واقِعُ لبنان المُمَزَّق بالحرب: لماذا يَجِبُ أن يبدأَ التعافي بالثقة؟
كابي طبراني*
لم تَنفَجِر حربُ 2024 في لبنان في فراغ، بل ضَرَبَت بلدًا يُعاني أصلًا من ستِّ سنواتٍ من الانهيارِ الاقتصادي والشللِ السياسي والتفكُّكِ الاجتماعي. وقد أدّى الدمارُ الذي خلّفتهُ الحربُ -من تشرين الأول (أكتوبر) إلى تشرين الثاني (نوفمبر) 2024- إلى تفاقُمِ الأزماتِ الهيكلية العميقة في لبنان، ودَفعِ البلاد إلى حافةِ الانهيار. الأضرارُ المادية واضحة: مبانٍ تحوّلَت إلى أنقاض، ومستشفياتٌ قُصِفَت، ومدارسُ أُغلِقَت. لكنَّ التكلفةَ الحقيقية -تآكل رأس المال البشري والاجتماعي للبنان- ستُقاسُ على مدى أجيال.
لم تَكُن هذه الحرب مُجرَّدَ حربِ قصفٍ وحدود، بل كانت حربًا وَجَّهَت ضربةً قاصِمةً للشعب اللبناني، وخصوصًا الفئات الأكثر ضعفًا. فَقَدَ أكثر من 4,200 شخص حياتهم، بمَن فيهم مئات النساء والأطفال. ونَزَحَ أكثر من 1.2 مليون مدني في غضونِ أيامٍ قليلة. تعطّلت مسيرةُ تعليمِ ما يقرب من نصف مليون طالب، ويُتَوَقَّعُ أن يُواجِهَ أكثر من 1.6 مليون شخص انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي. وفي المحافظات الأكثر تضرُّرًا، مثل النبطية والجنوب، وصلت مستويات سوء التغذية لدى الأطفال إلى حدود الطوارئ، إذ يُعاني أكثر من 50% من الأطفال دون سنِّ الثانية من فقرٍ غذائيٍّ حاد.
في غضون ذلك، تعرّضَ القطاعُ الخاص اللبناني -وهو العمود الفقري للتوظيف- للتدمير. فقد أغلقت حوالي 15% من الشركات الصغيرة والمتوسّطة أبوابها بشكلٍ دائم، واختفت 25% من الوظائف في القطاع الخاص. وفي المناطق التي استهدفتها الغارات الجوية الإسرائيلية مباشرةً، تضاعفت البطالة. وتفكّكَ نسيجُ الاقتصاد اللبناني، حيثُ تكبّدت قطاعاتُ الزراعة والسياحة والتصنيع خسائر فادحة. وأحرقت الحربُ الأراضي الزراعية، ودَمَّرَت بساتين الزيتون، ولوَّثَت التربة بموادٍ كيميائية مثل الفوسفور الأبيض. وهجر المزارعون أكثر من 12,000 هكتار من الأراضي الزراعية، ووصلت خسائر الحصاد إلى 84% في بعض المناطق. وفي قطاع التصنيع، استأنفت 22% فقط من الشركات عملياتها الطبيعية بعد وقف إطلاق النار، ولا يزالُ معظمها يكافحُ من أجل البقاء.
ستكونُ للأثر التعليمي وحده عواقب طويلة المدى. فقد أصبحت المدارسُ ملاجئ؛ وصارَ المعلِّمون لاجئين. وفي ذروةِ الأعمال العدائية، كان 69% من الأطفال خارج المدرسة، ولم يَعُد ما يقرُب من ثلثهم إلى المدارس حتى بعدَ وقف إطلاق النار الهش. هذه الانقطاعات في التعلُّم لا تُعرِّضُ سُبُلَ العيشِ المستقبلية للخطر فحسب، بل تزيدُ أيضًا من خطرِ عمالةِ الأطفال واستغلالهم. ويمتدُّ الضررُ إلى الصحة النفسية، حيث تُواجهُ الأُسَرُ النازحة الصدمات النفسية وانعدام اليقين وتفاقُمِ الفقر.
ومع ذلك، فإنَّ الأزمةَ ليست إنسانية فحسب، بل هي مؤسّسية أيضًا. كانت الدولة اللبنانية في حالةٍ فعلية من الارتباك والفوضى قبل بدء الحرب. بين العامين 2019 و2024، انكمشَ الاقتصادُ بنسبةٍ تُقارِبُ 40%، وتَجاوَزَ التضخُّمُ 6,000%، وفَقَدَت العملة الوطنية أكثر من 98% من قيمتها. وتخلّفَت الدولة فعليًا عن سدادِ ديونها السيادية، ولا تزالُ بعيدةً ومُبعَدة من الأسواق المالية الدولية. وانهارت الخدمات العامة -من الكهرباء إلى الصرف الصحي- وتآكلت الثقة في المؤسّسات العامة بشدة لدرجةِ أنَّ ثلاثةَ أرباع المواطنين أفادوا بعدم ثقتهم بحكومتهم.
على الرُغمِ من الدمار، قد تُتيحُ الحربُ فرصةً ضئيلة. ففي أوائل العام 2025، انتخب لبنان العماد جوزيف عون رئيسًا جديدًا للجمهورية وشكّلَ حكومةً برئاسة القاضي نوّاف سلام، منهيًا بذلك فراغًا سياسيًا طويلَ الأمد. يجب اغتنام هذه اللحظة من التحوُّل السياسي – ليس فقط لإعادة البناء، بل للإصلاح أيضًا. لا يستطيع لبنان تحمّلَ العودة إلى الوضع الراهن. يتطلّب التعافي المُستدام أكثر بكثير من مجرد إصلاحات البنية التحتية والمساعدات الطارئة. إنه يتطلّبُ عقدًا اجتماعيًا جديدًا قائمًا على الثقة والشفافية والتجديد المؤسّسي.
يُوضّحُ تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وشركاء آخرين، والذي صدر هذا الأسبوع،، هذه النقطة بوضوح: يعتمد المسار المُستقبلي على إصلاحاتٍ موثوقة ومُنَسّقة وشاملة. يجب أن تشملَ الأولوياتُ تدابيرَ مكافحة الفساد، وتوليدَ الإيرادات، واستعادةَ وظائف الحَوكَمة الأساسية. ولا يقلُّ أهميةً عن ذلك الاستثمارُ في الخدمات العامة، وخصوصًا التعليم والرعاية الصحية وأنظمة الحماية الاجتماعية التي يُمكنُ أن تحمي الفئات الأكثر ضعفًا من الصدمات المستقبلية.
التوقُّعات الاقتصادية تُثيرُ القلق. حتى لو اتُّخِذَت إصلاحاتٌ جريئة، فمن المتوقّع أن يظلَّ الناتجُ المحلي الإجمالي للبنان في العام 2030 أقل بنسبة 8,4% من ذروته قبل الأزمة في العام 2017. وهذا يُنذِرُ بأنه لا يوجدُ حلٌّ سريع. ولكن لا يوجدُ بديلٌ أيضًا. فبدون الإصلاح، من المتوقّع أن يستمرَّ انكماشُ الاقتصاد، وستتسعُ فجوةُ التفاوت، وسيفقدُ المزيدُ من المواطنين الأملَ في مستقبل بلادهم.
سيتطلّبُ تمويلُ هذا التعافي تعبئةً محلّيةً ودعمًا دوليًا، بعدَ احتكارِ السلاح والأمن وإعلان الحرب والسلام في يد الدولة وحدها. عندها، يجب تحفيز القطاع الخاص، الذي يُوظّفُ غالبية القوى العاملة في لبنان، على إعادة الاستثمار. ويُعَدُّ الحصولُ على الطاقة والتمويل والأسواق بأسعارٍ معقولة أمرًا أساسيًا. ولا يقلُّ أهميةً دورُ المغتربين والمانحين الدوليين، ولكن ينبغي أن يُقابَلوا بالمساءلة والشفافية في الداخل.
لقد نجا لبنان من حروبٍ سابقة، لكنّ الصمودَ ليس استراتيجيةً. ما يُميّزُ اللحظة الراهنة هو عمقُ الهشاشة المؤسّساتية في لبنان. لم تُدمِّر هذه الحرب المباني فحسب، بل كشفت عن عجزِ الدولةِ شبه التام عن حمايةِ شعبها، وتوفير الخدمات الأساسية، أو التخطيط للمستقبل.
الخيارُ أمامَ لبنان قاسٍ: التحوُّلُ أو التدهورُ المُستدام. لا يزال التعافي مُمكنًا، ولكن يجب أن يبدأ بأصعبِ عملٍ على الإطلاق – نزع السلاح من جميع الميليشيات المحلية والفلسطينية واستعادة الثقة. هذه ليست مهمة السياسيين فحسب، بل مهمة المجتمع المدني، وقادة الأعمال، والشركاء الدوليين، والمواطنين العاديين الذين ما زالوا يؤمنون بلبنانٍ أفضل.
الأملُ وحدهُ لن يُعيدَ بناءَ لبنان، وكذلك التشاؤم. إنَّ ما نحتاج إليه الآن هو العمل – العمل الجريء والصادق والمُستدام.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani