تَديين السياسة وتَسييس الدين

بقلم ميرنا زخريّا*

العنوان لوحده يعكس مدى التخبّط؛ فهل يا ترى، الفشل السياسي الذي نشهده في معظم البلدان العربية، يعود في عُمقه إلى أثر خلط الدين بالسياسة؟ وهل يا ترى، الإنفراج العربي سوف يكون على أيدي الذين سيقومون بتديين الدين وتسييس السياسة؟
لا توجد فكرة من دون حاجة ومن غير سبب، فالإحتياجات والغايات هي لبّ الموضوع؛ لذا، للسياسيين بشكلٍ عام، “حاجة وهي وَفرة التابعين” كما ولهم “غاية وهي وَهرة السُلطة”. وبما أن الإنسان هو مخلوقٌ يتمتّع بمعدلٍ من الذكاء، فقد إستخدم الدين لفرض هيمنته؛ ذلك أن وَهرة ووَفرة الهيمنة من خلال الدين تجذب مجموعة أكبر من البشر، مجموعة تكون أصلاً مُترابطة في ما بينها من خلال الإنتماء الديني الذي يُدمِّجها ويُنمِّطها ويُوحِّدها.
علماً أن عبارة تديين السياسة بمعناها الحقيقي تخلو من الدقّة الحقّة، إذ لا يجوز أن يُنسب الدين إلى السياسة، ذلك أنه من غير المألوف أن يُنسب العنصر الأكبر كتابعٍ للعنصر الأصغر، فكيف إذا كان هذا العنصر هو بحجم ديانة؛ وإلا فلما لا تُستعمل عبارات مثل تديين الإقتصاد وتديين الأمن وغيرهُما، ربّما لأنها كلها غير مقبولة على أذن المستمع، لكن، يبدو أن للسياسة مجالاتها الفضفاضة والخاصّة.
من هنا، وفي مُعظم الأحيان، يُبدع السياسيّ في خلق نصٍ يخدم مصلحته، لدرجة أن بعضهم لا يتوانى عن إستغلال النصوص الدينية من أجلِ نيل مآربهم ومكاسبهم؛ والتاريخ القديم كما الحديث شاهد على حالاتٍ وحالات من نماذج التطويع، بهدف محاولة الترويج لمشروعٍ ما، ومن ثم قطف ثماره بفخرٍ وقوّةٍ. ذلك أن القوّة ليست دوماً القوّة العضلية، بلْ لعل القوّة الفكرية تتخطاها بأشواطٍ لما لها من أثر بعيد الأمد، ذلك أن هكذا أفكار: في البداية، تستحوذ على إهتمام الجماهير؛ ورويداً رويداً تتغلغل في أذهانهم؛ وفي النهاية، تستهدف ولاءَهم.
من المُتعارف عليه، أن يُصادفنا المُعارضون والمُوالون تجاه غالبية الإنجازات السياسية؛ لكنْ ما ليس من المُتعارف عليه، هو أن يُصادفنا الإنقسام عينه تجاه مُحتوى الكتب السموية. وقد إستفاد البعض من هذا التباين، بعدما لحظوا أن أسهل وأضمن وسيلة للدفاع عن آرائِهم، هي أن يربط الواحد منهم رأيه بأقوال ديانةٍ ما أو طائفةٍ ما، وأن يحتمي ساعتئذ وراءَ تصرّفه هذا. فتراهُ يُصبح بين ليلةٍ وضُحاها، إمبراطور زمانه عند شريحة باتت تعتبرهُ المُدافع عن قُدوتها وقناعتها وقيمها. وفي نهاية الجدل تختلط المعايير: فمَن ذا الذي سيخوضُ هجوماً ضدّ أعمال المؤمنين، ومَن ذا الذي سيقودُ إصطفافاً مع آراء الكافرين؛ ممّا يحدّ من إمكانية أن تأخذ القنوات السياسية مجراها الطبيعي، كيْ تُحاسَبَ تارةً لأنها على حقّ وطوراً لأنها على خطأ.
وعليه، فإن التباين قائم بين حالتي تديين السياسة وتسييس الدين: ففي الدين، مجال تعاظم وتكاثر التنازلات والمساومات مُغلق على مِصراعيه، وحين يقوم مسؤول ما بتديين موقف سياسي، فهذا معناه أن قرارهُ هذا لا يقبل التنازُل أو المُساومة، لا بل هذا مؤشر إلى أنه ينويَ التشبّث به مهما حصل. أما في السياسة، فمَجال المفاوضات مفتوح على مِصراعيه، وحين يقوم مسؤول ما بتسييس الدين، فهذا معناه على عكس ذلك، إننا سنشهد تغييراً ما على إحدى الثوابت التقليدية، وهذه الأخيرة غالباً ما تُسمى بالإجتهادات الدينية.
غريبٌ أمر البشر. لا يتعلمون من أخطاء غيرهم، بل تراهم يُجهدون ويُصرّون على إقترافِ أخطائهم بأنفسهم. ومِن بعد، تراهم يُعيدون ويُكرّرون الخطوات والهفوات نفسها مرّةً بعد مرّة، قبل أن يستفيقوا ويستنيروا منها. فكمْ من الوقت سنهدر وكم من الأرواح سنقتل، وكم من خطأ سيحدث وكمْ من خطيئة ستُرتكب قبل أن يفصل البشر الدين عن السياسة؟
أما لماذا الإصرار على فِعلَي التديين والتسييس، وما التعليل وراءَ إقحام الخلافات السياسية في الثوابت الدينية؟ فالإجابة بسيطة وبسيطة جداً. ذلك أنه ساعة يقوم فرد ما بتديين خلافٍ سياسيٍ، يُصبح ساعتئذ هذا الخلاف مُسبقاً غير قابل للحل، ذلك أنه لا يوجد حلول وُسطى في النصوص الدينية فهي تقوم على قاعدة: هذا صحّ وهذا خطأ. وبالتالي، فإن الطرح الذي يختار الرجُل السياسي عرضهُ من منظورٍ ديني مسيّس، فهذا يكون بمثابة دليلٍ على أنه لا يودّ مناقشته. وعليه، تحضّروا بعدئذ لمعركة طاحنة؛ فلوْ كان للوسطية من مكان ولوْ كان للحل من زمان ولوْ كان للتفاوض من أمان، لما أدخلت الأديان على يد الإنسان إلى قاعة البرلمان.
• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى