لماذا لن تنضم أنقرة إلى الإتحادِ الأوروبي؟

بعدما كانت تركيا متحمّسة للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي منذ ثمانينات القرن الفائت، فقد تضاءلت راهناً مساعيها فجأة. فمنذ العام 2016 توقّفت مفاوضاتها مع بروكسل، بعدما اتّهمتها بانتهاك حقوق الإنسان وانتقاد جوانب القصور في سيادة القانون في البلاد. والسؤال الأن هل تريد تركيا حقاً الإنضمام إلى الإتحاد؟ وهل ما زالت دول الإتخاد تريدها بين أعضائها؟

الرئيس إيمانويل ماكرون: أول المعارضين لدخول تركيا إلى الإتحاد الأوروبي

بقلم السفير يوسف صَدَقة*

عندما كنتُ سفيراً في نيقوسيا، حضرتُ في أواسط العام 2017 ندوةً فيها حول قبرص والاتحاد الأوروبي، ألقى خلالها أحد السفراء الأوروبيين كلمة، أكّد فيها أنه بخلافِ السياسة التركية الرسمية، التي تُنادي بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإنّ مَن يُتابع السياسة الداخلية والخارجية التركية يستنتج أنّ أنقرة لا ترغب فعلياً في الانضمام إليه.

الواقع أن الأنشطة التركية المثيرة للجدل، مثل التنقيب عن الغاز شرق المتوسط وشراء نظام الدفاع الروسي أس- 400 رُغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والعملية العسكرية في سوريا التي تستهدف الأكراد، قد زادت من مسافة التباعد بين تركيا والاتحاد، وأوصلت العلاقات بشأن تحديات العلاقات الأوروبية-التركية، إلى مستوى قياسي من التدهور.

وفي خطوة لا تبدو مفاجئة، قالت اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي في تقريرها السنوي في العام الفائت أن الحكومة التركية تُقوّض اقتصادها وتُقلّص الديموقراطية وتُدمّر المحاكم المستقلة، ما يجعل محاولة أنقرة للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي أبعد من أي وقت مضى.

من هنا، تطرح قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إشكالية بين الجانبين، حيث أنّ الأولى ترغب من دون حماسٍ في الانضمام في الوقت الحاضر، بينما كانت في الماضي القريب أكثر حماساً وتبذل جهداً أكبر للإنضمام.

عوائق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي

تظهر في المناقشات حول دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي عقبات عدة، منها مبدأ الهوية الثقافية لتركيا، كبلد مُسلم. فالأوروبيون يطرحون أسئلة عدة في مقاربتهم لتركيا، منها:

  • هل تركيا هي جزء من القارة الأوروبية من الناحية الجغرافية؟
  • هل المجتمع التركي يتماشى مع الهوية الأوروبية؟
  • هل تحترم تركيا حقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية؟
  • تركيا لا تنتمي إلى القارة الأوروبية، بمجرّد وجود مدينة إسطنبول على البوسفور، بل هي أمّة آسيوية في أوروبا.

ولكن، إذا تمّت دراسة موضوعية للتاريخ المشترك، فإنّ العلاقات بين تركيا وأوروبا تعود إلى مئات السنين، رُغم الخلافات في محطات تاريخية متعددة. ولكنّ الرفض الأوروبي لتركيا، يدخل في إطار الهوية الثقافية والإسلامية التركية. ويدّعي بعض المفكرين الأوروبيين أنّ تركيا لا تنتمي إلى الإرث المسيحي – اليهودي لأوروبا. علماً أنّ قضية الإرث المسيحي–اليهودي هي نظرية مُستَحدَثة لإرضاء اليهود، بينما في الحقيقة إنّ الإرث الأوروبي هو إرثٌ يوناني–مسيحي. ولا يمكن نفي دور العرب في النهضة الأوروبية من ابن خلدون إلى ابن سينا وابن رشد…

وقد اعتبر بعض المفكرين الأوروبيين  أنّ الأساس هو احترام حقوق الإنسان والديموقراطية وليس الجغرافيا والثقافة.

المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي

بدأت تركيا التفاوض مع الاتحاد الأوروبي للإنضمام إليه كدولة عضو بعد تقديمها لطلب رسمي بالانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية (المعروفة أيضاً بالسوق الأوروبية المشتركة)، قبل أن تتحوّل لتصبح الاتحاد الأوروبي في 14 نيسان (إبريل)1987. هذا وقد وقّعت تركيا في العام 1995 على اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، الذي اعترف بتركيا كمرشّح للعضوية الكاملة في قمة هلسنكي للمجلس الأوروبي في 12 كانون الأول (ديسمبر) 1999.

بدأت المفاوضات المتعلقة بحصول تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2005. وقد اتسمت المفاوضات بالبطء الشديد، حول مناقشة الفصول الـ35 المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد.

وقد توقفت مفاوضات الانضمام في العام 2016 حيث اتهم الأوروبيون أنقرة بانتهاك حقوق الإنسان، بالإضافة إلى التقصير في الحوكمة والديموقراطية.

وقد أضرّت الحملة القمعية التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان، عقب محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة في العام 2016، بعلاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، حيث أشار الرئيس التركي إلى موافقته على إعادة عقوبة الإعدام لمعاقبة المُتوَرّطين في الانقلاب.

وفي العام 2017، أعلن مسؤولو الاتحاد الأوروبي أنّ السياسات التي تنفذها تركيا تنتهك معاهدة كوبنهاغن، التي تؤهل الدول للإنضمام إلى الاتحاد.

وقد صادقت لجنة برلمانية أوروبية في 20 شباط (فبراير) 2019 على تعليق محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ممّا أثار انتقاداً كبيراً من أنقرة. وقد صرّح مجلس الشؤون العامة في الاتحاد الأوروبي في 26 حزيران (يونيو) 2019 بأنّ المجلس يلاحظ تحركاً تركياً بعيداً من الاتحاد الأوروبي، وإنّ المفاوضات مع تركيا وصلت إلى طريقٍ مسدود.

وعليه، بالإضافة إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان، تطرح أوروبا شروطاً على تركيا ومنها فصل الدين عن الدولة، الإعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، وحقوق المرأة، وحقوق المثليين.

وما يصعّب دخول تركيا أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي قاعدة الموافقة بالإجماع، حيث تواجه تركيا معارضة و”فيتو” من اليونان وقبرص وبعض الدول الأوروبية المتوسطية.

إبتعاد تركيا عن مبادئ الاتحاد الأوروبي

مارست تركيا في السنوات الأخيرة سياسة الاستعلاء إزاء أوروبا والعالم، سواء في التهديد بإرسال المهاجرين السوريين عبر اليونان، أو في التدخل المباشر في شمال سوريا وفي العراق.

وقد تدخلت في ليبيا عسكرياً في سابقة تعود إلى الإمبراطورية العثمانية، مُشَكِّلةً تحدٍّ مباشر لدول أوروبا المتوسطية. كما مارست في أواخر 2020 تحدياً للنفوذ الفرنسي في شرق المتوسط لا سيما في لبنان. كما أنّ التغلغل التركي في إفريقيا يشكل تحدياً للنفوذ الفرنسي التقليدي في القارة السمراء. وقد كان للمشاركة التركية الدور الحاسم في انتصار أذربيجان على أرمينيا، في نزاع ناغورنو-كرباخ، واستعادة أذربيجان أراضيها المحتلة. وهذا ما ثبّت موطئ قدم لتركيا في جنوب القوقاز منذ العام 1918.

وقد زاد أردوغان من تحدّيه للغرب المسيحي، حيث ألغى قراراً عمره 85 عاماً في اعتبار كنيسة “آية صوفيا” متحفاً، ليحوّلها في 24 تموز (يوليو) 2020 إلى “جامع آية صوفيا الكبير”، ولم يُبالِ بالانتقادات الغربية والروسية.

من “صفر مشاكل” إلى أم الشاكل

تبنّى حزب العدالة والتنمية، نظرية “صفر مشاكل مع الجيران” والتي صاغها الأكاديمي داود أوغلو، وحاول تنفيذها عندما تولّى رئاسة الوزراء، لكنه لم يوفّق في تبنّي هذا الشعار، لأنّ موقع تركيا هو في عين العواصف، وبدا أنّ أوغلو يُمثل سياسياً سوريالياً، أكثر منه براغماتياً في مرحلةٍ معينة.

إستند أردوغان في تنفيذ سياسته الخارجية، إلى القوة العسكرية التركية، وهي ثاني أكبر قوة في الحلف الأطلسي من حيث العدد، وعلى نموّ الاقتصاد التركي، حيث تمثّل تركيا مرتبة الـ20 في الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وإلى أقوى جهاز مخابرات في المتوسط بقيادة هاكان فيدان. في عهد أردوغان، لم يكتفِ الجيش التركي بالحفاظ على حدود الدولة التركية التي رسمت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. في سنة 2014، اجتاز الجيش التركي الحدود السورية المتاخمة، وفي العام 2019، أرسل وحدات تركية إلى ليبيا. وفي العام 2020، توغّل الجيش التركي في مناطق العراق الشمالية وأقام مواقع ثابتة.

سياسة أردوغان المناقضة للاتحاد الأوروبي

يتّخذ الرئيس أردوغان مواقف متناقضة من أوروبا، فمن جهة يقول إنّ مستقبل تركيا هو في أوروبا، ومن جهة أخرى يعتبر أنّ الاتحاد الأوروبي هو “نادي صليبي”، وعلى الصعيد الرسمي، تبدي أنقرة الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. والسؤال المطروح هو هل إنّ الطموحات التركية في الإقليم المتوسطي، في الشرق والغرب وفي آسيا الوسطى تتلاءم مع متطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ إن سياسة أردوغان تهدف إلى بسط نفوذ تركيا في إطار “عثمانية جديدة” وتريد أن تُظهر للعالم بأنها قوة جديدة في المنطقة، تملأ الفراغ بسبب ضعف الاتحاد الأوروبي والانسحاب الأميركي، وهذا ما يؤدي إلى عسكرة السياسة الخارجية في المتوسط. هذا وقد لمّح أردوغان بضرورة إعادة النظر في معاهدة لوزان للعام 1923 التي تحدد مسار الحدود بين تركيا واليونان. فجزيرة “كاستيلوريزو” (Castelloriso) اليونانية المقابلة للحدود التركية، تسبب توترات دائمة مع اليونان، واعتبار تركيا بأنّ الجزر الصغيرة لا تملك جرفاً قارياً خاصاً بها.

في المحصلة النهائية، كيف يمكن لتركيا أن تتزعّم حركة “الإخوان المسلمين” في المنطقة، وفي الوقت عينه تودّ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟

إن مواقف دول الاتحاد من انضمام تركيا إليه تختلف، فهي تقوم في أغلبها على رواسب تاريخية وإيديولوجية، فبالنسبة إلى اليونان وقبرص، على سبيل المثال، يُعتبر العداء للأتراك جزءاً حيوياً ورئيساً في هوية البلدين، أما فرنسا التي دخلت في معركة جيوسياسية مع أنقرة ترى أن تركيا أردوغان باتت خطراً على العالم.

أمّا بالنسبة إلى دولة مثل النمسا فإن معارضتها لانضمام تركيا للاتحاد تقوم على مزاعم بأن الأتراك يحاولون استعادة نفوذهم في البلقان، خصوصاً أن حصار العثمانيين المتكرر لفيينا في القرن السادس عشر لا يزال عالقاً في الأذهان ويُعدّ واحداً من أهم مفاصل التاريخ الأوروبي التي لم يتم تجاوزها.

ويُمكن تلخيص الأسباب التي تحول دون تحقيق تركيا لحلمها بالانضمام للاتحاد في عوامل عدة ذكرناها سابقاً والتي من أهمها “العثمانوفوبيا” المترسّبة لدى الأوروبيين إلى درجة أنهم يعتبرون تركيا امتداداً لدولة الخلافة الإسلامية، وهذا في حد ذاته يُشكّل خطراً على الاتحاد، الذي يعتقد أنه في حال انضمت تركيا للاتحاد ستبث “سمومها الدينية” في كل هيئات الاتحاد الأوروبي.

وفي المقابل، فقد بدا أنّ هناك تحوّلاً في تركيا في النظرة إلى الاتحاد الأوروبي. فطموحات تركيا أردوغان في المتوسط وفي القوقاز، وفي الدول الإسلامية، لا تتناسب مع دستور الاتحاد الأوروبي والقيود التي يفرضها المجلس الأوروبي على أعضاء الاتحاد. فتركيا تستفيد اليوم من مزايا الاتحاد الأوروبي في التجارة الحرة لتصدير منتجاتها في إطار الشراكة المميزة، ولم تعد بحاجة إلى الانضمام كعضو كامل العضوية في الاتحاد. والموقف التركي يتماهى مع قصة الأعرابي الذي “ذهب إلى الجامع للصلاة بدون حماس، فوجده مُقفلاً، فقال في نفسه، كنت أنوي الصلاة لكنّ الباب أقفل في وجهي”.

وحسبنا أنّ أردوغان يعلم علم اليقين أهمية الموقع الجيوستراتيجي لتركيا بالنسبة إلى أميركا والغرب، وهو يكتفي الآن بدوره المحوري في الحلف الأطلسي، فهل يبقى أسير العثمانية الجديدة، والتي جسّدها قبل وصوله إلى السلطة، في خطابه في مدينة سعرت السورية في العام 1997 مستعيداً أبياتاً من الشاعر الإسلامي كوكالباهي: “المآذن رماحنا، القباب خوذاتنا، المصلّون جنودنا، وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا”.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى