مُستَقبلُ عُمان المالي إلى أين؟
كابي طبراني*
مع تَحَوُّلِ الاقتصادات العالمية وتكيُّفها مع الوقائع التكنولوجية والجيوسياسية الجديدة، تبرُزُ سلطنة عُمان في العام 2025 كدولةٍ ترسُمُ مسارًا جريئًا ومدروسًا عبر قطاعها المالي. وفي صميمِ هذا التحوُّل، تبرزُ “رؤيةَ عُمان 2040″، وهي استراتيجيةٌ وطنية شاملة تهدفُ إلى التنويعِ الاقتصادي والاستدامة طويلة الأجل. ويُعَدُّ القطاعُ المالي محورَ هذه الرؤية، فهو لا يتطوَّرُ من حيث الحجم والتعقيد فحسب، بل يبرزُ أيضًا كنموذجٍ للإصلاح الإقليمي.
أصبحَ القطاع المالي العُماني -الذي كان يُنظَرُ إليه سابقًا على أنه محافظٌ تقليديًا- الآن بوتقةً للابتكار، مدفوعًا بالتحوُّلِ الرقمي والإصلاح المؤسَّسي واستراتيجيات النموِّ الشامل. وهذا التقدُّمُ ليسَ مَحضَ مصادفة، بل هو ثمرةُ نَهجٍ مُتكامِلٍ يجمعُ بين استشرافِ الحكومة، وإعادة هيكلة القوانين التنظيمية، وديناميكية القطاع الخاص، والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا.
لا يزالُ القطاعُ المصرفي في سلطنة عُمان حجرَ الزاوية في نظامها المالي، حيث يعكسُ النموُّ القوي في الائتمان والودائع اقتصادًا نابضًا بالحياة. ولكنَّ الأمرَ الأكثر إثارةً للإعجاب هو كيفية إعادة تشكيل البنوك لأنفسها. حيث تُجرى الآن ما يقرب من 87% من جميع المعاملات المصرفية في سلطنة عُمان رقميًا، مما يضع السلطنة في صدارة العديد من نظيراتها العالمية من حيث التبنّي الرقمي.
لم تُحسِّن هذه القفزة الرقمية الكفاءة فحسب، بل ساهمت أيضًا في إضفاءِ طابعٍ ديموقراطي على الوصول إلى الخدمات المالية. وتستفيدُ البنوك الرائدة، مثل بنك مسقط والبنك الأهلي، الآن من الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي لخدمة الفئات السكانية المحرومة والشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي قطاعاتٌ كانت مُهَمَّشة تاريخيًا في الخدمات المصرفية التقليدية. وقد أعادت هذه التقنيات تعريف تقييمات الائتمان، وحسّنت تجربة العملاء، وعزّزت الشمول المالي، وهو ركيزةٌ أساسيّة من ركائز “رؤية 2040”.
ومن التطوّراتِ الملحوظة الأخرى صعودُ التمويل الإسلامي، الذي انتقلَ من كونه مجالًا خاصًا ومُتخصِّصًا إلى كونه توجُّهًا سائدًا. وأصبحت مؤسّساتٌ مثل بنك نزوى الآن جهاتٍ فاعلة رئيسة في تمويل البنية التحتية ومبادرات الاستثمار الأخلاقي. وتشهدُ أسواقُ الصكوك وعروضُ التأمين التكافلي توسُّعًا، مما يساهم في تنويعِ الأدواتِ المالية في سلطنة عُمان مع التوافُقِ مع القِيَمِ الدينية وأهدافِ الاستدامة.
لا يقتصرُ الأمرُ على التفضيلِ الديني فحسب، بل يتعلّقُ بتقديمِ بدائل مالية فعّالة قائمة على القِيَم، تخدُمُ أجندةَ التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأوسع في عُمان.
ومن التطوُّرات الأقل وضوحًا، وإن كانت بالغة الأهمية، تحوّلُ أسواق رأس المال في السلطنة. فقد خضعت بورصة مسقط لإصلاحاتٍ لتعزيز سيولة السوق ومشاركة المستثمرين، لا سيما من خلالِ السنداتِ والصكوك.
ومن الأهمية بمكان أن يشهدَ العام 2024 ظهورَ هيئة الخدمات المالية، وهي هيئةٌ تنظيمية تُشرفُ الآن على أسواق التأمين ورأس المال. بقيادة الشيخ عبد الله بن سالم السالمي، رسّخت هيئة الخدمات المالية مكانتها بسرعة كمؤسّسةٍ تطلُّعية. ويُظهِرُ توافقها مع 97% من مبادئ المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية (IOSCO) -وهي معيار عالمي لتنظيم الأوراق المالية- نيّةَ عُمان ليس فقط أن تكونَ قادرةً على المنافسة إقليميًا، بل مُتكامِلة عالميًا.
كما يشهد قطاع التأمين، الذي غالبًا ما يَطغى عليه قطاع المصارف الأكثر بريقًا، نهضة. بفضلِ الطلبِ المُتزايد، لا سيما على التغطية الصحّية الإلزامية، حقّقَ قطاعُ التأمين في عُمان نموًا ثابتًا في الإيرادات والأرباح. فقد وسّعت نماذجُ التأمين المصرفي نطاقَ وصول العملاء، بينما يُسهِمُ ابتكارُ المنتجات في خلقِ فُرَصٍ سوقية جديدة.
مع مساهمةٍ بلغت أكثر من 5.8% في الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024، لم يعد التأمين قطاعًا ثانويًا، بل أصبح ركيزةً أساسيةً للاستقرار المالي والتخطيط المالي الشخصي للعُمانيين.
ومن أبرز الخطوات الاستشرافية في السنوات الأخيرة إطلاق البرنامج الوطني للاستدامة المالية وتطوير القطاع المالي (2023-2025). تربط هذه المبادرة الانضباط المالي مباشرةً بتطوير القطاع المالي، وتربط إدارة الدين العام وكفاءة الميزانية بثقةٍ أوسع في السوق. وقد وضعت وزارة المالية، بإشراف أمينها العام محمود بن عبد الله أحمد العويني، خارطةَ طريقٍ تُعزّزُ القدرةَ التنافُسية مع جذبِ رأس المال الخاص من خلالِ تحسينِ الحَوكمة والشفافية.
وبالتوازي مع ذلك، يُعيدُ جهازُ الاستثمار العماني صياغةَ المشهد الاستثماري في البلاد. ومن خلال استهدافه للخدمات اللوجستية والسياحة والطاقة المتجددة والتعدين، يُسهم الجهاز في تنويع القاعدة الاقتصادية للسلطنة. ويُظهرُ تعزيزُ المناطق الحرّة والحوافز التجارية نيّةً استراتيجيةً لتسخير الميزة الجغرافية للسلطنة وجذبِ الاستثمارِ الأجنبي المباشر ذي الأثر التنموي الحقيقي.
وبينما تتصدّر البنوك عناوين الأخبار، تلعب المؤسسات المالية غير المصرفية دورًا هادئًا ولكنه حيوي. بفضل مرونتها وابتكارها، تُتيح هذه المؤسّسات الوصول إلى منتجات الائتمان والتأمين لسكان الأرياف والشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. هذه الكيانات ليست مجرّدَ وسطاء ماليين، بل هي محرّكات رئيسة للشمول المالي، وغالبًا ما تتفوَّقُ على البنوك التقليدية في تلبية الاحتياجات المحلية.
لم تعد عُمان تعمل في فراغ. فالتعاونُ الاستراتيجي مع بورصات الأوراق المالية الإقليمية في أبوظبي والبحرين، بالإضافة إلى مواءمة اللوائح التنظيمية مع المعايير الدولية، تُرسّخُ مكانةَ السلطنة كمركزٍ ماليٍّ موثوقٍ وشفّاف وجذّاب.
إنَّ هذه الخطوات تُعتبرُ بالغةَ الأهمية. ففي عالمٍ مُترابط، تُعدّ المصداقية والثقة ركيزتَين أساسيتين. ومن خلال بناءِ الجسور بدلًا من بناء الجدران، تدعو عُمان العالم إلى النظرِ إلى قطاعها المالي كفُرصةٍ استثمارية مستقرّة، وليس كمخاطرةٍ في الأسواق الناشئة.
من ناحية أخرى، لا يخلو أيُّ تحوُّلٍ من عقبات. لا تزالُ عُمان تواجه تحدّيات – إذ تُعدّ أوجه القصور الهيكلية، والأنظمة القديمة، وانخفاض مشاركة المستثمرين الأفراد قضايا مُلحّة. ولكن يتمُّ التصدّي لهذه التحديات بشكلٍ مباشر من خلالِ مزيجٍ من التحديث التنظيمي، وحملات التوعية المالية، والحلول القائمة على التكنولوجيا.
الرؤيةُ تبدو واضحة، والمؤسّسات مُتناسقة، والزخمُ حقيقي. لم يَعُد القطاعُ المالي في عُمان يلحَقُ بالركب، بل أصبح يُحدّدُ الوتيرة.
في منطقةٍ تعتمدُ غالبًا على الثروةِ الهيدروكربونية، تَرسُمُ عُمان مسارًا مستقبليًا أكثر استدامة وشمولية. لا يقتصرُ قطاعها المالي على التكيُّف مع الاتجاهات العالمية، بل يُشكّلها بطرُقٍ فريدة تُناسب قِيَمها الثقافية وتطلّعاتها الاقتصادية.
إذا استمرّت عُمان على هذا المسار، فلن يدعمَ نظامها المالي الازدهار المحلّي فحسب، بل سيُصبحُ نموذجًا يُحتذى به للدول الأخرى التي تسعى إلى الإصلاح والابتكار والنموِّ الهادف.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani