إلتباسُ العقل العربي بين الفكر والكُفر
الدكتور فيكتور الزمتر*
بينَ الإنسانِ وزمانه تفاعلٌ وتوادُدٌ، آفاقُهما من الإبداع والإنجاز آفاقُ ما في الذات من بصيرةٍ وطموحٍ، للمُساهمة في إغناء الإرث الحضاري، وفاءً للواجب تجاه حقّ البشرية بمصيرٍ دائم الدِعَة والعيش الرَّغيد.
إنَّ مُرورَنا اليتيمَ على هذه الفانية، من شأنه أنْ يُحفِّزَنا على جعل مرورِنا مُثقلًا بالعطاء، لا مُرورَ العالَة والعبء. فمن ثوابت الطبيعة خُضوعُها لِسُنَّة التطوُّر العاصي على الجمود. ومن أُولى موجباتِ التطوُّرِ التسليمُ بأنَّ “مَن لا يتقدَّمُ، يتأخَّرُ عن الركب”، على اعتبار أنَّ ألفَ باء التقدُّم يقتضي التأمُّلَ بحال الحاضر، على ضوء ما بلغَه العقلُ النافذُ من مُستجدّاتٍ، حسَّنت مستوى الحياة، في المحيط القريب والبعيد.
وهذا، بدوره، يستدعي مُراجعةَ القِيَم والقواعد المُعتمدة في السلوك المُجتمعي العام، كونها المسؤولة، في غالب الأحيان، عمّا آلَ إليه الحالُ، تراجُعًا أو تقدُّمًا. وهنا، لا بدَّ من الإعتراف بأنَّ تلك المُراجعةَ ليست بالأمر اليسير، لما تتطلَّبُه من شجاعة الإقدام على النقد والتحرُّر من الكثير من الأضاليل والتُرُّهات، التي لطالما ترسَّخت في الوجدان، على أنَّها من المُحرَّمات المُقدَّسة، التي لا تُمسُّ.
فالعقلُ الناقدُ يعكسُ عادةً شخصيَّةً مُستقلَّةً، لا تُذعِنُ بالمُطلق للموروثات التي لا تستوي مع منطق العقل السليم، وإن أُحيطت بهالةٍ من القُدسية. وغالبًا ما يُدانُ الناقدُ الموضوعيُّ للنمط العام الشائع، ويُرمى بأقذع نُعوت الهرطقة والتحقير، كالخارج والمُرتدِّ والرافض والجاحد ..
إنَّ مُجرَّدَ مُقارنةٍ عاجلةٍ لما يُعانيه العالمُ العربي من سقطاتٍ وطنيةٍ وقوميةٍ، بالرُغم ممّا يكتنزُه من مكامن الثروة والقوَّة، لا يسعُه سوى التسليم بأنَّ لا خلاصَ من تلك المُعاناة من دون التغلُّب على المحنة، التي تفتُك بالعقل العربي.
فشجاعةُ الإعترافُ بوجود تلك المحنة ضرورةٌ أوَّليةٌ مُلزمةٌ للقفز إلى خطوة التحرُّر من رواسب التضليل والتعمية، المُعتبرة الأقرب إلى التعاويذ منها إلى الإيمان الحنيف، إيمان الفضائل الواحدة عند جميع الأُمم والشعوب، مؤمنةً كانت أو مُلحدة. فَقِيَمُ الأخلاق والفضائل واحدةٌ، إن بقيت عَصِيَّةً على ألاعيب تجار الدين، لا تتبرقعُ بألوان الأعراق والديانات الحقَّة. فالصُدقُ والعدالةُ والتسامحُ والعفَّة والرحمةُ والتواضُع والتآخي والتراحُمُ … إنَّما هي فضائلٌ تُجمعُ عليها أُممُ الأرض. فمُنذُ زمنٍ، أَفَلَ زمنُ التبشير، وباتت نظرةُ البشرية للدين شأنًا شخصيًّا بحتًا، لا يقبل التدخُّلَ ولا الإجتهادَ ولا التأويل، منعًا لاستجرار الجدالِ والنُفورِ.
ولَكَم لعبت الأنظمةُ السياسيةُ، مُنذ قرونٍ، على فوالق الأعراق والأديان والمذاهب، تأبيدًا لاستمرارية تسلُّطها على رقاب العباد والبلاد، الأمرُ الذي جعلَ الفلاسفةَ والمُثقَّفينَ والنابغينَ يدفعون الثمن قتلًا وسجنًا وتهجيرًا بسبب أفكارهم الحرَّة، ما صحَّرَ الفكرَ في بلادهم، بقدر ما اغتنى الإغترابُ بإبداع الأدمغة المُهجَّرة.
تاريخُ العرب، شأنُه شأنَ تاريخ الغرب في العصور الوسطى، شاهدٌ على تكفير واضطهاد العديد من رجال الفكر والتنوير، على خلفية أُحجية التوفيق بين الدين والعلم. ولعلَّ الفيلسوفَ الأندلُسي الشهير ابن رُشد (1126-1198) يُعتبرُ أَحدَ أبرزِ فلاسفة العرب المغضوب عليهم، لإيمانه بسلطان العقل، تأثُّرًا “بمدرسة أرسطو المشائية”، أرقى محافل التيار العقلاني في ذلك العصر. فقد انتهى به المطافُ منفيًا، بعد إحراق كُتُبه الفلسفية واتهامه بالزندقة، في وقتٍ أقام له الغربُ كلَّ تكريمٍ لائقٍ بعطاءاته البارزة. ورُغم اعتقاده بأنَّ للشرع ظاهرًا وباطنًا، فقد كان يسعى إلى إضفاء التكامل بين الشريعة والفلسفة، مع وُجوب التأويل والإجتهاد، إذا ما تضاربَ ظاهرُ الشرع مع البرهان والعقل.
المؤسفُ أنَّ العقلَ العربي مازالَ يدور حول محورية الدين في الحياة، ومدى شرعية النقد والإجتهاد في تأويل سُنَنِه، بدون النَّظر إلى ما بلغته الأوساطُ العالميةُ من قفزاتٍ مُذهلةٍ، في مجالات التقدُّم، لأخذهم بالقول المأثور: “أَعْطوا ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه”.
لم يتَّعظْ الفكرُ العربي بالفكر الغربي، الذي أبدَعَ بفصلِه بين الدين، كإيمان، وبين اللّاهوت، كطقوسٍ. فمن طريق سياسة إعمال العقل والعلم، والتحرُّر من عَلْك الكلام والجدال حول أجناس الملائكة، توالت الإختراعاتُ الغربية وأقنعَت الشعبَ بتلك البدائل الملموسة، التي نقلته من الظُلمة إلى النور ومن العَوَز إلى الشبع.
لقد درجَ العقل العربي على تدجين ملكةَ الإبداع لديه، بالإعتقاد أنَّه ضمن مسار التقدُّم، من خلال تنعُّمِه بتجليّات ما أبدعَه العقلُ الآخر، في شتى المعارف والمجالات، بينما هو ليس أكثر من مُستهلكٍ لمنتوجات الآخرين.
أَلَمْ يحنْ الوقتُ بعد للعقل العربي أنْ يتساءل عن نسبة مساهمته في ما بلغَه تطوُّرُ العلوم، في الكيمياء والفيزياء والطب والهندسة… ما خلا التهيُّب من الحديث على ثورة الذكاء الإصطناعي، علماً أنَّه كان سبّاقاً في مجالاتها؟
أليس من الوجاهة الإعترافُ بالمسؤولية عن تهجير الأدمغة العربية، وبالتالي التساؤلُ عن السبب في إبداع تلك الأدمغة في المغترب وليس في الوطن الأُم؟
إنَّ تحديات العصر تستدعي من العقل العربي الخروج من عوازل الماضي، ورؤية الحاضر ببصيرة الفكر. وقد يكونُ من الضرورة بمكانٍ إجراء مراجعةٍ تقييمية لموروثاتنا، بُغية غربلتها لفصل غثِّها عن سَمينِها. فإذا أردنا أن يكونَ لنا موقعٌ تحت الشمس، فلا بدَّ من تحرير دماغنا من الطبيعة الإنفعالية الغرائزية، والإنتقال إلى الفكر الرشيد.
لقد اعتادَ العقلُ العربي على اجترار جدلية الحب والكراهية، وعلى معزوفة الإيمان والتكفير، في وقتٍ تمسُّ الحاجةُ فيه إلى التوقُّف عن إلقاء مسؤولية تعثُّرنا على الخارج. فالتغنّي بأمجاد غابر الأيّام لا يفيدُ بشيءٍ، إذ لا مكانَ للجمود في طباع الحياة، بقدر ما لم تعدْ نافعةً سرديةُ “ذرّ الرماد في العيون”، بدليل جفاف دموع “البكاء على الأطلال”.
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفيرٌ لبنانيٌّ سابقٌ.