المرأة محورُ الحركة المُؤيِّدة للديموقراطية في إيران
تُقدّمُ الحركة النسائية الإيرانية اليوم نموذجًا لإيران ديموقراطية مستقبلية، حيث تُعادُ صياغة السياسة من خلال المشاركة المدنية والقيادة الشاملة والنضال الدؤوب من أجل العدالة.

الدكتورة فاريبا بارسا*
في النضالِ الدائر من أجل الديموقراطية في إيران، برزت المرأة كواحدة من أكثر الأصوات تأثيرًا وتوحيدًا، مُناصِرةً العلمانية والمساواة والحوكمة الشاملة. على مدار المئة والخمسين عامًا الماضية، لعبت المرأة الإيرانية أدوارًا محورية في الحركات السياسية الرئيسة في البلاد، بدءًا من الثورة الدستورية في العام 1906 وحركة تأميم النفط في خمسينيات القرن الفائت، وصولًا إلى ثورة 1979 وانتفاضات الطلاب في أوائل القرن الحادي والعشرين. واليوم، تعودُ المرأة إلى طليعة حركةٍ ديموقراطية شعبية، تقودُ حملاتٍ تتحدّى بشكلٍ مباشر كُلًّا من الجمهورية الإسلامية والنظام الأبوي المُتجذّر في مختلف الأطياف السياسية.
أبرز هذه الجهود الأخيرة هي حركة “المرأة، الحياة، الحرية”، التي أشعلتها الاحتجاجات الوطنية في العام 2022 في أعقاب وفاة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة بعد احتجازها بزعم انتهاكها القانون الذي يُلزِمُ النساء بارتداء الحجاب. هذا الشعار ليس مجرّد صرخة احتجاج، بل هو فلسفة تتجاوز الجنس والطبقة والإيديولوجيا. لقد جمع الرجال والنساء في معسكر واحد يناضلون من أجل إيران ديموقراطية قائمة على العلمانية والحرية والمساواة للجميع، بغضِّ النظر عن الجنس أو العرق أو المعتقد الديني.
على الرُغم من أنَّ هذه الحركة المعاصرة انطلقت من الغضب الشعبي لوفاة أميني، إلّا أنها تستَنِدُ إلى تاريخٍ طويل وغني من النشاط النسائي في إيران. خلال الثورة الدستورية، نظّمت النساء أنفسهن وكتبن في منشوراتٍ سرّية، مطالبات بالسيادة الوطنية وحقوق التعليم. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، شهدت المرأة الإيرانية تقدُّمًا قانونيًا واجتماعيًا ملحوظًا في ظل الملكية البهلوية. فقد حصلن على حقِّ التصويت في العام 1963، ومُنِحنَ حماية أكبر في العام 1967 بموجب قانون حماية الأسرة، الذي حدّ من امتيازات الرجال في الطلاق وحضانة الأطفال، مع رفع الحد الأدنى لسنِّ الزواج. كما دخلت النساء معترك السياسة والحياة العامة بأعدادٍ متزايدة خلال هذه الفترة، مع إنجازات بارزة مثل تعيين أول وزيرة في مجلس الوزراء، فرخرو بارسا، وزيرة للتعليم في العام 1968.
مَهدّت هذه التطورات الطريق لوَعيٍ نسوي ناشئ، وجعلت المرأة عنصرًا فاعلًا في تشكيل الهوية الإيرانية الحديثة. بعد الثورة الإسلامية في العام 1979، قاومت النساء فرض الحجاب الإلزامي والقوانين التمييزية. وفي السنوات التي تلت ذلك، شكّلن غالبًا العمود الفقري للمجتمع المدني الإيراني من خلال شبكاتٍ غير رسمية ومبادراتٍ ثقافية ونشاطٍ هادئ ولكنه قوي.
في السنوات الأخيرة، تناولت الحملات الشعبية النسائية قضايا ملحّة ومتجذّرة. وقد اكتسبت حملات مثل حملة “مليون توقيع من أجل المساواة بين الجنسين” في العام 2006 ومبادرة “لا للحجاب الإلزامي للنساء” في العام 2017، بالإضافة إلى الحركات الساعية إلى وقف جرائم الشرف وإنهاء زواج الأطفال، من بين أمور أخرى، زخمًا في جميع أنحاء البلاد، ما أدّى إلى زيادة الوعي بين النساء والرجال بشأن التمييز على أساس الجنس. إنَّ هذه الحركات، التي ترتكز على الحقائق اليومية بدلًا من الإيديولوجية الجامدة، جعلت نشاط المرأة يتردّدُ صداه بشكلٍ خاص بين الجيل الجديد في إيران: لقد أصيب العديد من الشباب الإيرانيين بخيبة الأمل من العقيدة السياسية وانجذبوا بدلًا من ذلك إلى القيادة العملية والشاملة والقائمة على القِيَمِ التي صمّمتها الناشطات النساء، والأكثر رمزية لهذه الجهود الأخيرة هي حركة “المرأة، الحياة، الحرية”.
ما يُميِّزُ نشاط المرأة الإيرانية هو قدرتها على سدِّ الفجوات في المعارضة المُجزَّأة. فبينما لا تزال غالبية المعارضة السياسية، داخل البلاد وخارجها، مُنقَسِمة على أُسُسٍ إيديولوجية، دأبت النساء على الدفع نحو تحالفات تُعلي من شأن الأهداف الديموقراطية المشتركة على التنافس الحزبي. يَميلُ هذا النشاط إلى التمسُّك بالبراغماتية، مما يجعله أكثر مرونةً وتركيزًا على الحلول وجاذبيةً عبر الانقسامات الجيلية والسياسية.
ورُغمَ دورها المحوري، لا تزال المرأة تُواجهُ مقاومةً كبيرةً، ليس فقط من النظام الديني للجمهورية الإسلامية، بل أيضًا من قطاعات المعارضة التي لم تتبنَّ بَعدُ قيادة المرأة بشكلٍ كامل باعتبارها أساسيةً لمستقبل البلاد الديموقراطي. ولا يزال بعض الجماعات السياسية المنفية، وكذلك الشخصيات التقليدية، تُهمِّش أصوات النساء أو تعتبر المساواة بين الجنسين أمرًا ثانويًا بالنسبة إلى تغيير النظام. وهذا الموقف لا يُقوِّضُ فقط المصداقية الديموقراطية لهذه الجماعات، بل يتجاهل أيضًا الواقع السياسي المُتمثّل في أنَّ أيَّ حركةٍ مُستدامة من أجل الديموقراطية في إيران يجب أن تكون شاملةً وتمثيليةً.
ومع ذلك، تواجه المجموعات النسائية نفسها تحدياتٍ أمام النشاط الفعّال. فبينما ينطلق العديد منها من القاعدة الشعبية ويلتزم التزامًا راسخًا، يجب على الحركة ككل مواصلة الاستثمار في التعاون بين المجموعات، والوحدة الاستراتيجية، وبناء التحالفات لتعزيز أثرها. وسيكون بناء التضامن بين مختلف المنظمات النسائية -من ناشطات المدن إلى المدافعات عن حقوق المرأة في المحافظات، ومن النسويات العلمانيات إلى النساء المتدينات التقليديات- أمرًا حيويًا لاستدامة التغيير الديموقراطي في المدى الطويل.
هذه العملية التعاونية ليست سابقة. ففي أعقاب احتجاجات العام 2022، نسّقَ العديد من المنظمات والناشطات بقيادة نسائية جهودهن عبر منصّات ومناطق جغرافية مختلفة لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، ودعم المعتقلين، والدعوة إلى الضغط الدولي. وقد أظهرت هذه الجهود الجماعية قدرة المرأة الإيرانية على القيادة برؤية ثاقبة ومرونة، غالبًا ما تملأ الفراغ القيادي الذي خلفته الجماعات السياسية المنقسمة أو المتحالفة.
كما تستغل النساء الإيرانيات التقنيات الرقمية ورواية القصص والفنون البصرية والأفلام لإسماع أصواتهن والدعوة إلى التغيير. ومن الأمثلة البارزة على ذلك حملة “حريتي الخفية” التي أطلقتها الصحافية مسيح علي نجاد في العام 2014. لقد شجعت هذه الحركة الإلكترونية النساء الإيرانيات على مشاركة صورهن بدون حجاب، احتجاجًا على قوانين الحجاب الإلزامية. وقد جذبت الحملة اهتمامًا دوليًا كبيرًا، وكان لها دورٌ فعّال في تسليط الضوء على قضايا حقوق المرأة في إيران. وفي عالم السينما، كانت صانعات الأفلام الإيرانيات في طليعة تصوير نضالات المرأة ومقاومتها. وقد استخدمت الفنانات الفنون البصرية لاستكشاف موضوعات الجندر والقمع في المجتمع الإيراني.
في الوقت نفسه، ومن خلال شبكات عابرة للحدود الوطنية، تبني النساء الإيرانيات تضامنًا عابرًا للحدود، ويحصلن في الوقت نفسه على الموارد والظهور والدعم المعنوي. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن يتفاعل الحلفاء الدوليون مع هذه الحركات باحترام، ويدعمونها بدون استقطاب أو استغلال وكالة المرأة وقدرتها على اتخاذ القرار.
تقدم الحركة النسائية الإيرانية اليوم نموذجًا لإيران ديموقراطية مستقبلية، حيث تُعاد صياغة السياسة من خلال المشاركة المدنية والقيادة الشاملة والنضال الدؤوب من أجل العدالة. في منطقة غالبًا ما اتسمت بالاستبداد والفصل العنصري بين الجنسين، لا تكافح النساء الإيرانيات من أجل حقوقهن فحسب، بل يُعِدن تعريف ما يمكن أن تكون عليه الديموقراطية.
يزداد هذا الأمر إلحاحًا الآن، إذ فَقَدَ النظامُ الإيراني بالفعل شرعيته الشعبية بين شرائح واسعة من السكان. وإلى جانب التحديات الداخلية والخارجية العديدة التي يواجهها، دفع هذا العديد من المراقبين إلى البدء في التفكير في إمكانية تغيير النظام، حيث يرى البعض أن هذا المنعطف الحاسم وشيك.
في حال حدوثه، يجب على المراقبين الدوليين وصانعي السياسات ودعاة الديموقراطية إدراك أهمية النساء في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد. وقد تكون رؤيتهن لإيران علمانية ديموقراطية، خالية من الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي أو الدين أو العرق، المشروع الأكثر توحيدًا واستشرافًا للمستقبل في المشهد السياسي الممزّق في البلاد. ويعني دعم هذه الرؤية تعزيز أصوات النساء، واحترام استقلاليتهن، والاستثمار في قيادتهن – ليس فقط كضرورة أخلاقية، بل كمسارٍ استراتيجي نحو تحوُّلٍ ديموقراطي دائم ومستدام.
- فاريبا بارسا هي دكتورة في العلوم الاجتماعية، متخصّصة في السياسة الإيرانية مع التركيز على الإسلام السياسي والديموقراطية وحقوق الإنسان. وهي مؤلفة كتاب “النضال من أجل التغيير في إيران: فلسفة المرأة والحياة والحرية في مواجهة الإسلام السياسي”. وهي أيضًا مؤسِّسة ورئيسة منظمة “التعلُّم الإلكتروني النسائي في القيادة” (WELL)، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بتمكين المرأة في إيران وأفغانستان من خلال التعليم والتدريب القيادي عبر الإنترنت.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.