عَبقَرِيَّةُ الأُعجوبة اللبنانية

هنري زغيب*

ما إِن تَخَرْسَنَتْ لغةُ الحرب الإِقليمية في الـمِنطقة، حتى أَعلنَت إِدارةُ الملاحة الجوية في المطار زحمةَ الرحلات من جديد، وعودةَ الأَرقام إِلى الارتفاع في حركة الوافدين إِلى بيروت، وعودةَ أَرقام المغادرين إِلى إِيقاعها العاديِّ غيرِ المتهافت.

توازيًا، عاد الإِعلان عن الحفلات في مناطق لبنان، وعادت المهرجانات الفنية الكبرى تُؤَكِّدُ مواعيدَها، وتدعو روَّادَها إِلى أُمسيات غنائية وموسيقية معظمُها راقٍ يرقى إِلى معاييرَ دوليةٍ عُليا.

والمهاجرون الْكانوا متردِّدين قلَقًا من الأَحداث في المنطقة، خلَعُوا عنهم القلَق، وحجَزوا، وجاؤُوا، أَو هُم في طريقهم إِلينا. ومَن هَجُّوا من هنا قرَفًا أَو رفْضًا أَو يأْسًا من سُلوك الدولة ومضاعفاته، عاد بهم إِلينا حنينُهم لا إِلى الدولة بل إِلى الوطن، إِلى أَهلهم وبيوتهم ورفاقهم وذكرياتهم في ربوع أَرضهم الأُم.

وتدريجًا، عادت إِلى امتلائها المطاعم، وتزايدَت الحُجُز في الفنادق، وغطَّت رمالَ شواطئ لبنان أَجسادُ السابحين والمتشمِّسين، وانتعشَت قرى الاصطياف ومدُنُهُ وبلْداتُهُ ودساكِرُهُ وشوارعُهُ، فكأَنَّ ربيعًا لبنانيًّا غمَر البلادَ بعد انقضاء الربيع، وكأَنَّ الصيفَ في لبنان ربيعٌ آخَرُ بعد الربيع.

هي ذي الأُعجوبةُ اللبنانية. هو هذا حبُّ الحياة في قلْب اللبنانيين ووجدانهم ومقاومتِهم كلَّ ما يُوْدي بهم مجَّانًا إِلى الموت.

وليس غريبًا أَن يُعجَب العالَم بصمود اللبناني في أَرضه، وثَباتِه في الإِيمان بوطنه، وعنادِه للبقاء فيه أَو العودة إِليه. فهو فعلًا وطنٌ أُعجوبيُّ الظاهرة، فريدٌ في تَحَدِّيه الخوفَ والخطرَ والموت، واحتمالَ سنواتِ الحروب المتتالية وترميمِ الدمار إِلى عَمار والانتفاضةِ من بين الرماد نشوبًا إِلى البدء من جديدٍ بإِيمانٍ جديد وعزمٍ جديد وهمَّةٍ لا تلويها مَخَاطر.

هذا هو لبنان في التاريخ منذ كان للبنانَ تاريخ… هي ذي صخورُ نهر الكلب، وهي ذي قلاعُنا، وهي ذي صخورُنا التي علَّمت شعبنا مقاومَة المحتَلِّ عَبر العصور، وهي ذي أَرزتُنا ساطعةٌ في قلب علَمِنا بعظَمة رمزيَّتها في قلبه، وسيدةٌ على العُليا من تلالنا الأَنُوفة، تفتح قلبها للمؤْمنين من شعبنا، وتطرُد من فردوسها ذوي الولاءَات لخارج لبنان، وغيرَ المؤْمنين بلبنان اللبناني.

أَفهم أَن يكون البعضُ على غضَبٍ من تَلَكُّؤٍ أَو تباطُؤٍ أَو إِهمالٍ أَو أَيِّ سببٍ آخَرَ يدعو بعضَ شعبنا إِلى النُفُور، لكنه نُفُور من الدولة والسُلطة التي تسيِّرها، ولا علاقةَ له بجوهر الوطن الثابت. السلطةُ متغيِّرة، وسيرورةُ الدولة متغيِّرةٌ بتغَيُّر أَهل السلطة في الحكْم من عهدٍ إِلى عهد. لكنَّ كلَّ هذا زائلٌ عابرٌ، ولا علاقةَ له بالوطن الثابت السائر في الزمان والتاريخ والحضارة. من هنا أن لبنان السياسي متأرجح متخبط متقلب، بينما الحقيقي الثابت في أَيِّ رَدَحٍ من الزمان هو لبنان الحضارة. لبنان السياسة خُضُوع ولبنان الحضارة سُطُوع.

فلْنؤْمن بوطننا، شعبًا جبَّارًا على صورة أَجدادنا الجبارة، وأَرضًا خصيبةً بالرجال الرجال، وتاريخًا علينا حِيالَهُ مواصلةُ ما ورثناه من قيَم. وَلْنَدَع النَقَّ والتشاؤُم والسلبيات لِمَن لا يَرَون إِلَّا الأَسْوَد. فالحياةُ ترفضُ الـ”لا يُعجِبُهُم عجَب”، ولا تَليقُ إِلَّا بذَوي النفوس الكبيرة، والقلوب القوية، وجميعِ من يؤْمنون عميقًا عميقًا بعبقرية الأُعجوبة اللبنانية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى