هل بالمالِ وَحدُه تُشتَرى العَمَالة؟ قراءةٌ في قصّةِ تَجنيدِ إسرائيل لمحمّد صالح

حالةٌ من الذهول تُخَيِّمُ على بيئة “حزب الله” في لبنان منذ الإعلان عن توقيف محمد صالح بجُرمِ العمالة لإسرائيل، والتفاصيل المُثيرة التي تتكشّفُ تباعًا، وسيل التسريبات والإشاعات التي تعصفُ بمجموعات الواتساب تنتشر كالنار في الهشيم، خصوصًا بعد أنباءٍ متقاطعة تحدثت عن اكتشافِ مجموعةٍ كبيرةٍ من العملاء من داخل البيئة قدّموا معلومات ثمينة لإسرائيل مكّنتها من إلحاقِ هزيمةٍ عسكرية وأمنية موصوفة ب”حزب الله”. وقد أثارت قصة العميل محمد صالح أسئلة كبرى حول تغلغل العملاء في بيئة “حزب الله” وبيعهم أسرار الحزب مقابل حفنة من المال. تُقدّمُ هذه المقالة قراءةً تُحاول فهم الأسباب التي دفعت بمحمد صالح للتقدم طوعًا للتجسّس على حزبه وبيئته والتي تتقاطع في كثيرٍ من جوانبها مع قصة أحد أشهر جواسيس الموساد في مصر، أشرف مروان.

أشرف مروان: قصته شبيهة بقصة محمد صالح.

ملاك جعفر عبّاس*

منذُ بدايةِ ما عُرِفَ ب”حربِ الإسناد”، التي أطلقها “حزب الله” من جنوب لبنان دعمًا ل”حماس” في غزة، بدا التفوُّقُ الإسرائيلي واضحًا في إيقاع خسائر دقيقة وموجعة بقيادات الحزب المحلّية في الجنوب، وتصاعُد إيقاع الضربات إلى أن اغتيل القائد الكبير فؤاد شكر فعملية ال”بايجر” واللاسلكي، تبعتها ضربات على أكثر من 1400 موقع لمخازن ومواقع عسكرية ومنشآت في ليلة واحدة. واغتيل قادة فرقة “الرضوان”. وكانت الذروة باغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وبعده السيد هاشم صفي الدين مع مجموعةٍ من قيادات الصف الأول لتندثر الطبقات القيادية العليا الثلاث للحزب تقريبًا. ويُجمِعُ الخبراءُ العسكريون والأمنيون على أنَّ هذا الانكشافَ الأمني المهول ل”حزب الله” ليس ناجمًا فقط من تفوُّق إسرائيل التكنولوجي بفارقٍ شاسع عن الحزب، إنما هو ناتجٌ أيضًا من اختراقاتٍ بشرية من خلال شبكة، لا بُدَّ وأن تكونَ هائلة، من العملاء الذين كانوا عيونًا وآذانًا حاضرة في كلِّ حيٍّ وشارعٍ وبنايةٍ وسرداب تحت الأرض، تنقل المعلومات المحدثة لآلة القتل الإسرائيلية المُدَعَّمة بالذكاء الاصطناعي. وكان الحديث عن العملاء الداخليين يستثيرُ الكثيرَ من ردود الفعل الغاضبة من بيئة “أشرف الناس” التي فضلت دومًا إسقاط تهمة العمالة على الغريب الإيراني أو السوري أو ممن هم “خارج البيئة”، لذا كان لكشف محمد صالح “ابن البيئة البارّ” هذا الوقع الثقيل. وما زادَ من فداحةِ الكشف أنه تمَّ بالمصادفة ولأسبابٍ مالية بحتة، ولم يأتِ من طريق اشتباهِ جهاز أمن الحزب أو أيٍّ من أجهزة الدولة بتصرّفاته. ولم يستوعب أحدٌ كيف يبيع هذا الشخص رفاقه وأبناء حيّه ودينه ووطنه للعدو مقابل حفنة من المال لا تتجاوز الثلاثة وعشرين ألف دولار. صحيحٌ أنَّ التحقيقَ لم ينته بعد، ولم تتكشّف كلُّ المعلومات، إلّا أنَّ ما سُرِّبَ من هاتف المتهم كافٍ لتكوين صورةٍ أوّلية عن الأسباب التي قد تكون وراء عرضه خدماته على الموساد حسبما جاء في اعترافاته التي أورَدَ بَعضُها الصحافي رضوان مرتضى.

من هو محمد صالح؟

محمد صالح، بحسب المعلومات والصور المتداولة، شابٌ في مقتبل العمر، وسيمٌ يُعنى بمظهره وأناقته، يَعتقدُ أنَّ مستقبلًا باهرًا ينتظره فيطمحُ أن يكونَ مُنشدًا في المناسبات الدينية، يُسجّلُ أنشودةً لا تُحقّقُ له شهرة ولا نجاح، يحاول أن يُصبحَ ثريًا فيُضارِب في إحدى منصّات البورصة الرقمية، ويدخل في دوّامةٍ من الديون المتراكمة أوصلته إلى العمالة. هو الابن الوحيد لعائلةٍ شديدةِ التديُّن والارتباط ب”حزب الله”، فوالده عضو في جهاز التعبئة للحزب، وهو من الرعيل الأول الذي دخل الحزب عن إيمانٍ ووعي، لم تدجنه الآلة العقائدية ولم يكن وليد المصادفة في هذه البيئة كما هو حال ابنه. لم ينجح زواجه من تلك السيدة الآتية أيضًا من عائلةٍ وثيقة الارتباط بالحزب وذات المكانة العالية كعائلة شهيد. أصدقاؤه ومحيطه الاجتماعي من أبناء مسؤولي الحزب ومقاتليه. هذا المحيط الذي لم يتمكّن من فتح باب الثروة ولا المكانة أمامه، بل لفظه من الحزب فهرب إلى العراق حاملًا الخزي والعار، متمنيًا أن يتمكّنَ من ردِّ اعتباره أمام أهله، الذين وبّخوه مرارًا على الإضرار بسمعتهم أمام الناس بسبب تهرّبه من دفع الديون. وهناك، يخطو الخطوة الأولى باتجاه العمالة لإسرائيل، يضغط على رابط اعلان على الفايسبوك يسأله إن كان منتسبًا سابقًا في “حزب الله”. لماذا يضغط؟ وهل ظهر الإعلان أمامه بمحض المصادفة؟ لا شكَّ أنَّ الخوارزميات التي صمّمتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أكثر حساسية ودقة من تلك التي تعرض لنا دعاية مكنسة كهربائية روبوتية على إنستغرام دقائق بعد أن نتحدث عن عناء تنظيف المنزل.  فآلة الدعاية الإسرائيلية طوّرت خدمات باتت تبيعها عبر شركاتٍ خاصة للحكومات والجهات السياسية حول العالم للتأثير في الرأي العام وتوجيه نتائج الانتخابات، تلك الخوارزميات كفيلة ببناء “بروفايلات” نفسية ومعرفية متكاملة حول ملايين الأشخاص الذين تستهدفهم من خلال تحليل بصمتهم الرقمية، فتُقدِّمُ لهم محتوىً محبوكًا بعناية لاجتذابهم دون غيرهم. فالإعلانُ بدايةً لم يظهر على صفحة محمد صالح بالمصادفة، بل صُمِّمَ من أجله، ومن أجلِ الذين يشبهونه في تركيبته النفسية لإتاحة الفرصة أمامهم للتواصل مع الموساد. لكن الخوارزميات لا يمكن أن تكون كافية للإمساك بيده للضغط على الإعلان، والتمادي في إعطاء المعلومات والخلفيات والإحداثيات لمن يصفه محمد في مراسلاته ب”برو Bro” وحبيبي، مطمئنًا على سلامة وصحة مشغّله الإسرائيلي. وهنا مجالُ بحثٍ كبير.

فإن صحّت المعلومات، يُعتَبَرُ محمد صالح، من العملاء المُتَطَوِّعين أو “walk-ins” في أدبيات الاستخبارات، أي أنه اختارَ طوعًا أن يبحثَ ويتواصَلَ مع عدوه ويُقدّمُ له أسرارَ أقرب الناس إليه، وهؤلاء يُعتَبَرون عملةً نادرة في عالم الجاسوسية. وتتعامل أجهزة الاستخبارات بكثيرٍ من الحذر مع هذا النوع من العملاء. في البداية تخضعهم لاختباراتٍ نفسية مُعقّدة ظهر بعضها في مراسلات محمد مع مشغّله حيث طلب منه الإجابة عن مئات الأسئلة المتعلّقة بحياته وعائلته ومحيطه، كما أُخضِعَ لاختبارِ الإدراك الموضوعي (Thematic Apperception Test)، وهو اختبارُ إسقاطٍ نفسي يقيس البنية الشخصية للفرد ودوافعه وحاجاته الكامنة إن كان للانتماء أو السلطة أو الإنجاز، كما يقيس صراعاته اللاواعية وعلاقاته الاجتماعية وآلياته الدفاعية ووظائفه الانفعالية فيُمَكِّنُ مشغّليه من تفصيل خطةٍ دقيقة للتعاطي معه لاستخراجِ أكبر قدرٍ من المعلومات. وغالبًا ما يُطلَبُ من العميل المتطوِّع إعطاءَ معلوماتٍ يُمكِنُ لأجهزة الامن التحقُّق منها من خلالِ عملاءٍ آخرين للتأكُّد من أنه ليس عميلًا مزدوجًا، ولا يقدم لهم ما يعرف “ببراز الدجاج” في أدبيات الاستخبارات.

أشهر هؤلاء كان أشرف مروان، صهر الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، والذي أصبح مدير مكتب أنور السادات بعد وفاة عبد الناصر. وقد قدم مصر ككتابٍ مفتوح أمام الإسرائيليين، كان اخطرها ما يتعلق بحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بحسب الكاتب يوري بار جوزف في كتابه “الملاك” الذي دحض فكرة العمالة المزدوجة التي دافع عنها بعض الكتاب المصريين والإسرائيليين. وللحقيقة فإنَّ التشابه بين قصة محمد صالح وأشرف مروان مثيرٌ من حيث سعي كليهما لتحقيق الربح السريع لتمويل نمط حياة لا يتناسب مع المدخول الحقيقي، ولو بمستويين مختلفين. فكما أدمن محمد صالح على البورصة، أدمن أشرف مروان على لعب القمار وقد وصلت رائحة ديونه التي راكمها خلال فترة اقامته الأولى في لندن إلى عبد الناصر الذي استدعاه ووبّخه واجبره على العودة الدائمة للإقامة في مصر سامحًا له بالسفر إلى لندن دوريًا لغرض متابعة رسالة الماجيستير. ولم يكن عبد الناصر مُقتنعًا به من البداية زوجًا صالحًا لابنته منى- بحسب الكتاب- وحاول إجباره على طلاقها، لكن منى رفضت وتمسّكت بأشرف الذي كان يتمتع بشخصيةٍ ساحرة لمنى ولكثيرٍ من النساء ولمحيطه الاجتماعي أينما حلّ. إلّا أَّنَّ سحره كان يتلاشى ويتحوّل إلى خوف أمام عبد الناصر ومدير مكتبه سامي شرف الذي كان يعرف كل أسرار أشرف مروان.

تطوّر كيفية تجنيد العملاء

كانت الدراسات المتعلّقة بكيفية تجنيد عملاء أجهزة الاستخبارات تُركّزُ على الدوافع الإيديولوجية والمالية والغرور والابتزاز والإغواء الجنسي لتفسير خيانة الفرد لوطنه وأهله، إلّا أنَّ الدراسات الأحدث باتت تأخذُ بعين الاعتبار تركيباتٍ أكثر تعقيدًا من التفسيرات المُسطَّحة. فقد تبيَّنَ أنَّ المال لا يُشكّلُ دافعًا كافيًا لأن يبيعَ الشخصُ وطنه وأقرب الناس إليه لأعدائه، وغالبًا ما يقترنُ بصفاتٍ شخصية مُحدَّدة كتعدُّدِ الولاءات الذي يتجلّى في تعدُّدِ العلاقات النسائية مثلًا. فقد كانت لمحمد صالح علاقاتٌ نسائية كثيرة على ما يبدو، كان يتغامز حولها مع مشغّله الإسرائيلي كما كانت لأشرف مروان صولاتٌ نسائية تحدث عنها بار-جوزيف في كتابه. كما إنَّ الميلَ إلى النرجسية، وتضخُّم الأنا الذي يتجلّى في العلاقة مع ربِّ العمل أو الأُسرة أو الشريك ينمُّ عن شعورٍ بأنَّ الشخصَ يستحقُّ أكثر بكثير مما يُعطى ماديًا ومعنويًا. فمحمد الطامح لأن يكونَ مغنيًا مشهورًا، لو قُدِّرَ له أن ينشأ في بيئةٍ مختلفة ربما كان يرى في بيئته وعائلته حواجز أخلاقية أمام طموحه، فسعى لأن يصبح منشدًا وفشل. فعدم الشعور بالتقدير لحجم المجهود أو التضحيات أو الانجازات لهذا الشخص يدفعه للبحث عن مصدرٍ آخر للشعور بالرضى، كما يقترنُ بمَيلٍ للمغامرات الخطرة غير المحسوبة العواقب لتغذية الشعور بالأهمية والقوة من خلال إدمان ألعاب الحظ أو المضاربة في البورصة. كما تُشَكِّلُ الخسارة المُبكِرة للأب أو العلاقة الإشكالية معه دافعًا مشتركًا لكثير من الذين باعوا أسرارَ بلادهم. وبالنسبة إلى أشرف مروان، فقد لعب عنصران أساسيان دورًا في عَرضِ خدماته على الإسرائيليين، أوّلهما المال وثانيهما الغرور. فأشرف الذي كان يطمح إلى أن يعيشَ حياة الرفاهية والسلطة من خلال زواجه بابنة زعيم الأمة العربية جمال عبد الناصر وَجَدَ نفسه موظفًا من الدرجة السادسة في ديوان الرئيس، يحصي عليه سامي شرف أنفاسه، ويتقاضى راتبًا أقل من أصغر موظف في الديوان. وصحيح أنه لعب بعض الأدوار السياسية كقناةٍ خلفية للوساطة بين عبد الناصر وبعض قادة الجيش، إلّا أنَّ طموحه كان أكبر من ذلك بكثير، ولم يجد من الذي كان يطمح لإرضائه إلّا الشك والاحتقار، وربما توقف عن السعي خلف هذا الارضاء وقرر الانتقام لكنه لم يفعل ذلك إلّا بعد وفاة عبد الناصر، كما لم يتخابر محمد صالح مع الموساد إلّا بعد اغتيال نصر الله. وللتوقيت دلالة بحد ذاته، فهزيمة العرب في 1967 حفرت عميقًا في وجدان أشرف مروان وربما يكون قرر الاصطفاف في معسكر ” المنتصرين” بحسب بار-جوزيف خيارًا قرَّبه من الإسرائيليين، كما يُمكِن أن يكون محمد صالح ادرك إثرَ اغتيال نصر الله أنَّ الحزبَ انتهى ولا ضير في بيع بعض المعلومات قبل أن تنخفض القيمة السوقية لما يعرفه.

يبحث هذا النوع من العملاء عن التقدير، هم يعرفون حجم الخيانة التي يرتكبونها، فيطلبون المال، الكثير من المال مقابل خدماتهم ويطلبون أن يكون مشغّلهم من درجةٍ مُعَيَّنة أو ان يعاملهم بكثير من الاحترام. ففي حالة أشرف مروان “كان قرار الاستخبارات الإسرائيلية ان يتولى رئيس الموساد زفي زامير نفسه التواصل معه نابعًا من قناعة الجهاز بأنَّ هذا الشاب يحتاج لأن يفهم أن إسرائيل فقط هي من تُقدّر قيمته الحقيقية ” حسب بار-جوزيف. وفي حالة محمد صالح كان واضحًا أنَّ العلاقة مع مشغّله كان فيها كثير من الود والثقة والاحترام ربما لقناعة ايضًا بأنه يجب ان يشعر أنَّ جهاز الموساد يقدره أكثر مما يقدره الحزب. ويتشابه محمد صالح مع أشرف مروان في كونهما اتخذا العمالة بقرار واعٍ ومُدرِك للعواقب، فأشرف اتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن من كشك في الطريق، ولو كان يعيش في زمن الفايسبوك لما تردّد في الضغط على الإعلان الذي ظهر لمحمد.

لم تكشف المخابرات المصرية عمالة أشرف مروان، بل كشف اسمه نتيجة نزاع قضائي إسرائيلي بين قادة أجهزة الأمن رمي على إثره “الملاك” من شرفة بيته اللندني في إحدى ليالي نيسان (أبريل) 2007، وأُقيمَت له جنازةٌ مهيبة في بلده الذي لم يعترف يومًا أنَّ صهر الزعيم التاريخي كان عميلًا لإسرائيل، ولم تكشف استخبارات “حزب الله” عمالة محمد صالح، بل كشفه صاحب محل تحويلات مالية في محلة الغبيري. كان الرجل يشعر بفائض ثقة سمح له بالإبقاء على الكثير من المراسلات على هاتفه، فمَن سيَشكّ بمن يكتب للشهداء “هنيئًا لك يا حبيبي” بعد أن يشي بهم. وفي أحياء البيئة وقراها ينظر الناس بريبة إلى بعضهم البعض، يتهامسون، تصبح الإشاعة إدانة، لا دخانَ بلا نار يقولون، ولا أحدَ يقولُ لهم شيئًا عمَّن وشى بهم وقتلهم وما زال يعيش بينهم.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin” على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى