بايدن لا يحتاج إلى سياسة جديدة للشرق الأوسط  فسياسة ترامب كانت على حق في المنطقة

غالبية الإدارات الأميركية الجديدة تصدر عادة استراتيجية للأمن القومي ثم لا تلبث أن تضعها على الرف بسرعة. لكن وثيقة العام 2017 التي صاغها البيت الأبيض قدّمت مُخطّطاً جديداً لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو واحدٌ اتبعته إدارة دونالد ترامب عموماً، وقد تتبعه إدارة جو بايدن الجديدة ولا تُغيّر فيه الشيء الكثير.

أنطوني بلينكن: سياسته الخارجية تختلف جذرياً عن سياسة سلفه مايك بومبيو ولكن…

بقلم جيمس ف. جيفري*

كما هو الحال مع الرؤساء الأميركيين الثمانية السابقين، هَيمَنَت منطقة الشرق الأوسط على جزء كبير من السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب. وعلى الرغم من الحديث عن إنهاء “الحروب إلى الأبد” والتحوّل إلى آسيا، إلّا أن المصالح الوطنية الأساسية أعادت أميركا مراراً وتكراراً إلى المنطقة.

من نواحٍ عديدة، إختلفت أولويات ترامب في الشرق الأوسط قليلاً عن أولويات أسلافه: القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ودعم حلفاء الولايات المتحدة، ومحاربة الإرهاب، وتسهيل تصدير الهيدروكربونات. لكن من نواحٍ أخرى، فإن إدارته – التي عملتُ فيها كمبعوثٍ إلى كلٍّ من سوريا والتحالف لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”) – حقّقت تحوّلاً ملحوظاً في نموذج نهج الولايات المتحدة تجاه المنطقة. تابع كلّ من الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما حملات تحويلية في الشرق الأوسط بناءً على الإعتقاد الخاطئ بأن أميركا من خلال المشاركة سياسياً وعسكرياً مع دول هناك، يمكنها معالجة الأسباب الكامنة وراء الإرهاب الإسلامي وعدم الإستقرار الإقليمي الدائم.

على الرغم من صعوبة التكهّن بآهداف وآراء سياسة ترامب الحقيقية، إلّا أن إدارته اتّخذت مساراً مُختلفاً، وكانت النتائج واضحة. من خلال الإبقاء على الأهداف الأميركية محدودة، والإستجابة للتهديدات الإقليمية الوشيكة، والعمل بشكل أساس من خلال شركاء على الأرض، تجنّب ترامب المزالق التي واجهها أسلافه في الوقت الذي كان لا يزال يدفع بالمصالح الأميركية. على الرغم من كل الحقد الحزبي في النقاشات حول السياسة الخارجية اليوم، يجب على هذا النموذج الجديد – ومن المرجح أن يستمر – تحديد السياسة الأميركية. إنه يُوفّر الخيار الأفضل لاحتواء التحدّيات في الشرق الأوسط وإعطاء الأولوية للتحدّيات الجيوسياسية في أماكن أخرى.

استراتيجية جديدة

غالبية الإدارات الأميركية الجديدة تُصدر عادةً استراتيجية للأمن القومي ثم لا تلبث وأن تضعها على الرف بسرعة. لكن وثيقة العام 2017 التي صاغها البيت الأبيض قدّمت مُخطّطاً جديداً لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو واحدٌ اتبعته إدارة ترامب عموماً. بشكل عام، دعت الاستراتيجية إلى تحويل التركيز على ما يسمى بالحروب التي لا نهاية لها إلى منافسة القوى العظمى، في المقام الأول الصين وروسيا. بالنسبة إلى الشرق الأوسط، كان هذا المبدأ الأول يعني تجنّب التورّط في القضايا المحلية مع الإستمرار في التصدّي للمخاطر الإقليمية والمُهَدِّدة للحلفاء. عملياً، كان هذا الأمر بمثابة احتواء لإيران وروسيا مع القضاء على التهديدات الإرهابية الخطيرة.

كان المبدأ التالي – العمل جنباً إلى جنب مع الحلفاء في المنطقة بدلاً من اتخاذ إجراءات أحادية الجانب كالعادة – أكثر تعقيداً. لقد كان وسيلة وليس غاية. بناءً على هذا الهدف، سعى ترامب إلى إنهاء المشاركة المركزية للولايات المتحدة في حملة مكافحة “داعش” بعد سقوط الرقة، عاصمة التنظيم المتطرف في سوريا، في العام 2017، وخفّض عدد القوات الأميركية في أفغانستان، وتسليم المُهِمَّتَين إلى حلفاء محليين. أراد مستشاروه العسكريون أن تظل الولايات المتحدة مُلتزمة، بينما سعى القادة المدنيون الآخرون إلى دمج القوات الأميركية في سوريا والعراق في جهود ترامب الأوسع لاحتواء إيران. كان جزءٌ كبير من الصراع الداخلي للإدارة نتاجاً لهذين الهدفَين المُتنافسَين: الإنسحاب وإعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب أو التركيز على كلٍّ من الإرهابيين وإيران. في النهاية، تم الاتفاق على حل وسط معقول – إنسحابٌ كبير للقوات، مع تكريس دور القوات المتبقية فقط لمكافحة الإرهاب والمهام التي تُركّز على إيران.

من خلال الإبقاء على الأهداف الأميركية محدودة، تجنّب ترامب مآزق أسلافه بينما استمر في تعزيز المصالح الأميركية.

كجزءٍ من هذا المبدأ الثاني، أوضح ترامب أيضاً أنه سيدعم الأعمال العسكرية الإسرائيلية والتركية ضد إيران وروسيا في سوريا، وسيعتمد بشكل أساس على دول الخليج والأردن والعراق وإسرائيل للوقوف في وجه طهران. وبدورها ستكمل الولايات المتحدة هذه الجهود عسكرياً عند الضرورة، من خلال بيع الأسلحة واستهداف الإرهابيين أو معاقبة الرئيس السوري بشار الأسد على استخدام الأسلحة الكيماوية. ومع ذلك، كانت الإدارة حذرة بشكل عام من استخدام القوة العسكرية، خصوصاً عندما لا تُزهق أرواح أميركية. لكن عندما قررت التدخل، إستهدفت القوات الأميركية الأسد والجماعات الإرهابية والمرتزقة الروس والميليشيات المدعومة من إيران.

في مقابل تحمّل هذا العبء الإضافي، تجاهلت إدارة ترامب إلى حدٍّ كبير السلوك الداخلي لحلفاءٍ مُهمّين، بما فيها مصر وتركيا وحتى السعودية، على الرغم من مقتل الصحافي جمال خاشقجي. كما أوضحت الإدارة أنها ستدعم إسرائيل علناً عندما يتعلق الأمر بالقضايا الفلسطينية، مُغيِّرةً السياسات الأميركية والدولية القديمة بشأن عمليات نقل الأسلحة ومرتفعات الجولان والقدس والصحراء الغربية. أنتجت هذه السياسات إتفاقات إبراهيم التاريخية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية – في إشارة إلى أن المنطقة كانت تتحرّك إلى ما بعد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

التحدّي الإيراني

وضعت مهمة احتواء إيران النموذج الجديد لإدارة ترامب على المحك. كان ترامب يعتقد أن الإتفاق النووي الإيراني لعام 2015 الذي توسطت فيه إدارة أوباما كان صفقة سيئة. كانت مدته محدودة، واشتكى الحلفاء الإقليميون من فشله في معالجة سلوك إيران المُزَعزِع للإستقرار. في النهاية، بعد السعي إلى الحصول على شروطٍ أكثر صرامة من إيران لمدة 18 شهراً، إنسحبت الولايات المتحدة من الإتفاق. ومع أن طهران ردّت بزيادة نشاط التخصيب بشكل سريع، إلّا أنها لم تترك الإتفاق بشكل كامل.

على الرغم من خطابها المُعاكس لذلك، فإن السياسة اللاحقة للإدارة الأميركية لم تكن تهدف إلى تغيير النظام الإيراني، رُغم أن بعض صانعي السياسة كان ينظر إلى هذا الاحتمال. وبدلاً، تمّ تصميم حملة “الضغط الأقصى” التي أطلقها ترامب لإجبار إيران على التفاوض بشأن صفقة أوسع تشمل أنشطتها النووية وبرنامجها الصاروخي وسلوكها الإقليمي. كان للسياسة الأميركية تأثيرٌ حقيقي في كلٍّ من الإقتصاد الإيراني والمغامرات الإقليمية. على الرغم من استمرار طهران في تهريب النفط والغاز إلى خارج البلاد بأسعار مُخَفَّضة، إلّا أن العقوبات حدّت من المساعدة المالية التي يمكن أن تُقدّمها لحلفائها في العراق ولبنان وسوريا. لم تكن الصين ولا روسيا على استعداد لإنقاذ إيران، ولم يكن بمقدور الأوروبيين فعل الكثير للرد، على الرغم من معارضتهم لسياسة ترامب.

على الرغم من أن معارضي سياسة الإدارة جادلوا بأن إيران لن تُقدّم تنازلات موسعة أبداً، إلّا أن مطالب ترامب تختلف قليلاً عن مطالب إدارة أوباما المُبكرة. في كلتا الحالتين، كانت مواقف تفاوضية أوّلية متطرفة. أراد ترامب، مثل أوباما، التفاوض على صفقة، ولكن مع اختلاف جوهري: كانت أولوية ترامب المركزية هي ردع المغامرة الإقليمية لإيران والحدّ من قدراتها النووية قدر الإمكان – بغض النظر عن القيود الديبلوماسية. إذا كانت الصفقة مُمكنة ضمن هذه المعايير، فلتكن. على عكس إدارة أوباما، التي أعطت الأولوية للتوصل إلى اتفاق، رأى ترامب في إيران تهديداً شاملاً وأخضع جميع السياسات ضدها، بما فيها الملف النووي، لهذا الواقع. وبالتالي، فقد قلب الموقف، إما لفرض شروط مواتية أو إذا لم يكن كذلك، فإنه يضعف إيران بشكل خطير. لم يصدر الحكم بعد بشأن ما إذا كانت السياسة ناجحة. سيُقرّر الوقت وعملية صنع القرار في إدارة بايدن ما إذا كان “الضغط الأقصى” يفتح الباب أمام تسوية مستقبلية، أو يدفع إيران إلى الاقتراب من الإختراق النووي بعيداً من أي تسوية تفاوضية.

سوريا والعراق

أقرن ترامب حملته للعقوبات بمحاولة لمواجهة توسّع إيران الإقليمي – خصوصاً في سوريا والعراق. كانت إدارته سابقاً ورثت سياسة مُشَوَّشة من أوباما، وهي سياسة انتقدها حتى مستشارو الرئيس السابق لاحقاً: جزءٌ منها للإطاحة بالأسد عبر معارضة مسلحة، وجزءٌ ثانٍ يسعى إلى تسوية سياسية بوساطة الأمم المتحدة، وجزء آخر لهزم تنظيم “داعش” والقضاء عليه.

بحلول أواخر العام 2017، كانت إدارة ترامب طوّرت سياستها الخاصة تجاه سوريا، مرة أخرى على أساس مبادئ مواجهة التهديدات الإقليمية مع العمل مع الحلفاء والشركاء: إخراج إيران، وهزيمة “داعش” بشكل دائم، وحل الصراع المدني في البلاد. على الرغم من أن الجيش الأميركي قاوم إبعاده من مهمته لمكافحة “داعش”، فقد قام في النهاية بتخصيص قواته في الشمال الشرقي والجنوب لتوسيع سياسة سوريا من خلال حرمان حكومة الأسد وحلفائها من التضاريس والموارد.

بحلول العام 2020، كانت الولايات المتحدة بنت تحالفاً مرناً حتى في الوقت الذي سعت إلى تقليل التزامها المباشر. عملت تركيا وعناصر المعارضة المسلحة في سوريا مع أميركا لحرمان الأسد من نصر عسكري حاسم ، كما أدّت الضربات الإسرائيلية المدعومة من واشنطن على أهدافٍ إيرانية في البلاد إلى الحدّ من الخيارات العسكرية للنظام. في غضون ذلك، قادت الولايات المتحدة تحالفاً ديبلوماسياً دولياً كبيراً دعم الجهود السياسية للأمم المتحدة لحل الصراع، وعزل دمشق ديبلوماسياً، وسحق اقتصاد البلاد من خلال العقوبات. ومع ذلك، فإن النتيجة، مثلها مثل السياسة الأوسع تجاه إيران التي تناسب سوريا، كانت طريقاً مسدوداً. في غياب حلٍّ تفاوضي، من المرجح أن تستمر حرب الإستنزاف الفوضوية، والتي كانت نجحت ضد السوفيات في أفغانستان. ومع ذلك، سيتعين على الإدارة المقبلة أن تزن هذه المزايا مقابل المخاطر الأخرى، بما فيها التكلفة على المدنيين.

لقد وضعت مهمة احتواء إيران النموذج الجديد للإدارة على المحك.

مما لا يُثير الدهشة، أن السياسة الأميركية وضعت واشنطن على خلافٍ مع موسكو، التي رأت أن سوريا هي المكان الرئيس لإعادة الإنخراط ديبلوماسياً وعسكرياً في الشرق الأوسط. تماشياً مع هدفها المُتمثّل في مواجهة تهديدات الحلفاء الإقليمية، ردّت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً على النشاط العسكري الروسي والمرتزقة في شمال شرق سوريا وساعدت تركيا على صد التوغّلات السورية-الروسية المشتركة في شمال غرب البلاد. لكن معارضة تركيا لشريك واشنطن الكردي السوري المحلي في الشمال الشرقي، “قوات سوريا الديموقراطية” -المُرتبطة بحزب العمال الكردستاني- عقّدت تلك العلاقة. أدّى هذا التوتر إلى وقوع حادثة عسكرية وديبلوماسية وجيزة في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وعلى الرغم من أن واشنطن وأنقرة قد نجحتا في حلّ الأزمة، إلّا أن الأمر أوضح صعوبة العمل من خلال الشركاء – سواء كانوا “قوات سوريا الديموقراطية” أو الأتراك – الذين قد تتجاوز أجنداتهم ما يمكن أن تدعمه واشنطن.

في العراق، حاولت الولايات المتحدة عزل جهودها العسكرية ضد “داعش” عن الصراع الأكبر ضد إيران. ومع ذلك، بدأت الميليشيات المحلية الموالية لطهران تصعيد حملتها ضد القوات الأميركية. ورد ترامب في النهاية، وقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، الذي لا يُمكن تعويضه. وردّت إيران بشن هجوم صاروخي باليستي على قاعدة أميركية لكنها فشلت في إلحاق خسائر جسيمة. كانت النتيجة انتصاراً واضحاً، وإن لم يكن نهائياً، للولايات المتحدة. لا تزال القوات الأميركية في العراق، لكن الميليشيات مثل “كتائب حزب الله” لا تزال تُشكّل تهديداً. لا يزال العراق يمثل الجبهة الأكثر اضطراباً بين واشنطن وطهران.

نموذجٌ للمستقبل

على مدى السنوات الأربع الفائتة، حققت إدارة ترامب نجاحَين رئيسيين في الشرق الأوسط – إتفاقات إبراهيم وتدمير الخلافة الإقليمية ل”داعش” في العراق وسوريا. كما نجحت في مواجهة التوسّع الروسي الإضافي في سوريا وأماكن أخرى، وإدراك وفهم تهديد إيران الدائم والمُتعدّد الأوجه للإستقرار الإقليمي، وحشد تحالف لمواجهة سلوك طهران الخبيث. على الرغم من أن ترامب لم يستطع حل التحدّي النووي الإيراني، فإن أوباما هو الآخر لم يستطع أيضاً. كانت حدود الإتفاق النووي الأصلية بشأن التخصيب الإيراني غير المُقيّد سوف تتلاشى بسرعة خلال ما يزيد قليلاً عن خمس سنوات.

وفقاً لمعايير الشرق الأوسط الأخيرة، كل هذه الأشياء معاً هي نتيجة سياسية محترمة. تمكّن ترامب من تقليل الإلتزامات والنفقات الأميركية المباشرة، كل ذلك أثناء العمل بشكل وثيق مع الحلفاء الإقليميين. ومع ذلك، قد يكون من الصعب على الإدارة المُقبلة الحفاظ على هذا النهج مع إعادة التركيز على الاتفاق النووي الإيراني. في الوقت الحالي، يريد العديد من الحلفاء الإقليميين استمرار الضغط الأميركي على اقتصاد إيران ومغامراتها الإقليمية أكثر من عودة فورية للإتفاق. سيحتاج بايدن إلى موازنة تلك الأولويات بعناية.

  • جيمس ف. جيفري هو رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون. عمل مسؤولاً في السلك الديبلوماسي في سبع إدارات أميركية، كان آخرها مبعوث أميركا إلى سوريا ومبعوثًاً خاصاً لدى التحالف الدولي لهزيمة “داعش”.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” بالعربية توازياً مع نشره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” (Foreign Affairs) الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى