خداعُ ترامب واستراتيجيةُ الإرباكِ الشامل في إيران

الدكتور داوود البلوشي*

في مشهدٍ تتداخلُ فيه السياسة بالخديعة، وتتكشّفُ فيه خيوط التواطؤ بين واشنطن وتل أبيب، تبدو الأحداث الأخيرة في المنطقة أكثر من مجرّد تصعيدٍ عسكري، بل هي انعكاسٌ لخطة استراتيجية أمريكية-إسرائيلية عميقة، أعادت إلى الأذهان كل مظاهر الهيمنة، والابتزاز، وخلط الأوراق في لحظةٍ إقليمية وعالمية حساسة.

فيما كانت الأنظار مُوَجَّهة إلى مسقط، حيث كان يُنتظَرُ انطلاق جولة جديدة من المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، فجّرت إسرائيل مفاجأة استراتيجية بهجومٍ مُنَسَّقٍ على منشآت إيرانية وشخصيات عسكرية بارزة، تحت غطاءٍ إعلامي محكم شمل التضليل بشأن أجندة اجتماعات الأمن القومي الإسرائيلي، والتركيزعلى تفاصيل “خدعة” مثل زفاف ابن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.

لكن الحقيقة أنَّ هذا الأمرَ  م يكن مجرّدَ تمويهٍ إسرائيلي منفرد، بل كانت واشنطن شريكةً فاعلة. تصريحاتُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتكررة عن “اتفاقٍ قريب” مع طهران، وترويج رواية الخلاف مع نتنياهو، لم تكن سوى جُزءٍ من عملية خداع سياسي استخباراتي، هدفها إقناع الإيرانيين بأنَّ لا خطرَ داهمًا، بينما الطائرات  الحربية كانت تستعدُّ للإقلاع.

لم يَكُن ترامب مجرّدَ شاهدٍ أو داعمٍ. بل كان، على الأرجح، مهندسًا لخطة “الإرباك الإقليمي”، التي تتقاطَعُ فيها الضربات العسكرية مع التحرُّكات الديبلوماسية والضغوط الاقتصادية.  لقد أعلن دعمه للهجوم ووصفه بـالضربة الممتازة، مُلوِّحًا بوجود مذبحة مقبلة ما لم تُذعِن طهران. وفي تلميحٍ لا يقلُّ خطورة حيث قال: الموت والدمار وقعا بالفعل، لكن لا يزال بالإمكان إيقاف هذه المذبحة.

الذاكرةُ الأميركية والانتقامُ المؤجّل من الثورة الإيرانية

من السبعينيات الفائتة، حين أطاح الإيرانيون الشاه محمد رضا بهلوي وأهانوا الولايات المتحدة بأسرِ موظفي  لسفارة الأميركية في طهران  فشل عملية طائرات الهليكوبتر التي كانت تحاول إنقاذهم، لم تغفر واشنطن. ورُغم تغيُّر الرؤساء، بقيت روح  الانتقام الرمزي حاضرة. ترامب الذي يعيد إنتاج لغة الحرب الباردة،  أراد أن يكون صاحب الثأر السياسي المتأخّر ولكن بطريقةٍ ذكية عبر إسرائيل، وب”استغلال” نقطة ضعف  إيران وهي سعيها الحثيث إلى تخفيف العقوبات بسبب معاناتها الاقتصادية.

إنَّ الهجومَ على إيران ليس معزولًا.  إنه جُزءٌ من مشروعٍ متكامل هدفه تحييد إيران إقليميًا، وكسر “محور المقاومة”.  فالعدوان على غزة، وتكثيف الضغط على “حزب الله” في لبنان، والهجمات المتكرّرة في سوريا، كلها تصبُّ في إطار ما يمكن تسميته بـ”عقيدة ترامب–نتنياهو”  الجديدة، القائمة على الضربات الاستباقية، وإضعاف “محور المقاومة”، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة.

المفاجأة أن الرد الإيراني لم يكن مجرد تصريحات، بل تطوّر إلى هجمات استهدفت تل أبيب وأوقفت حركة الطيران، وكشفت ضعفًا غير مسبوق في المنظومة الدفاعية الإسرائيلية. هذا الرد ورغم محدوديته  فتح باب الاحتمالات، وأكد أن الحرب المقبلة لن تُدار في العلن فقط، بل في العمق الاستخباراتي والإلكتروني والجيو-اقتصادي.

إيران، وقد رُفعت درجة التهديد إلى أقصاها، بدأت تلعب بأوراقها الكبرى أي  التهديد بإغلاق مضيق هرمز، الذي يمرّ عبره أكثر من 25%  من صادرات النفط العالمية.  إن تحقّق هذا السيناريو، ولو جُزئيًا، سيقلب موازين السوق العالمية، ويعمّق الجراح الاقتصادية الأميركية والغربية، خصوصًا في ظل تصدّع الداخل الأميركي سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

هل يحل الهجوم على إيران أزمة أميركا؟

الجواب: الأرجح لا.

بل على العكس، قد يؤدي إلى تورّطٍ أميركي في نزاع أوسع، ويُسرّع من التحالفات المناهضة لها في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ويدفع بالاقتصاد الأميركي نحو مزيدٍ من العجز، خصوصًا في ظل التريليونات التي تُصرَفُ على حروب بالوكالة، وبلا نتائج حاسمة.

الاهتمامُ الأميركي بإيران لا ينفصل عن خلفيات استراتيجية طويلة الأمد، تتعلق بالتحكُّم بأمن الخليج وممراته البحرية، والسيطرة على منابع الطاقة، خصوصًا وأن مضيق هرمز يُعد بوابةً تمر منها نسبة ضخمة من صادرات النقط العالمية.

الولايات المتحدة لا ترى في إيران مجرّدَ خصمٍ سياسي أو نووي، بل عقدة جيواستراتيجية تُهدد النفوذ الغربي في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم. وفي المقابل، فإنَّ الضغط على إيران يخففُ العبء العسكري عن إسرائيل، ويمنع عنها خطر التهديد النووي أو الصاروخي من جيرانها.
منذ عقود، يُفصح القادة الإسرائيليون عن رفضهم القاطع لامتلاك الدول الإسلامية أو العربية –وخصوصًا تلك  لمحيطة بإسرائيل–  لأي قدرات عسكرية أو تكنولوجية نوعية، وهذا ما جعل تل أبيب وواشنطن تلتقيان على أرضية مشتركة، الأولى تبحث عن الحماية، والثانية تسعى إلى الهيمنة.

السؤال الأهم هو: هل الدور على باكستان بعد إيران؟

في ظل امتلاك باكستان للسلاح النووي، ووجودها في منطقةٍ متوتّرة مجاورة لإيران وأفغانستان والهند، لا يُستبعَدُ أن تتحوّلَ إلى هدفٍ استراتيجي في المرحلة المقبلة، إذا ما تمَّ تحييد إيران.  كُلُّ هذه الأسئلة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة رسم الخرائط، حيث لا تُحسم الأمور بالقوة فقط، بل بالخداع والتخطيط بعيد المدى.

الواقع إنَّ ما يحدث الآن  يس مجرّد عملية عسكرية أو ردّ فعل إيراني، بل لحظة كاشفة لسقوط الهيبة الأميركية، وانكشاف هشاشة إسرائيل، ونهاية مرحلة من التحكم الأُحادي بالمصير الإقليمي. نحن أمام مشهد تتداخل فيه النيات المستترة، والمخططات القديمة، بحسابات جديدة لعالم يتغيّر بسرعة.

هل خدع ترامب إيران؟ نعم.
لكن السؤال الأخطر، هل خدع ترامب العالم أيضًا؟
وهل ينجو من تداعيات هذه اللعبة التي قد تُشعل المنطقة بأكملها؟

  • الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون في باريس. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى