سياسةُ الإنكار… طريقةُ السياسيين للحياة

محمود بري*

أولئك السياسيون الذين يتحكّمون برغيف الناس ودوائهم ويومهم كلّه. الذين يعلمون علم اليقين أنهم مُرتكِبون ومجرمون وكريهون ومكروهون… كيف تراهم يعيشون مع أثقالهم هذه، وكيف يمكنهم تحمّل أنفسهم والسكوت على فظائعهم بحق الآخرين… من جيران، وأصدقاء، وأقارب، ومعارف ومواطنين من أبناء بلدهم، وبخاصة منهم أنصارهم ممن يُدافعون عنهم ويُخاصمون كلّ مَن يتعرّض لهم بكلمة أو بتلويحة يد أو حتى بتقطيبة وجه…!

كيف يتعايش هؤلاء مع ضمائرهم، وديعة الله فيهم، وهم يحرقون الناس والبلاد لمجرد إرضاء عنجهية أو إشباع ذئبية دموية بنت لحظتها؟

عن أتباعهم يسهل القول إنهم مُرَضى ومُدجّنون يعشقون عبوديتهم. وهذا توصيف مجازي قد يُرضي مخيّلة شاحبة، إلا أنه لا يحل الإشكال على مستواه الإنساني، إذ كيف لـ “إبن الله” الذي على مثال خالقه، أن تُعيد السلطة والمال صياغته شيطانًا يجدُ في تقويض عرش المقتدر الرحمن الرحيم… !

لا جدوى من هزّ نفوس هؤلاء الأتباع أو محاولة إنعاش الإنسان فيهم. فهم ضحايا… من الأحياء – الأموات… “زومبي” هذه الأيام.

موضوع الحيرة

لكن مقصد هذا المقام ليس هؤلاء المساكين السائرين في ارتهانهم  للعتم  والتخلّف…بل المقصود سادتهم.. “آلهتهم” الكذّابة: أولئك  السياسيون المتواصلون منذ تسلّقهم آمال الجماهير وركوبهم ظهور الذين صدّقوهم، وقد انتقلوا باسم كل ما يزعمون (من عقيدة وشعب ونضال وحرمان ووطنية وتغيير) إلى كراسي الحكم والتسلّط، وعملوا على  تطويبها لأقفيتهم.

هؤلاء الزعماء …الرؤساء… المسؤولون… الكل شيء في بلاد صارت أحذيتهم أغلى عندهم منها، وهم يبذلون الجهد للاعتياد على انتعالها بديلًا مُريحًا عمّا كانوا يملكونه من أحذية “معمّرة وضاغطة” نكّدت عليهم  أيام الفقر عندما كانوا يجدّون في استثمار قضايا الوطن والقوم ويضحكون على الناس.

هؤلاء المتسلّقون المتسلّطون هم موضوع الحديث والحيرة: تُرى كيف يعيشون لحظاتهم خارج أنشطة النهب وكنز الحرام ومُعاقرة الدَنس والإيعاز بارتكابات الشرّ والعيب؟… كيف يتحمل واحدهم إذ ينفرد بنفسه، أن يستذكر سحابة اليوم الذي انقضى، وما فعل خلاله وما ارتكب وما أجرم؟ كيف يمكنه تجاهل شتائم الناس واستنجادهم بالله عليه، كيف يتصرف حين يقرأ، ولو بنصف عين، ما كتبه بحقه مواطن منكوب أو ما عاناه بسببه عابر سبيل مكسور الخاطر…؟ ما تكون ردّات أفعالهم حين تطرق آذانهم آهات المكلومين وأنين المظلومين ونشيج المحرومين…!

أيّاً كان هذا المخلوق من الفصيلة المنتصبة “العاقلة”، ومهما كانت ظروف نشأته وتربيته وظُلمات شخصيته، فلا بد له من لحظة-لحظات يعود فيها إلى ضميره، يستعيد ما جرى معه خلال سحابة نهاره (وهذا يكون فوق إرادته ورغم أنفه)، فيُقلِّب الأحداث على وسادته وما شهده يومه… وهذا عادة من سيرة الإنسان.

فهل يفعل ذلك هؤلاء المُهيمنون على شؤون البلاد والعباد، وعن غاز الطبخ ونفط السيارة ووقود المولّد وطاقة المستشفى دواء الصيدلية، المتحكّمون بالعملة واللقمة والدمعة والآخ…؟

الجواب ليس سهلاً.

أحد معارفي، وهو هاوي محروقات وقد تحوّل إلى مكتب خدمات متجوّل في هذا المجال المستجد، اختصر لي الإجابة التي لطالما حيّرتني، بعبارة بسيطة أقنعتني، وهو ربع الأمّي الذي يرسم إسمه رسماً، فقال لي من بين أسنانه المتحفِيّة: إنهم يُنكرون. قلت لكنهم عاجزون عن الإنكار؛ ضحك بسخرية وقال: ليس هكذا… هم يمارسون الإنكار. يعيشون في الإنكار. ألا تفهم يا أستاذ؟

حاولت أن أستفهم منه كي أفهم عليه، لكن نداء المحروقات استدعاه، فهب مسرعًا إلى حيث الرزق، وعُدتُ إلى عُلبتي ومعي “فهّامة” وجدتها في جعبة الذكريات… قُلت أُشغّلها لعلني أفهم.

آلية للتكيّف

بشيء من الجهد والمتابعة تراءى لي أن الإنكار ــ وضده الإقرار، هو حالة غير اعتيادية تسبح فيه الحقيقة وسط هالة ضبابية من القصص والخيالات التي يرددها الشخص على نفسه، مما يعتبره علم النفس “آلية تكيّف” تتيح لصاحبها أن يعيش حياته بلا معاناة ضميرية من خلال القفز فوق الوضع الذي يُحرجه، فلا يقرّ بصعوبة الموقف ولا يقيم أيّ اعتبار لحقائق المشكلة، بل يستخف ويستهين بكل عواقبها ويتعامل معها كأنها غير قائمة البتّة. يعيش في “ملاذ إنكار ما يفعله”، وإنكار أنه أخطأ… وفي إنكار أنهم يكرهونه أو يشتمونه. هذا يتطلّب بالطبع قدرة توهّم عالية (تنمّيها الممارسة والتكرار) فيختبئ في تناسي وتهميش والتقليل من حقيقة وقيمة الوقائع التي تكون مزعجة له أو مُحرجة أو معاكسة أو غير مريحة.

وفي غمرة بحثي في ثنايا محركات المعارف على الشاشة لمعت في جبيني ذكرى أحد أساتذتي في علم النفس الهندي المسالم البروفسور “مركبا بهادور” وما كان يخبرنا به من خلف بسمته  المضيئة “إن الإنكار، ما لم يكن حالة مرضية عيادية تستوجب المعالجة كأي مرض آخر، فاعتماده لا يكون ناجمًا عن خللٍ معرفي بل عن قصور أخلاقي مقصود ومثير للقلق بشكل خاص… إذ يكون الهدف من ذلك النوع من القصور  المقصود، دفن المشاعر الضميرية بالارتكاب”. المعنى أن الإنكار هو آلية دفاعية، يلجأ إليها المرء حينما تواجِهُه حقيقة مريرة عن سوءٍ ارتكبه، فيختار أن يمحو هذه الصورة من جبينه ووعيه، ويتجاهل الأدلة القاطعة، في سبيل الحفاظ على رؤيته المريحة للعالم كما يفضل.

والحال أنه لطالما كانت أبرز مشاكل الشعوب في عالمنا اليوم، ما يعانيه بعضها من سياسيين يعيشون حالة إنكار، ما يجعلهم منفصمين عن الواقع ولا يعترفون به، فيُمارسون مهامهم الرسمية تحت خيمة الإنكار، غير سائلين عمّا تتسبب به مسالكهم وقراراتهم من أذى.

ولو عُدنا إلى وقائع الحياة لتبيّن أنه يمكننا ملاحظة تضاعف تمسُّك الناس بمعتقداتهم وأفكارهم المُسبقة، وإنكار ما يتناقض معها، عندما يواجهون أدلة دامغة تخالف هذه المعتقدات والأفكار. فحين يدرك أصحاب المراتب العالية أن نظرتهم المترسخة في أعماقهم عن أنفسهم والعالم، تتعرض للتهديد أو التشكيك، تنقلب نظرتهم إلى الحياة، فتصبح الحقائق عدوًّا أمامهم ينبغي القضاء عليه. وفي هكذا حالة تتَفوُّق قوة الرغبة والمعتقد،  ولو كان مُتوهّمًا،على قوة الدليل والبرهان.

ومن جملة كثيرين تحدثوا في هذا الميدان باحثان في علم النفس الاجتماعي – هما كارول تافريس وإيليوت أرونسون –  في كتابهما المنشور في العام 2007 بعنوان “أخطاء ارتُكِبت (ولكن لستُ مَن ارتكبها)” (Mistakes Were Made (But Not by Me)) ، حيث عمدا إلى  توثيق أعداد كبيرة من  التجارب التي أظهرت كيف أن “الناس يلوون أعناق الحقيقة لكي تتفق مع المعتقدات الراسخة في أذهانهم، وذلك بهدف تقليل التنافر بين ما يريدونه وما هو واقع”.

الإنكار والسياسة

والواقع أن الإنكار ليس ابتكارًا للبعض من ممارسيه من الجالسين على رقاب الناس في هذا العصر، بل هو شرّ قديم وشكل معقّد من أشكال المعرفة المثيرة للحيرة، يجري بناؤها على قاعدة ان “هذا الأمر (المزعج) لم يحدث مُطلقاً”.

وهنا يتجلّى التماهي بين علم السياسة وعلم النفس، ويتجسّد بالممارسة اليومية. فالسياسي الذي، وعلى الرغم من آثام فظيعة قد يكون ارتكبها بحق شعبه، يتوجه في مناسبات شتى إلى الرأي العام، من قمة حالة الإنكار التي يعيشها، فيُبدي تأثره بحال الناس ويناصرهم ويؤكد إخلاصه لهم ثم يحلل وينتقد وينصح ويعد، مُبدياً استعداده لتقديم نفسه فداء للوطن وللقضية وللشعب…، مُنكرًا بالكامل مسؤوليته الكبرى والأساسية عن سوء الوضع الذي ينتقده.

و أبرز ما يمكن ملاحظته في سلوكية السياسي من هذه الفصيلة، أنه يدأب في كل توجه جماهيري له، على استعادة وتكرار شعارات الأمس التي انطلق بها ومنها، كأنما التاريخ توقف عنده هناك. وكلما توجه إلى “جمهوره” تراه يتحدث كأن القوم أمامه كناية عن آذان تصدّق بلا نقاش، ونفوس تتقبل بلا تشكيك، وعقول تتفهم بلا تفكير، فيبدو وكأنه يهزّ عبثًا شجرة مثمرة لم تعد موجودة إلّا في مخيلته وعند أنصاره… وبفعل تهليل المستفيدين منه، تتعمّق عاهته السلوكية وتنعكس في علاقته بواقع الأمور وحقائق مُجريات الحياة، فيتركز اهتمامه على صناعة الوهج وبناء الأساطير حول شخصه بمعطيات غير موجودة، كأيّ صنف بائس من المهرّجين.

ولكي لا يبقى الكلام معلّقًا على سلّم المنطق الفكري، فبالإمكان تصويره بطريقة أقرب منالًا باختيار نبذة من أحداث الواقع تجسّده وتجعله أقرب إلى التشكّل كعبارة جمعية يمكن فهمها بسهولة. من ذلك المقولة التي اعتمدتها الصهيونية في صلب شعاراتها التسويقية (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وذلك  إنكارًا لفلسطين الأرض وللفلسطينيين الشعب ولحقائق التاريخ. وهم يواصلون الطَرق بهذا الإيقاع من خلال دعايتهم السياسية حتى ليظن الجاهل أنه أمام حقيقة لا مراء فيها.

وهذا ذاته موقف السياسي من مُعتمدي سياسة الإنكار. وهم كُثر في كل عصر وكل أوان.

  • محمود بري هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى