غرابة الهندسة: بيت داخل قُبَّة غير حديدية

البيت داخل القبَّة

هنري زغيب*

حين تتجلَّى عبقرية الهندسة في شكْل مغاير، يتَّضح أَنَّ في الهندسة المعمارية كثيرًا من جمال الشعر شكلًا ومضمونًا، لأَن الشعر ليس في القصيدة وحدها، بل نجدُه في جمال حبيبة، في وردةٍ مُشعَّة، في مشهدٍ جميلٍ لغروب الشمس، في ضحكةِ طفلٍ حديثِ الولادة، كما نجدُه في هندسةٍ جميلة لتصميمٍ جميلٍ يُنتج بيتًا جميلًا يُبهج النظر ويُريح السكنى فيه.

في هذا المجال أَعرض هنا ما اطَّلعتُ عليه قبل أَيام، عن بيتٍ غريبِ الطرافة، جديدِ الشكل، مُغايرِ المضمون، حتى ليُشتهى السكَن فيه للراحة والاسترخاء، والابتعاد عن ضوضاء المدينة ورتابة القرية.

غرفة الطعام داخل البيت تحت القبَّة

بيت من قش !!

هي عائلة نروجية تسكن بيتًا قطبيًّا داخلَ قًبَّةٍ كبيرة جدًّا، مبنيًّا بالطين والقش والفخار والرمل والماء وموادّ عضوية أُخرى. وهذه الهندسة تعود إِلى مكتشفها الرؤْيوي المهندس والمخترع الأَميركي ريتشارد باكمينْسْتِر فولر (1895-1983)، وهو أَطلق سنة 1945 هذه الهندسة المقبَّبة فتعمَّمَت تباعًا، وبدأَ تطبيقُها على ملاعب رياضية وبيوت زراعية وصالات معارض وسواها.

تحت القبّة غير الحديدية

ميزة هذا البيتِ المقبَّب (ذي القُبَّة) أَنه يحتمل جميع أَنواع التقلُّبات المناخية القاسية. ونشرَت مجلاتٌ علميةٌ قصة أُسرة يـيرتيفُولِر النروجية التي ابتنَت بيتًا لها من ثلاث طبقات بتلك الهندسة سنة 2013 في جزيرة سانْدْرونايا الجبلية البعيدة (أَقصى شمال النروج).

البيت، داخل قبَّة كبيرة جدًّا بِعُلُوِّ نحو 8 أَمتار، مؤَلف من خمس غرف نوم، وحمَّامَيْن، وهو يحمي سكَّانَه (يتسع حتى 6 أَشخاص) من جميع التقلُّبات المناخية القاسية، أَخصُّها العواصف الهائجة والعنيفة جدًّا، وفي موسم الثلج الفائق الصقيع طيلة أَشهر طويلة ومُمِضَّةٍ من السنة.

شرفة على الصقيع

ما لذَّ وطاب من خُضَر وفواكه

داخل القبة أَيضًا: حديقة خضراء تمد الأُسرة بما قد تحتاجه من أَنواع الفواكه والخُضَر: التفاح، الكرز، الخوخ، الكيوي، الدوالي (العنَب)، المشمش، الخيار، البندورة، القرع، والبطيخ، ومجموعة من النباتات الغذائية الخضراء، وجميعها قادرة على النمو الطبيعي، بالرغم من فصل مظلم بلا أَيِّ شمس، يمتد سنويًّا ثلاثة أَشهر في تلك البلاد القُطبية الثلجية.

في الداخل أَيضًا: جوٌّ ريفي دافئ هادئ على عكس الخارج الصقيعي الحاد. ومن زجاج البيت في معظم جهاته، يمتدُّ منظر جميل أَخاذ للطبيعة في الخارج، حيث نهارًا ينبسط الثلج محيطًا وبعيدًا، وتلأْلأُ ليلًا مصابيح وأَنوار في البعيد والمحيط. وعن سيدة البيت إِنغريد  يـيرتيفُولِر في أَحد تصاريحها الصحافية: “أُحب كثيرًا هذا البيت. إِنَّ فيه روحًا خاصة وحميمة، واعتدنا على ذواتنا فيه كما اعتدنا عليه. أَثناء عملية بنائه، كنا ننمو نفسيًا من داخلنا توازيًا مع تقدُّم عملية البناء”.

الصقيع في الخارج فقط، وفي الداخل دفْءٌ هادئ

لا يشبه الشعور في أَيِّ بيتٍ آخر

بعد ثلاث سنوات من السكَن فيه، ترى إِنغريد بكل ثقة أَن “كلَّما دخلْنا إليه نشعر بما لم نكن نشعر به عند دخولنا أَيَّ بيت آخر في السابق. فالمناخ داخله مختلف تمامًا وجديد علينا، والهدوء فيه لم نأْلفْه من قبل، حتى ليمكن الإِنصات إِلى السكون الذي يُقيم فيه معنا. قد لا أَستطيع تفسير ما به أَشعُر، فيما أَمكنني التعبير عن شعوري نحو أَيِّ بيت آخر سكَنَّاه، في داخله جدران وزوايا وخطوط أُفقية وأُخرى عمودية”.

إِنها عبقرية الهندسة، وفيها الإِدهاش الجمالي الذي يصدر عن قصيدة، عن لوحة، عن مقطوعة موسيقية.

ليس للفن حدود، ولا مقاييس.

شَرطُهُ الأَوفى: أَن يخلُق الجمال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى