الثَمَر الـمُنير في ثانوية “السفير”

هنري زغيب*

يَحدُث أَن أُدعى، آخرَ كل عامٍ دراسيّ أَو جامعيّ، إِلى احتفال التخَرُّج، مُشاهدًا أَو مُحاضرًا. وعادةً ما تتشابه هذه الاحتفالات بين مؤَسسة وأُخرى: منذ كلمات الترحيب، إِلى كلمة خطيب الاحتفال، إِلى تسليم الشهادات، إِلى إِطلاق القبَّعات في الهواء، وختامًا تبادُلٌ في التصوير.

كلُّ هذا الأَعلاه كان في بالي، حين اتَّصل بي الدكتور سلطان ناصر الدين مديرُ ثانوية “السفير” في الغازية (جنوبي صيدا)، طالبًا إِليّ أَن أَكون خطيبَ احتفال التخرُّج هذا العام، للدفعة السنوية الثامنة من المتخرجين: “فوج الضَوء والسَداد”. وحين شكرْتُهُ موافقًا، كان في بالي دافعان: توجيهُ التلامذة لِخروجهم من باب المدرسة، سفراءَها إِلى بوابة الجامعة، والوقوفُ خطيبًا على أَرض الجنوب وما بي من شغَفٍ للوقوف خطيبًا على أَرض الجنوب.

سوى أَنني، في الاحتفال، رأَيتُ أَكثرَ من المعتاد. وجدْتُني في واحةٍ تربويةٍ مميَّزة، بل فريدة في مناحٍ عدَّة. منها ما سجَّلَتْهُ “السفير” من نجاح كامل في الامتحانات الرسمية، وما علِمْتُهُ من المدير عن قيامه وتلامذته برحلات سياحية وثقافية داخلية إِلى عددٍ من مناطق لبنان، ومبادرته بزرع 1000 شجرة أَرز في قمة المكْمل، وتأْسيسه مركز “السفير” لذوي الصعوبات التعلُّمية والاحتياجات الخاصة من تَوَحُّدٍ وحالات أُخرى، تتمُّ معالجتها بتُؤَدةِ الاختصاصيين الأَكاديميين المكرَّسين علْميًّا من وزارة التربية.

لم يكُن الاحتفال روتينيًّا تقليديًّا عاديًّا، بل شهدْتُ فيه مفاصل تربوية راقية. منها ما قام به متخرِّجو هذا العام، وهُم “فوج الضوء والسَداد”، من تسليمِ “أَماناتٍ” خَمْسٍ إِلى متخرجي العام المقبل 2026 بشعارُهم “فوج الفكْر والإِبداع”. والخمس كانت: أَمانة “عَلَم لبنان”: “بيتي ومأْمني وعزِّي وكياني”، وأَمانة راية “السفير” منسوجةً بـ”الأَخلاق والعلْم والأَمان” و”حب الوطن والإِنسان”  تحت راية “العلْم والتمَيُّز”، وأَمانة “أَنا أَقرأ” لــ”تنمية الشغَف وبعْث الأَمل” في مدرسةٍ “تَقْرأُ وتفَكِّر وتَبني”، وأَمانة “التفكير خارج الصندوق” وهو “التفكير في النُور من خارج المأْلوف”في نمط “لا يعرف الجمود”، وأَمانة “الشُعلة” التي تتوقَّد بـ”نور الحق والحرية”.

لَفَتَني تركيزُ المدير في كلمته الشاملة على “التمكين والمبادرة”، وعلى “ثُنائيات” وجودية خاصة وعامة، تخلُص إِلى تأْمين رغد الإِنسان وهناءَته. منها اشتقَّ ثنائية الشعار لاحتفال هذا العام: “الضَوء والسَداد”: “في الضوء نرى وفي السَداد نصل. الضَوء من دون سَدادٍ إِبهارٌ ولا وُصُول، والسَداد من دون ضوءٍ عزْمٌ في عتمة”. ووسَّع الدكتور سلطان ناصر الدين فكْرته في كلامه على “فلسفة المتعلِّم” و”ثقافة الإِنتاج” – ومن نتائجها المتعدِّدة إِصدار 21كتابًا في “دار البَنان” هذا العام-، والخدمة المجتمعية – ومنها إِصدار كتاب للمكفوفين بطريقة “بْرايْلْ” -، ورعاية المهارات، ونماء قيمة التطوُّع وحب الطبيعة، وتنمية حب الوطن. وإِذ ختَمَ بأَن “هذا الاحتفال ليس للوَداع بل للإِيداع” بدا أَنه هيَّأَ تلامذته ليُوْدِعَهم رسالةً مثلى رعاهُم بها منذ صفوفهم الأُولى حتى وقْفة التخرُّج.

في ثانوية “السفير” لم أَشهَد تخرُّجًا بل عاينْتُ خمسين ضوءًا، كلٌّ منها اكتَنَزَ النور من مصادره ليحملَه إِلى مَن يحتاج النور. وإِنما هكذا مفهومُ يوم التخَرُّج: أَلَّا يكونَ باردًا لِمجرد تَلَقِّي الشهادة، بل حارًّا في حَمْلها مفتاحًا ذهبيًّا إِلى قاعة المحاضرات في الجامعة، كي تستَمرَّ حُبوبُ القمح في خُصُوبتها فتُطلعَ السنابل المثمرة، ويَغْنَى بها لبنان. ووحدَه هذا هو الثمَرُ الـمُنير.

في ثانوية “السفير” لم أَشهَدْ قبعاتٍ تطير، بل كوكبةً تلوِّح عاليًا بالشهادة في قَسَمٍ ودُعاء: القَسَمُ أَن يَحمل المتخرِّجون قداسةَ أَرض الجنوب إِلى كل أَرض تستقبلهم فيمنحونها حضورهم اللبناني، والدُعاءُ أَن تفتحَ لهم الحياةُ فضاءَ أَن يَفعَلوا ويُفَعِّلوا ويتفاعلوا في مجتمعهم أَينما حلُّوا، ليكونَ كلُّ قلب بينهم حاضرًا للنَبْض بلبنانٍ لا أَيّما وطن، بل منارة الضَوء الذي يَحمل لبنان العطاء والفرادة والإِبداع إِلى قلب كلِّ جيلٍ جديد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى