أيُّها المُتَخَرِّجون: هذه رسالتي لكم
الدكتور فيليب سالم*
منذ ستين سنةً خلَت، كُنتُ مثلكم أنتظرُ استلامَ شهادتي. ومن يومها إلى يومنا هذا، كانت رحلة طويلة امتزجَ فيها الألم بالفرح، والنجاح بالفشل. وما جئتُ اليوم كي أُسدي النُصح لكم، بل جئتُ أبوح لكم بما تعلّمتُهُ من النجاح والفشل. لعلَّ في ذلك خيرًا لكم.
تعلمتُ أنَّ الإبداعَ في العمل ليس مُمكنًا إن لم تحبُّوا عملكم. فالحبُّ هو القوة التي تُحَوِّل العملَ من شيءٍ تقومون به ويبقى خارجكم، إلى شيءٍ تقومون به ويُصبحُ هو أنتُم. قال جبران في كتابه “النبي”: “العملُ هو الحبُّ تجسَّد فتراءى”. وأقول لكم: ليس مهمًّا نوعُ العمل الذي تقومون به، بقدْر ِما هو أَهمُّ: أن تَملَؤُوا هذا العمل بالحبِّ وتسكبوا فيه من نفسكم.
وتعلّمتُ أنَّ المعرفة هي القوة التي تحررنا من العبودية، فلا عبودية أشد وأقوى من عبودية الجهل. لذا، لا تقولوا “مَن علَّمني حرفًا كنتُ له عبدًا”، بل قولوا: “مَن علّمني حرفًا أعتقني من عبوديتي”. فليس كالمعرفة قوة تفكِّك السلاسل التي تُقيِّدكم. وكلُّما غصتم عمقًا في المعرفة، اقتربتم من الله. وكلما اقتربتم من الله، زالت الحدود التي تُفرِّق بينكم وأَصبحتم واحدًا.
وتعلّمتُ أنَّ الطريقَ إلى النجاح تمرُّ دائمًا بالفشل. لذا، مَن يخافون الفشل لا يتمكّنون من صنعِ النجاح. وقد يكون غريبًا على مسامعكم إذا قلتُ لكم إن الفشلَ كان أعظم معلِّم لي. وحدهم مَن لم يتقدّموا شبرًا واحدًا نحو القمة، لا يعرفون الفشل.
وتعلمْتُ أنَّ المالَ والنفوذَ والشهرةَ تُشكِّل من دون شك قوى كبيرة، إلَّا أنَّ التحدّي الأَكبر هو: كيف تُحوِّلون هذه القوَّة إلى قوَّة لكم لا قوَّة عليكم. كثيرون تمكّنوا من تسلُّق القمم، لكنهم تدحرجوا إلى قعرِ الهاوية، لأنهم لم يتمكّنوا من ترويضِ النجاح، فخسروا أنفسهم وضاعوا. وكي لا تضيعوا أنتم، تذكَّروا أنَّ التواضُعَ هو أعلى قمة يمكنكم الوصول إليها في داخلكم، وتذكَّروا أن نجاحكم لن يكونَ نجاحًا لكم إن لم يكن أيضًا نجاحًا لغيركم.
وتعلّمتُ أنَّ المرءَ لن يحصلَ على السعادة إلّا إذا تحرَّرَ من قشوره. لذا جئتُ أقولُ لكم إن لم تتحرَّروا من قشوركم، لن تصلوا إلى حقيقتكم. ومَن لا يصلُ إلى حقيقته لا يمتلكُ نفسه. ومَن لا يمتلكُ نفسه لا يمتلكُ شيئًا. لذا عبثًا تحاولون الوصول إلى السعادة، إن لم تنزعوا أقنعتكم عن وجوهكم، وتقفوا عُراةً أمام وجه الله.
وبالرغم من جميع الحروب والآلام ، إيَّاكم أن تنسوا أنَّكم أبناءُ حضارةٍ مُميَّزةٍ في الشرق، ومُميَّزة في العالم. هذه الحضارة التي جعلت من لبنان وطن الرسالة. هنا، في هذه البقعة الصغيرة من الأرض، تُعانق المسيحيةُ الإسلامَ، وتُعانقُ حضارةُ الشرق حضارةَ الغرب. وحده لبنان، في هذا الشرق كله، نموذج للتعدُّدية الحضارية.
نظرةٌ واحدة إلى هذا المشرق العربي، ماذا نرى؟ نرى صحارى من الفكر المجمَّد، وأنظمةً سياسيةً لا تحترم عظمة الإنسان الفرد وحريته. ونرى ثوراتٍ من التطرُّف الديني والعنفِ تُكبِّلُ العقلَ، وتدوسُ الإنسان، وتَعتدي على الله. غدًا، أيُّها الخريجون، يجب أن تتمرّدوا على هذا الواقع وتعملوا على تغييره.
أيها المتخرجون،
إذهبوا، واعمَلوا، وازرعوا في الأرض، وطاردوا أحلامكم. ولكن إيَّاكم أن تنسوا يومًا مَن أنتم، ومِن أينَ أتيتُم، ومَن هُم أهلُكم، وأيُّ أرضٍ في الأرض هي أَرضكم. على بُعد ثمانية آلاف ميل من هنا، وعلى مكتبي في مدينة هيوستن، غصن زيتونٍ من شجرتي، وزجاجة زيت من كرمتي، وحفنة تراب من قريتي. وهذه ليست لتُذكِّرني من أينَ أتيت، بل لتقول لي مَن أنا.
غدًا تَبدَؤُون مرحلةً جديدة من حياتكم، وستنشغلون في أعمالكم. ولكن ضعوا جانبًا كل يومٍ دقائق معدودة، وارفعوا الصلاة إلى الله، واشكروه على كلِّ ما أغدقَ عليكم، واطلبوا منه أن يحفظَ أهلكم، ويحفظ أصدقاءكم. ومن أجل لبنان ارفعوا الصلاة، واطلبوا منه “أن يتطلّعَ من السماء وينظر، ويتعهّد هذه الكرمة التي غرستْها يداه ويصلحها”.
تبارككم السماء. أما الأرض فهي تناديكم وتقول لكم: “أثبتوا في محبّتي كما ثَـبتُّ أنا في محبتكم”. وإن غادرتم هذه الأرض فخُذوا حفنةً من ترابها معكم.
أيُّها المتخرّجون: ليَكُن سلام الله عليكم، ولتكُن صلوات أهلكم معكم.
- الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث ومُفكّر وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمديرٍ فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
- كلمة يوجّهها الدكتور سالم إلى طلاب وخريجي المدارس والمعاهد والجامعات اللبنانية في مناسبة حلول موسم التخرُّج للعام 2025.