة ما بعد خامنئي برؤيةٍ تُعطي الأولوية للمصالح الوطنية على المصالح الثورية، فقد تتجذّرُ بذورُ التغيير -التي زرعتها عقودٌ من العزلة الاقتصادية والاضطرابات المدنية- أخيرًا. قد تكونُ تلك اللحظة على بُعدِ سنوات، ولكن يجب تمهيدُ الطريق الآن من خلال مشاركة استراتيجية مُتَّسِقة ووحدة دولية.

ما تحتاجه واشنطن، (والغرب عمومًا)، اليوم ليس مجرّد سياسةٍ خارجيةٍ قوية، بل سياسةٌ واعية. يجب أن تُحدّدَ هدفها النهائي مع إيران بوضوح -سواء كان ردعًا أو ديبلوماسية أو احتواءً- وأن تُوَفِّقَ بين أدواتها وفقًا لذلك. فبدون هذا الوضوح، سيستمرُّ العالمُ، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، في الترنُّحِ بين الأزمات، بلا سلام ولا حرب، ولا تَقَدُّم.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى