لا يَنبَغي للغُموضِ الأميركي أن يُوقِفَ العَمَلَ على حَلِّ الدَولَتَين
دايفيد شينكر*
يوم الجمعة الفائت، أُعلِنَ عن تأجيلِ مؤتمر الأمم المتحدة الذي كان من المُقرّرِ عقده في نيويورك هذا الأسبوع لحلِّ الصراعِ الفلسطيني-الإسرائيلي، وذلك عقب الضربة العسكرية الإسرائيلية على إيران. كان من المُقرَّرِ في الأصل أن يكونَ الاجتماعُ فرصةً للعديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة -بما فيها بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن- للاعتراف بالدولة الفلسطينية. إلّا أنَّ هذه الأجندة الطموحة قد تراجعت، حيث أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الآن إلى أنَّ الهدفَ هو “الحفاظ على حلِّ الدولتَين”.
ولم يَكُن من المُستَغرَب أنَّ واشنطن لم تَكُن راغبة في حضور مؤتمر الأمم المتحدة المؤجّل. ليس الأمرُ أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يُعارضُ بالضرورة قيامَ دولةٍ فلسطينية، بل يبدو أنَّ إدارته غير مُهتَمَّة بذلك إلى حدٍّ كبير. إنَّ هذا الصراعَ يستهلك وقتًا طويلًا وهو مُستعصٍ على الحل. خلال زيارته إلى الرياض في الشهر الماضي، تجنّبَ الرئيس مناقشة حلّ الدولتين. لم يستبعد ترامب صراحةً هذه الصيغة، بل تحدّثَ بدلًا من ذلك عن “مستقبلٍ آمن وكريم” للشعب الفلسطيني.
في العام 2020، خلال ولايته الأولى، دعا الرئيس إلى حلِّ الدولتين في خطته للسلام التي لاقت انتقاداتٍ واسعة. للأسف، رفضَ الفلسطينيون اقتراحَ ترامب قبل أن تُتاحَ للإسرائيليين فرصة رفضه. ومع ذلك، فإنَّ الحقيقة هي أنَّ جميع الرؤساء الأميركيين منذ بيل كلينتون أيَّدوا حلَّ الدولتين، على الأقل لفظيًا.
لم يُفَصِّل ترامب موقفه الحالي من الدولة الفلسطينية. وأخيرًا، أشارَ سفيرُ الإدارة الأميركية لدى إسرائيل، مايك هاكابي، إلى أنَّ الولايات المتحدة لم تَعُد تدعمُ المشروع. وسرعان ما تراجع المتحدث باسم وزارة الخارجية عن تصريحه، قائلًا إنّ السفير هاكابي “يتحدّث عن نفسه وعن رأيه الشخصي”.
يتناقضُ الغموضُ الحالي في سياسة الإدارة مع سياسة جورج بوش (الإبن)، آخر رئيس جمهوري. فخلال الانتفاضة الثانية، دعمت إدارة بوش الدولة الفلسطينية دعمًا مشروطًا. وفي خطابه في حديقة الورود في البيت الأبيض في 24 حزيران (يونيو) 2002، قال: “إذا تبنّى الفلسطينيون الديموقراطية، وواجهوا الفساد، ورفضوا الإرهاب رفضًا قاطعًا، فيمكنهم الاعتماد على الدعم الأميركي لإقامةِ دولةٍ فلسطينية مؤقتة”. وكان هذا بارزًا في توضيحه أنَّ ليس إسرائيل وحدها، بل والفلسطينيون أيضًا، عليهم التزامات في حالِ قيامِ دولةٍ فلسطينية.
في الخطاب نفسه، تعهّدَ بوش بأنَّ الولايات المتحدة، إلى جانب الاتحاد الأوروبي والمنظّمات الدولية الأخرى، ستُشرِفُ على الحَوكَمة والإصلاحات المالية والقضائية، وتساعد على بناءِ “ديموقراطيةٍ فاعلة”، وتزيد المساعدات الإنسانية “لتخفيف معاناة الفلسطينيين”. في العام 2007، جمع بوش الإسرائيليين والفلسطينيين و40 دولة في أنابوليس لإنهاء “إراقة الدماء والمُعاناة وعقود من الصراع”.
لا شكَّ أنَّ الهجومَ الذي قادته حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كان له تأثيرٌ في رؤية ترامب لإمكانية قيام دولة فلسطينية على الفور. ذلك اليوم، وما تلاه من حربٍ في غزة استمرّت قرابة عامين، أثار حفيظة الإسرائيليين والفلسطينيين المُتشكِّكين أصلًا في فكرة السلام والتسوية – وهما شرطان أساسيان لقيام الدولة. ربما لا يرى ترامب هذه اللحظة مواتية لدفع عملية السلام إلى الأمام.
في الوقتِ نفسه، اتسمت ولايته الثانية بالمعاملاتية، والتركيز على تقاسم الأعباء، والنفور -كما عبّر في الرياض- من “بناء الدول”، وتفضيله القوي للحلول المحلية للمشاكل الإقليمية. يبحث الرئيس عن مكاسب سريعة في السياسة الخارجية والاقتصاد، وعن شركاء مستعدّين لتحمُّل مسؤولية حلّ المشاكل الشائكة.
من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين، كان بوش “بانيًا للدول”، مُلتزمًا بتعزيز الديموقراطية والقِيَمِ الأميركية في الخارج. لم يكتفِ بتقديم الدعم الفني والمعونة المالية الأميركية للفلسطينيين، بل ساعدت إدارته أيضًا على هندسة تعيين رئيس وزراءٍ تكنوقراطي غير فاسد لبدء الإصلاحات. من جهته، يعارض ترامب هذا النوع من المشاركة الأميركية في الخارج.
يُفسِّرُ تركيزُه على المكاسب سببَ زيارته الخارجية الأولى المخطط لها إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. كان الرئيس يسعى إلى صفقاتٍ استثمارية مع شركاءٍ لصالح الاقتصاد الأميركي، بدلًا من مناقشاتٍ حول المزيد من الالتزامات المالية والسياسية والعسكرية لواشنطن في الشرق الأوسط. في هذا السياق، يبدو أنَّ أنجحَ لقاءات ترامب حتى الآن هي تلك التي يَعرُضُ فيها رئيس دولة أجنبية مساعدة الولايات المتحدة بدلًا من طلب شيء من واشنطن. على سبيل المثال، انتهى اجتماع الملك عبد الله الثاني، عاهل الأردن، في المكتب البيضاوي في شباط (فبراير) بنجاح بعد أن اقترح نقل أطفال غزة المرضى إلى عمّان لتلقي العلاج. أما لقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فلم ينتهِ بشكلٍ جيد.
خلاصةُ القول هي أنَّ الصراعَ الفلسطيني-الإسرائيلي لا يُقدِّمُ للرئيس أيَّ مكاسب واضحة. فبدلًا من الاستثمار الديبلوماسي الكبير في عمليةِ سلامٍ غير مؤكّدة النتائج، ستظلُّ إدارة ترامب مُرَكِّزةً بشكلٍ ضيِّق على الهدف العاجل والمهم قصير المدى المتمثّل في وقفِ إطلاق النار في غزة وإعادة الرهائن المحتجزين لدى “حماس”.
يُشيدُ العديدُ من زعماء الشرق الأوسط بنهجِ ترامب الجديد، وخصوصًا انتقاده ورفضه للدول الغربية “التي تُلقي عليكم محاضرات حول كيفية العيش وإدارة شؤونكم”. في الوقت نفسه، من الواضح أنَّ هناكَ خيبةَ أملٍ كبيرة في المنطقة تجاه السياسة الأميركية تجاه غزة. ومع ذلك، سواءً للأفضلِ أو للأسوَإِ، فمن غير المرجح أن يتغيَّرَ هذا الأمر في أيِّ وقتٍ قريب.
وهذا يُعيدُنا إلى مؤتمر الأمم المتحدة حولَ حلِّ الدولتين. فرُغمَ الدلائل على أنَّ ترامب قد يكون مُحبَطًا من رفض الحكومة الإسرائيلية إنهاء الحرب في غزة، فإنَّ التوقّعات بأنَّ إدارته ستضغطُ على إسرائيل للدخول في محادثات سلام في غير محلها. قد يضغط ترامب في نهاية المطاف بقوة أكبر على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإنهاءِ الحملة -فغزّة تُقوِّضُ فُرَصَ توسيع اتفاقيات أبراهام- لكنه لن يُجبِرَ الإسرائيليين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات الآن. لن يكونَ هناك “أنابوليس 2” خلال هذه الإدارة. وكما يُحب ترامب نفسه أن يُشير، فهو نقيضُ بوش.
سيُحدِّدُ ردُّ فعلِ إدارة ترامب على المؤتمر، عند انعقاده، بناءً على نتائجه. سيُقابَلُ تكرارَ القرارات الديبلوماسية القديمة والمستهلكة وتبنّي الاعترافات الرمزية بالعداء -أو في أحسن الأحوال باللامبالاة- في واشنطن. كبديل، يمكن أن يُسفر الاجتماع عن سلسلةٍ من الخطوات الملموسة التي تُحدد ليس فقط التزامات إسرائيل، بل أيضًا ما يجب على الفلسطينيين فعله. والأهم من ذلك، يمكن للدول الأوروبية والعربية أن تُشارك في العملية وتلتزم بالعبء الديبلوماسي والمالي الكبير لما بعد الحرب، بما في ذلك المشاركة المباشرة لضمان أن يكون الفلسطينيون شريكًا فعالًا في الديبلوماسية المستقبلية. إذا كانت هذه هي نتيجة اجتماع الأمم المتحدة المُعاد جدولته، فقد يُشجع ذلك إدارة أميركية متحفظة على المشاركة.
لقد طالت الحرب في غزة أكثر مما ينبغي. سيكون من المؤسف أن يفشلَ اجتماعٌ دولي رفيع المستوى كهذا -مثل قمة السلام الأخيرة في الشرق الأوسط في العام 2017 التي استضافها الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند- في تقديم خطّةٍ عملية لطريقٍ أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين.
- دايفيد شينكر هو زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وقد شغل منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى من العام 2019 إلى العام 2021.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.