معبد خْنُوم “يَنهَض” بعد 2000 سنة

هنري زغيب*
حول الأُقصر في صعيد مصر، معابد تاريخية بناها تواليًا ملوكُ الأُسَر الفرعونية، باتت اليوم مزارات ومواقع سياحية وأَثرية وتاريخية يقصدها السيَّاح والباحثون من كل العالم.
بين تلك الآثار الخالدة: معبد “خْنُوم”، في مدينة إِسْنا (جنوبي محافظة الأُقصر، على ضفة النيل الغربية)، يعزى بناؤُهُ إِلى عصر تحوتمس الثالث: كرَّسه للإِله “خْنوم”، وهو إِله الخلق وفْق المعتقدات الفرعونية، وشعاره “رأْس الكبش”.
بعدما رزح طويلًا تحت غبار السنوات، رمَّمتْه وزارة الآثار المصرية ضمن خطَّتها تطوير المناطق الأَثرية، وبدأَ مؤَخرًا يستقبل الزوار والسياح.
فماذا عنه؟

أَجملُ الزخرفات
يروى أَنْ تم بناؤُهُ على عهد بطليموس (من السلالة الثامنة عشرة) إِبان العصر الروماني. عرضُهُ نحو 34 مترًا، عمقه نحو 16 مترًا، يضم 24 عمودًا بأَجمل زخرفة، يرتفع واحدها 13 مترًا، في واجهته 6 أَعمدة، وجدار عليه نقوش ناتئة لم تمحُ السنوات أَلوانها العميقة.
المذهل في نهاية التنقيبات والترميم، أَنَّ الرسوم فيه والنقوش والأَلوان ما زالت على أَصلها أَلْوانًا وخطوطًا، وهي ذات دلالات دينية من زمن الفراعنة، في الفترة البطليوسية.
الرواق الغنيّ
يتميز المعبد برواق المدخل الذي لم يتحتَّت صخره، وهو في ستة صفوف من الأَعمدة الشاهقة. وهذا الرواق، عندما كان المعبد مهجورًا، كان يُستخدَم لتخزين القطن والذخيرة. وهو لم يكُن مهجورًا وحسْب، بل شبَّ فيه حريقٌ صبَغَ أَعمدته وسقوفه بالدُخان الأَسْود الكثيف الذي غطَّى أَو محا التفاصيل الناتئة، واستعمل السكان المحليون حجارةً من المعبد لوضح سدود حول القنوات النهرية المجاورة.
بدأَ الترميم في منتصف خمسينات القرن الماضي، مع عالِم الآثار الفرنسي سيرج سونِرُون (1927-1976) وكان في القاهرة رئيس المركز الفرنسي للآثار الشرقية. تخصَّص في معبد إِسْنا، ووضَعَ عنه كتاباتٍ وكُتُبًا. بعد وفاته بحادث سير صاعق، توقَّف العمل في التنقيب، ولم تتم ترجمة ملاحظاته المدوَّنة عن النقوش والرسوم.

عودة التنقيب
وما إِلَّا سنة 2018 حتى عاد التنقيب والترميم، بالتعاون بين وزارة السياحة والآثار في مصر، وجامعة توبينْغِن الأَلمانية في عمل مشترك أَكاديمي وعلْمي تقني. كانت أَول مرحلة تنظيف الأَعمدة الثمانية عشرة في رواق المدخل، ثم السقوف السبعة، وفسحات من الجدارين الجنوبي والغربي باستخدام الماء والمواد الكحولية الخاصة.
خلُصت المرحلة الأُولى بمجموعة صوَر عن نقوش كانت ممحوَّةً بالغبار والرماد والدخان الكثيف. وبين الاكتشافات الأُخرى: كتابات هيروغليفية تضم معلومات عن عبادة آلهة إِسْنا، لم تكن مكتَشَفَة قبل اليوم، منها كيف كان قدامى المصريين يزاولون طقوسهم الدينية، بينها المرتكِز على معتقداتٍ ورموزٍ فلَكية محفورة في السقوف. وعلى الأَعمدة نقوشٌ عن الاحتفالات الطقوسية ذات الأَناشيد المواكبة المرفوعة إِلى الآلهة، وخصوصًا الإِله “خْنوم” ودوره في الخلق وبدايات الخليقة.

تَوَاصُل عبر العصور
ولاحظَ المنقِّبون أَنَّ النصوص والمشاهد المنقوشة في كل المعبد، متصلٌ بعضُها ببعض، في تَمَاسكٍ نَصِّيٍّ مع أَنها مكتوبة في عصور متباعدة. ويعزون ذلك إِلى أَنَّ خطًّا واحدًا كان مرسومًا منذ البداية، للإِشارة إِلى ما سيكون من مواضيع النقوش على الجدران والأَعمدة والسقوف.
ومع تَواصُل الترميم، تأْمل الوزارة أَن يكتمل العمل في نحو سنة من اليوم، حتى يعود المعبد إِلى صيغته الأَصلية، سقوفًا وجدرانًا وأَعمدةً، محميةً من صروف التقلُّبات المناخية، ومن أَذى الطيور التي تعشش فيها.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.