قصة الإستقرار و… إنتفاضات الجزائر والسودان

فيما يسعى المحتجون في السودان والجزائر إلى الإبتعاد من أي تدخل خارجي في أزمة بلديهما، يقوم بعض الأنظمة العربية بتشكيل رسالة الإحتجاجات الأخيرة لصالحه.

إحتجاجات السودان: المحتجون أخذوا دروساً من إنتفاضات 2011

بقلم مارك لينش*

في السنوات الأخيرة نشرت مجموعة من الأنظمة العربية ومُحلّلي السياسات في الغرب والشرق الأوسط سرداً عن نهاية الإنتفاضات العربية، واستحالة التغيير من الأسفل والتداعيات الخطرة لذلك، وعودة الإستقرار الإستبدادي.
وفقاً لمثل هذا السرد، فقد فشلت إنتفاضات 2011 في جميع المجالات. في مصر، سرعان ما تم استبدال التحوّل الديموقراطي بعد الإنتفاضة بقيادة عسكرية تولّت السلطة من خلال انقلاب. وفي تونس غرق نظامها الجديد في مأزق سياسي. كما أدّت الإنتفاضات في ليبيا وسوريا واليمن إلى إراقة الدماء والرعب. في المقابل، لم يتم أي تحدّ شعبي في الملكيات أو أي إنتفاضة ضد أنظمتها. وبينما لا تزال الإحتجاجات على القضايا الإقتصادية وقضايا الحكم تحدث، إلّا أنها لا تُبشّر بجولة أخرى من الحمى الثورية. لقد تعلمت الأنظمة العربية كيفية منع موجات جديدة من الغضب الشعبي، في حين أن الجماهير العربية تعلمت عدم جدوى محاولة قلب الأنظمة.
ومع ذلك، فإن الإطاحة الأخيرة برئيسين حكما لفترة طويلة في الجزائر والسودان من خلال إنتفاضات شعبية شكّلت تحدّياً هائلاً لمثل هذا السرد عن تجدّد الإستقرار الإستبدادي. بالنسبة إلى الأنظمة والنقاد الذين يعملون على تعزيز مخطط العودة إلى النظام الإستبدادي الذي كان سائداً قبل العام 2011، كانت هذه الإنتفاضات الجديدة مفاجآت غير سارة، مما أثار مخاوف عميقة من جولة أخرى من العدوى الثورية. قلقة من أي تلميح لـ”ربيع عربي” جديد، قللت معظم وسائل الإعلام الإقليمية من أهمية هذه الإحتجاجات في الأيام الأولى، وأطّرتها كأحداث محلية خاصة.
وتغيّر هذا الأمر خلال الشهر الفائت. في الوقت الذي أثبتت الإنتفاضات قوتها المفرطة وتهديدها لبقاء الرئيسين عمر البشير في السودان وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر في الحكم، فقد تحوّلت السياسة الخارجية الإقليمية بسرعة نحو الجهود الرامية إلى كسب التحوّلات. وشجّع الصمت النسبي للولايات المتحدة دول الخليج على تولي زمام المبادرة. تحركت دولٌ مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، إلى جانب الدول القريبة مثل مصر، بقوة لنقل السلطة إلى أنظمة متعاطفة جديدة. لقد عملت مع النخب العسكرية للسيطرة على آثار الإنتفاضات، وقدّمت دعماً مالياً لمساعدتهم على توطيد السلطة مع عرقلة أي دور للإسلاميين أو غيرهم من الحلفاء المتصوَّرين لمنافسين مثل قطر. وهدفت هذه التحوّلات المُدارة إلى تسريح المحتجّين وتثبيط عزيمتهم، ومنع أي احتمال لانتشار الثورة أو التغيير الديموقراطي الحقيقي.
وقد صاحبت الدعم المادي والسياسي للأنظمة العسكرية التي تُدير هذه التحوّلات استراتيجية خطابية وبلاغية متماسكة. لقد تم تقديم مبدأ تفوّق الملكية لشرح سبب عدم انتشار الإحتجاجات – ويجب ألّا تنتشر – إلى أبعد من الجمهوريات المضطربة. تمكّنت ممالك وإمارات الخليج العربي من ترشيد الإنتفاضات في الجمهوريتين الرئاسيتين في الجزائر والسودان كدليل ليس على المطالب الشعبية العربية المستمرة للتغيير، ولكن كنتيجة لرفض الأنظمة غير الملكية. إن الديموقراطية، في هذا التفكير، ليست مجرد حلم مستحيل، لكنها في الواقع طموح دوني غير مناسب للمجتمعات العربية.
إن مبدأ تفوّق الملكية ورفعتها هذا كان سمة مُتكرّرة للخطاب العام وتحليل السياسات منذ العام 2011. إنه يُناقض الأدلة الوفيرة على التحدّيات الشعبية التي تواجه الملكية، مثل تلك الموجودة في البحرين والأردن والمغرب. كانت هناك أيضاً تفسيرات بديلة قوية لبقاء الأنظمة الملكية مثل قدرة الدولة والثروة النفطية والإفلات من العقاب من خلال التحالفات الدولية. وقد تدخلت الرياض وأبو ظبي بنشاط لتقديم المساعدات لتلك الملكيات للنجاة من الإحتجاجات الشعبية، والتي يُفترَض أنها لم تكن ضرورية لو كانت الملكية شرعية ومستقرة. الواقع أن المساعدات المالية والسياسية والإعلامية والعسكرية التي قدّمتاها إلى الممالك الحليفة خدمت لتصوير بقائها على أنه دليل على أن الملكية أكثر فاعلية في المجتمعات العربية الحاكمة.
لمنع انتشار الإحتجاج الثوري الذي كان أكثر ما يخيف هذه الأنظمة العربية، كان من الضروري بالنسبة إليها عزل الجزائر والسودان بتصويرهما كأمور محلية خاصة بدلاً من “إنتفاضات عربية”. وفي الواقع، فإن ما حدث في الجزائر والسودان نُظَر إليه على أنه إخفاقات المواطنين التي تعكس نقاط الضعف الهيكلية للجمهوريات العربية، فضلاً عن تمثيلها للشؤون الإفريقية حصرياً.
تتلاءم الجزائر والسودان مع نموذج رد فعل واستجابة الإمارات والسعودية على الإنتفاضات في الأنظمة الجمهورية في العام 2011. لم يُنظر إلى الإنتفاضات في هذين البلدين في شمال إفريقيا (مثل الحرب الأهلية المستمرة في ليبيا) على أنها تشكل تهديداً للأنظمة الملكية، ولكن كفرص لتوسيع وتعزيز النفوذ الإقليمي – من الناحية المثالية على حساب قطر. وقد عكس ذلك دعمهما للانقلاب العسكري في مصر في العام 2013 للإطاحة بحكومة “الإخوان المسلمين” المنحازة لقطر، وللإئتلاف المناهض للإسلاميين في تونس، ولفصائل مُعيَّنة داخل المعارضة المسلحة في ليبيا وسوريا.
إن إنتفاضة السودان، بمجرد إمتصاص صدمة التعبئة الجماهيرية فيها، يُمكن الترحيب بها كتمرد شعبي ضد “الإسلامي” عمر البشير. هذا التصوير حدّده ووضعه مع قطر في السرد الإقليمي السعودي والإماراتي، في حين كان ذلك يمحو سنوات من الجهود التي بذلتها السعودية والإمارات لجذب البشير كحليف، وأخذه بعيداً من الشراكة مع إيران، وإنشاء قواعد عسكرية في السودان. هذه الموازنة بين الإسلاميين وعدم الإستقرار هي أيضاً كيف برر وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش دعمه لتصعيد المشير خليفة حفتر المزعزع للاستقرار في ليبيا. شدد قرقاش على مخاطر “الميليشيات المتطرفة” على الإستقرار، في حين قال إن “الأولوية في ليبيا هي مواجهة التطرف/ الإرهاب وحل الأزمة التي طال أمدها ودعم الإستقرار”.
كما أن هناك مبدأ أساسياً آخر إعتمده السعوديون والإماراتيون هو أولوية الإستقرار على الديموقراطية أو التغيير الثوري. يتم تقديم الفوضى التي أعقبت ثورات 2011 – حتى عندما تفاقمت في جزء صغير من خلال تدخلهم – كمبرر للإنتقال البطيء المُدار الذي يتجنّب التغيير الديموقراطي الشامل. لقد برّر قرقاش أخيراً الإجراءات العربية في السودان عبر تغريدة على حسابه الخاص على تويتر باستخدام مصطلحات: “شرعي تماماً للدول العربية أن تدعم إنتقالاً مُنظَّماً ومستقراً في السودان … لقد مررنا بفوضى شاملة في المنطقة، ومن المنطقي أننا لا نحتاج إلى المزيد منها”. في الجزائر أيضاً، تم تصوير دعم الإنتقال بقيادة الجيش على أنه ضروري لتجنّب العنف أو الفوضى.
يتطلب هذا النهج وقف وإنهاء الإحتجاجات، من خلال مناورات مثل التغيير في أعلى النظام، وزيادة قمع المتظاهرين، والضخ السريع للمساعدات المالية، والوعد بالإصلاح السياسي. لكن في الجزائر والسودان، قام المتظاهرون بالرد على مثل هذه الجهود. لقد أظهروا فهماً واضحاً للدروس المُستفادة من العام 2011، من خلال التقيّد الصارم باللاعنف، والتصميم على الإستمرار في التعبئة، ورفض التحوّلات التي يقودها الجيش، والمطالبة بزيادة الديموقراطية بشكل سريع من دون دور قيادي للجيش، والعداء الصريح تجاه أي دور خليجي في نضالهم السياسي.
إلى هذه النقطة، يظل الشعبان السوداني والجزائري مُحتَشدَين ومُعبَّأين ومُوحَّدَين للغاية في معارضة تثبيت أنظمة جديدة يقودها الجيش. وسيتم اختبار قدرتهما على الحفاظ على هذه الوحدة والتعبئة من خلال الاستراتيجية التي تقودها السعودية والإمارات لتسخير الاضطرابات الشعبية واستعادة الإستقرار بشروطهما.

• مارك لينش هو زميل كبير غير مقيم في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط حيث يركز عمله على سياسات العالم العربي.
• الآراء المنشورة في هذا المقال تمثل آراء الكاتب وليس بالضرورة رأي “أسواق العرب”.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى