الصِّينُ أيضًا تَخوضُ مَعركةَ أوكرانيا

محمّد قوّاص*

تتأمّل الصينُ بارتياحٍ يوميّات أزمة أوكرانيا. يدفع التوتّرُ الشديد بين روسيا والغرب الضغوط عن “العدو الصيني”، وفق عقائد واشنطن وأولوياتها منذ باراك أوباما. باتت روسيا هي “العدو”، وراحت واشنطن تُناشِدُ بكين الوساطة. البنتاغون وأجهزة المخابرات يوجّهان البوصلة نحو موسكو والرئيس الروسي بما من شأنه التخفيف عن بكين وحزبها وحاكمها الضغوط التي اشتدّت وتائرها منذ تَبَوَّأ جو بايدن سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة.

تخوض الصين عن بُعد معركة روسيا الراهنة. وفي قمة فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في بكين ما يُفرِجُ عن موقفٍ واحدٍ يرقى إلى مستوى الحلف الاستراتيجي الذي لم يصل إليه البلدان في عزّ الحرب الباردة عندما كان حزبان شيوعيان يحكمان الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية.

يمنع تاريخٌ مُتوَتّرٌ وماضٍ من الشكوك المُتبادَلة تصديق نهائية التحالف الروسي-الصيني. البلدان يجتمعان، خصوصًا في هذه الأيام، على ضرورة التصدّي الجدّي للتحدّيات الواحدة. يسهل على بكين أن تَستَنتجَ أن المآلات التي سينتهي إليها صراع موسكو مع واشنطن وامتداداتها الغربية، لا سيما داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ستتداعى، سلبًا أو إيجابًا، على مستقبل الصراع المفتوح بين واشنطن وبكين.

لا تحشد الصين قوات تُهدّد تايوان على الرغم من المناورات الإستفزازية لسلاح الجو الصيني داخل أو على حدود أجواء الجزيرة. تتمتع بكين بسادية في تأمل الحشود الروسية العسكرية على حدود أوكرانيا. تُراقب باهتمام كيف يتطور ويتوتّر ويُرتَجَلُ ردّ فعل الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا والناتو. في بال بكين فضولٌ لمعرفة ما سيكون عليه العالم في حال قامت روسيا باجتياح أوكرانيا، ذلك أن في الأمر استكشافًا لما يُمكن أن يكون العالم عليه في حال قامت الصين باجتياح تايوان.

يخوض الزعيمان الروسي والصيني المعركة معًا للدفاع عمّا يجدونه حقوقًا تستحق هذا الدفاع. تدعم بكين مطالب موسكو بوقف توسّع حلف الناتو وتمدّده نحو البلدان التي ما زالت روسيا تعتبرها فضاءها الأمني الاستراتيجي منذ روسيا القيصرية انتهاءً بتلك البوتينية مرورًا بالمرحلة السوفياتية. تدعم الصين مطالب موسكو بضماناتٍ أمنية غربية يُراد في ثناياها الاعتراف لروسيا بسيادةٍ إقليمية تطال بلدانًا تُعيد التاريخ إلى ما قبل سقوط الإتحاد السوفياتي.

في دعمِها المُعلَن لموسكو، تدفع بكين باتجاه تفريخِ نظامٍ دولي يقي الصين ما يُهدّدها داخل ما تعتبره منطقتها الجيوستراتيجية. هي مناورة ترمي إلى وقف تحالف الغرب مع خصومها في جنوب شرق آسيا والضواحي. يُعارض بوتين تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة وأوستراليا وبريطانيا، ويعارض تمدد المخالب العسكرية الغربية داخل بحر الصين، ويعترف للصين بقضيتها الأولى: تايوان ليست دولة مستقلة بل هي جُزءٌ من الصين ولبكين السيادة عليها.

بالمُقابل تُدرِكُ واشنطن أن للأزمة الأوكرانية مع روسيا أبعادًا صينية مباشرة. ما بإمكانه أن يمثّل تنازلات لفلاديمير بوتين في موسكو لا يمكن إلّا أن يؤسس لتراجٍع أمام شي جين بينغ في بكين. وما يُمكن أن يكون رادعًا ضابطًا لطموحات روسيا سيبعث برسائل واضحة مباشرة بالاتجاه نفسه صوب الصين.

تٌوفّر الصين لروسيا مروحة من المواقف الداعمة في السياسة والعسكر والاقتصاد (عبر عقود الطاقة الطويلة الأمد مثلًا). والهدف هو إرباك الموقف الأميركي الغربي ودفعه إلى مزيد من التذبذب والحيرة. واشنطن بالمقابل حريصة في حساباتها الصينية على إنتاج مواقف والتموضع وفق ما من شأنه أن يخدم، من خلال المعركة مع روسيا، ورشتها الاستراتيجية الأولى ضد الصين.

والصين، التي لم تتخذ موقفًا داعمًا لاحتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا، ليست غافلة عن عقائد فكرية تُرَوَّجُ غربًا وكانت واضحة المعالم في عهد دونالد ترامب. تدعو تلك العقائد إلى أن تكون روسيا حليفًا لا عدوًّا في صراع أميركا ضد الصين. في ذلك أن ترامب كان في مزاجه الشخصي أقرب إلى بوتين في موسكو من أنغيلا ميركِل في برلين أو حتى إيمانويل ماكرون في باريس، ولا بأس في هذا السياق من هجاء جاستن ترودو في أوتاوا.

لم تَعُد تلك العقائد نافرة هذه الأيام، لكنها تجد لها سوقًا في أوروبا يُفسّر ذلك التعدّد الذي يشبه التشتّت في مواقف دولها. صحيحٌ أن قائد البحرية الألمانية الأميرال كاي أشيم شونباخ قدم استقالته إثر تصريحاته المُثيرة للجدل والتي أحرجت برلين وأغضبت كييف، إلّا أن في ما رآه من “حاجة إلى روسيا المسيحية في مواجهة الصين”، ما يُعبّر عن مدرسة تفكير غربي تعرفها بكين كما يعرفها بوتين تمامًا.
والعامل الصيني قد لا يكون بعيدًا من ذلك التطوّر النوعي السريع الذي اعترى مواقف واشنطن وحلفائها حيال أزمة أوكرانيا. تخلّصت واشنطن سريعًا من ذلّة لسان ارتكبها بايدن وأغضبت الرئيس الأوكراني فُهم منها تساهلًا مع “غزو جزئي” لأوكرانيا. دفعت واشنطن بقواتٍ إضافية نحو أوروبا، وأقامت جسرًا تسليحيًّا جويًّا مع أوكرانيا، وكذلك فعلت بريطانيا ودول أخرى. تصلّبت مواقف الناتو في بروكسل. وأجمعت العواصم الأوروبية بحزمٍ على رفض أي اختراق لحدود أوكرانيا. ولئن تختلف مواقف برلين وتنشط باريس على خط الحوار، فإن ذلك يتم تحت سقف رفضِ أيِّ غزوٍ روسي للأراضي الأوكرانية.

بوتين يسعى علنًا إلى شلّ صلاحيات حلف الناتو وكبح اندفاعاته، وبالنهاية وأد مبرر وجوده. الصين أيضًا تُمنّي النفس بقطع الطريق على “أوكوس” وما يشبهه من تمدد صوب “حدائقها”. هنا تصبح معركة أوكرانيا معركة وجود للنظام الدولي الذي قام على أنقاضِ الاتحاد السوفياتي، وهي من دون مبالغة معركة صينية بامتياز.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى