رَمزٌ أم حَلٌّ؟ رهاناتُ الاعترافِ بفلسطين

كابي طبراني*

في ظلِّ الحربِ ووَسَطِ انهيارِ النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، تكتسبُ الدعواتُ الدولية للاعترافِ بدولةٍ فلسطينية زخمًا متزايدًا. فرنسا، المملكة العربية السعودية، وعددٌ من الدول الأخرى تستعدٌ للاعتراف بدولة فلسطين، وهي خطوةٌ طال انتظارها لكنها لا تخلو من المخاطر. فرُغمَ القوة الرمزية الجذّابة للاعتراف، يبقى السؤال الأهم: هل يُمكنُ لهذا الاعتراف أن يُقدِّمَ شيئًا أكثر من مجرد لفتة أو مبادرة نظرية في وَجه واقع الدولة الواحدة العنصرية المُتفاقِم والمُتَعمِّق؟

إن الدافعَ وراء هذه الخطوة واضح. غزّة مُدَمَّرة، والضفة الغربية تتعرّضُ لهجماتٍ مستمرّة من قبل مستوطنين إسرائيليين يزدادون جرأةً بدعمٍ من قوات الأمن، وعملية السلام ماتت فعليًا إن لم يكن رسميًا. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يَرفُضُ بشكلٍ علني حلَّ الدولتين. أما إدارة ترامب، فترفضُ حتى فكرة قيام دولة فلسطينية من حيثُ المبدَإِ، وتقترحُ، بسخريةٍ واضحة، أن تُقام مثل هذه الدولة في “بلدٍ مسلم” آخر — في طرحٍ يتجاهلُ كليًا التاريخ والجغرافيا والواقع السياسي.

ومع ذلك، عادَ الاعترافُ إلى طاولةِ النقاش والواجهة. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن التزامه بالاعتراف بدولةِ فلسطين، والزخمُ يتزايد في أوروبا والعالم العربي. وهذا لا يعكسُ مجرّدَ مناورةٍ ديبلوماسية، بل يُعبّرُ عن غضبٍ عالمي مُتصاعِدٍ من ضمِّ إسرائيل الفعلي للأراضي الفلسطينية والتكلفة المتزايدة لدعم الولايات المتحدة للحرب على غزة — والتي تجاوزت 22 مليار دولار وأدخلت واشنطن في مواجهةٍ مباشرة مع إيران ووكلائها في المنطقة.

في هذا السياق، يبدو الاعترافُ بدولةِ فلسطين كاختصارٍ مُغرٍ في الديبلوماسية. فهو يُقدّمُ ردًّا ملموسًا على الدمار في غزة والغضبِ الشعبي المُتصاعِد، خصوصًا في الدول العربية. كما يمنح قادةً، مثل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فرصةً لاستعادةِ بعضٍ من المصداقية بعد سنواتٍ من مساعي التطبيع الهادئة مع إسرائيل. ويمنح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروف بعدم تقيّده بالأعراف ونظرته التجارية للسياسة، ورقةَ ضغطٍ للمساومة في “صفقة كبرى” مُحتَمَلة تشملُ إيران أو تحالفًا أمنيًا إقليميًا جديدًا.

لكنَّ الاعترافَ ليس عصا سحرية.

إنَّ الاعترافَ الرمزي، إذا لم يُرفَق بعواقب ملموسة وإرادة سياسية حقيقية، قد يضرُّ أكثر مما ينفع. فهو يخاطرُ بأن يُصبحَ غطاءً للتقاعُس (ورقة تين) — وسيلة للمجتمع الدولي ليشعر وكأنه يتصرّفُ بشكلٍ جيد، بينما في الممارسة العملية يتخلّى عن الفلسطينيين لنظام الفصل العنصري الراسخ. والأسوأ من ذلك، قد يُكرّسُ واقعَ الدولة اليهودية الواحدة التي لا يتمتّعُ فيها الفلسطينيون لا بالسيادة ولا بالحقوق المتساوية، وكل ذلك تحت مظلة ما يُسمى “التقدُّم الديبلوماسي”.

منذ حصولها على صفة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في العام 2012، انضمّت فلسطين إلى هيئاتٍ دولية مهمة مثل المحكمة الجنائية الدولية، مما عزّزَ مكانتها القانونية رُغمَ تضاؤل مطالبها الإقليمية على الأرض. وموجةٌ جديدة من الاعترافات قد تدفعُ هذا المسار قُدُمًا، وتُرسِلُ رسالةً مفادها أنَّ التوسُّعَ الإسرائيلي له كلفةٌ ديبلوماسية. لكنَّ الواقع اليوم ليس كما كان في 2012 — فالمستوطنات اليهودية توسّعت، والقيادة الفلسطينية ضعفت، والحملة العسكرية الإسرائيلية تُهدّدُ بجعل غزة غير قابلة للسكن والحياة.

فما الذي يعنيه اعترافٌ فعّال إذن؟

يجب أن يتجاوزَ مجرّدَ التصويت في الأمم المتحدة أو فتح السفارات. يجب أن يكونَ مشروطًا: بوقف الاستيطان، وإزالة البؤر الاستيطانية غير القانونية، وحماية المدنيين الفلسطينيين، وفتح مساراتٍ لبناء مؤسّساتٍ سياسية واقتصادية فلسطينية. يجب أن تكونَ للاعتراف أنيابٌ — أي أن يحملَ عواقبَ لانتهاك إسرائيل للقانون الدولي، ويشجّعُ إصلاح القيادة الفلسطينية.

إنَّ الخطرَ الحقيقي، في الواقع، يتمثّل في أن يتوقّفَ العالم عند حدِّ الاعتراف، فيكتفي بالرمزية بدون الجوهر. مثل هذه الخطوة لن تزيد إلّا من تمادي المتشدّدين الإسرائيليين، وتزيدُ من شعورِ الفلسطينيين بالعزلة والخذلان من نظامٍ دوليٍّ طالما وعدهم بالسلام ولم يقدِّم لهم سوى الحرب.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهُل الفرصة، رُغم أنها ضئيلة.

ترامب —المُتًقلِّب، غير المُتَوَقَّع، غير المُقيَّد بالتقاليد، والساعي إلى انتصاراتٍ في السياسة الخارجية— قد يرى في الاعتراف بفلسطين وسيلةً لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. لقد خالف رغبات إسرائيل في السابق، مثلما فعل عندما أبرم هدنة مع الحوثيين بدون التنسيق مع تل أبيب أو رفع العقوبات عن سوريا. وإذا قرّرَ تبنّي الاعتراف كجُزءٍ من استراتيجيةٍ إقليمية أوسع —تشملُ وقفَ إطلاق النار في غزة، وصفقةً نووية مع إيران، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية— فقد يشكل ذلك لحظةَ تحوُّلٍ حقيقية.

لكن هذه اللحظة تحتاجُ إلى أكثر من تقلّباتِ ومزاجِ رئيس. إنها تتطلَّبُ إرادةً دولية مُنَسَّقة. الهدفُ يجب ألّا يكون مجرَّدَ الاعترافِ النظري بالدولة الفلسطينية، بل إيجاد طريق يجعل قيامها مُمكنًا عمليًا.

إنَّ الاعترافَ بدولة فلسطين، إذن، يحملُ وعدًا وخطرًا معًا. إذا تمَّ بالشكلِ الصحيح، يُمكِنُ أن يُعيدَ تأطيرَ الصراع في ضوءِ القانون الدولي ويُوفّرَ إطارًا للعدالة والتعايُش. أما إذا تمَّ بشكلٍ سطحي، فسيكونُ مجرَّدَ وَهمٍ ديبلوماسي آخر — يُوهِمُ بالتقدُّمِ بينما تستمرُّ إسرائيل بقضم الأرض والاستيلاء عليها وتهجير الفلسطينيين.

على أيِّ حال، العالمُ يراقب. لم يَعُد كافيًا إعلانُ الدَعمِ لحلِّ الدولتَين بينما يجري تثبيت واقع الدولة اليهودية العنصرية الواحدة. يجب أن يكونَ الاعترافُ بدايةً لا نهاية.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى