الخصومُ في جنوبِ آسيا يستغلّونَ المياهَ كسلاحٍ لتحقيقِ مكاسب جيوسياسيّة

مع تفاقُمِ آثارِ تغيُّرِ المناخ وتصاعُدِ التوترات السياسية، قد يؤدي الفشل في تعزيزِ المؤسّسات الإقليمية وتحديثِ المعاهدات في جنوب آسيا إلى دفع الترتيبات الهشّة أصلًا إلى حافة الانهيار. لطالما كانت المياه شريانَ حياةٍ مشتركًا في جنوب آسيا. ولكن ما لم تُحمَ وتُنَظَّم، فقد تُصبحُ أيضًا فتيلَ صراع.

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي:َ “مياه الهند يجب أن تَخدُمَ مصالحها أوّلًا”.

بانساري كامدار*

أدّى تعليقُ الهند أخيرًا لمعاهدة مياه نهر السند مع باكستان، إلى جانبِ هيمنة الصين المتزايدة على موارد المياه والبنية التحتية الإقليمية، إلى تفاقُم التوترات في جنوب آسيا، إحدى أكثر مناطق العالم مُعاناةً من شَحِّ المياه. وتتزايدُ هذه التوترات الجيوسياسية بفعل آثار تغيُّر المناخ، الذي غَيَّرَ أنماطَ الطقس في منطقةٍ يقطنها ما يقرب من ربع سكان العالم.

يعتمدُ معظم هؤلاء السكان اعتمادًا كبيرًا على الأنهار التي تُغذّيها جبال نظام هندوكوش-كاراكورام-الهيمالايا. تُعرَفُ هذه السلاسل مجتمعةً باسم “القطب الثالث” في العالم نظرًا لاحتياطياتها الهائلة من الأنهار الجليدية المُتجمّدة، والتي تأتي في المرتبة الثانية بعد القطبَين الشمالي والجنوبي. إلّا أنَّ أنهارها الجليدية آخذة في التلاشي، ما يؤثر سلبًا في الأنهار التي تُغذّيها.

أظهَرَ تقريرٌ صدر في الشهر الفائت عن “المركز الدولي للتنمية الجبلية المتكاملة” (International Centre for Integrated Mountain Development,)، أنَّ المنطقة سجّلت أدنى مستوى لاستمرارية الثلوج -وهي المدة التي يبقى فيها الثلج على الأرض- منذ 23 عامًا، مما يُهدّدُ توافُرَ المياه في الشرايين الرئيسة مثل أنهار السند والغانج وبراهمابوترا. وفي وقتٍ سابق، حذّر المركز نفسه أيضًا من أنَّ ما يصل إلى 80% من الأنهار الجليدية في المنطقة قد تختفي مع بداية القرن المقبل، مما يؤثّر في استقرار أنظمة المياه في جنوب آسيا في المدى الطويل.

وتؤكّدُ النتائج على تزايد الضغوط المناخية على منطقةٍ تُواجِه بالفعل تراجُعًا سريعًا للأنهار الجليدية وأنماطًا جوية غير مُنتَظمة وفيضانات متكرّرة. منطقة جنوب آسيا هي نقطةٌ ساخنة للمناخ العالمي، وقد يكون أطفال المنطقة هم مَن سيضطرّون إلى دَفعِ الثمن. وفقًا لتقرير اليونيسيف، فإنَّ 347 مليون طفل دون سن 18 عامًا مُعَرَّضون بالفعل لندرة المياه المرتفعة أو المرتفعة للغاية في جنوب آسيا، وهو أعلى رقم بين جميع مناطق العالم.

مع تقارُبِ تغيُّر المناخ والتوتّرات الجيوسياسية، يُحذّرُ الخبراء من أنَّ السياسات المائية الهشَّة في المنطقة قد تدخلُ حقبةً جديدة خطيرة.

ووفقًا لدراسةٍ نُشِرَت حديثًا، وَقَعَ ما مجموعه 1,158 صراعًا على المياه، بما في ذلك الصراعات المحلية والدولية، في أحواض الأنهار العابرة للحدود في آسيا من العام 1948 إلى العام 2022. ومن بين هذه الصراعات، شَهِدَ حوضا نهر الأردن ونهر دجلة والفرات/شط العرب في غرب آسيا أكبر عدد من الصراعات، يليهما حوض نهر السند في جنوب آسيا. كما أشارت الدراسة، التي تتناول موارد المياه كمُحَفِّزٍ للصراعات وضحيةٍ لها، إلى اتجاهٍ تصاعُدي ملحوظ خلال الفترة المدروسة، مع وجود علاقة إيجابية بين شحِّ المياه والصراع.

وكما تُظهِرُ التوترات الأخيرة بين الهند وباكستان، إضافةً إلى التوجُّهات الأوسع في السياسة المائية الصينية، فإنَّ المياهَ تُستخدَمُ بشكلٍ مُتزايدٍ كسلاحٍ في سياق التنافس الجيوسياسي.

تعليق معاهدة مياه نهر السند

في 22 نيسان (أبريل)، أَودَى هجومٌ إرهابي مروّع في باهالغام في الجُزءِ الخاضِعِ لسيطرة الهند من كشمير بحياة 26 مدنيًا، معظمهم من السياح الهندوس. بالإضافة إلى شنِّ ضرباتٍ عسكرية ردًّا على ذلك، أعلنت الحكومة الهندية أنها ستُعلِّقُ العمل بمعاهدة مياه نهر السند، مُتَّهِمةً باكستان بالفشل في مَنعِ الهجمات الإرهابية العابرة للحدود المُنطَلِقة من أراضيها.

وقد أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أنَّ “مياه الهند يجب أن تَخدُمَ مصالحها أوّلًا”، بينما حَذّرَت إسلام آباد من أنَّ أيَّ خطوةٍ لتقييد تدفُّق المياه ستُعامَلُ على أنها “إعلانُ حرب”.

هدأت التوترات بعد أن توصّلت الدولتان المتجاورتان المسلحتان نوويًا، الخصمان اللدودان، إلى تفاهُمٍ مُتبادَل في 10 أيار (مايو) لوقف جميع الأعمال العسكرية. ومع ذلك، لا تزال معاهدة مياه نهر السند -التي تُعَدُّ أحد الأمثلة النادرة على التعاون بين الهند وباكستان، حتى خلال فترات العداء والحرب المفتوحة السابقة- مُعَلَّقة.

في المدى القصير، لن يؤثّرَ هذا بشكلٍ كبير على إمداداتِ المياه في باكستان. تفتقرُ الهند إلى سعةِ تخزينٍ كافية على أنهار السند الغربية، وجهيلوم، وتشيناب لقطع تدفّق مياهها فورًا. ومع ذلك، أفادت التقارير أنَّ نيودلهي تدرسُ بنشاط مشاريع بنية تحتية من شأنها تقليل تدفّقات المصب مع مرور الوقت.

قد تكونُ لهذه المشاريع عواقب وخيمة. تعتمدُ باكستان على نظام نهر السند في ما يقرب من 80% من زراعتها. كما تعتمدُ على بيانات المنبع التي تقدّمها الهند لإدارة الفيضانات، والتنبؤ بالجفاف، وتخطيط دورات الري. وبدون معلوماتٍ آنية عن تدفقات الأنهار وإطلاقات السدود، قد تتعرّض قدرة باكستان على توليد الطاقة الكهرومائية، وضمان إمدادات مياه الشرب، والحفاظ على الأمن الغذائي، لخطرٍ شديد.

سابقة إقليمية؟

أثارَ تعليقُ اتفاقية المياه الدولية ناقوسَ الخطر بشأن وضع اتفاقياتٍ أخرى لتقاسُم المياه في جنوب آسيا. لدى الهند معاهدات ثنائية متعددة، بما في ذلك معاهدة ماهاكالي واتفاقية نهر كوسي مع نيبال، واتفاقية تيستا لتقاسم المياه مع بنغلاديش. وبينما تختلف هذه الاتفاقيات في نطاقها وبنيتها القانونية، فإنَّ العديد منها حسّاسٌ سياسيًا ويعتمد على حسن النية بدلًا من المعايير الدولية القابلة للتنفيذ.

قال مايكل كوغلمان، محلّل شؤون جنوب آسيا المقيم في واشنطن بأنَّ “الدول المجاورة الأخرى ستنظُرُ على الأرجح إلى تعليق اتفاقية المياه الدولية من منظور علاقة الهند الفريدة مع باكستان”. ومع ذلك، أشارَ إلى السابقة التي قد يُشكلها هذا الأمر كمصدرٍ لبعض المخاوف على الأقل. وأضاف: “إذا كانت الهند مستعدّة للانسحاب من معاهدة بوساطة البنك الدولي، الذي ينظرُ إليها على أنها قصة نجاح كبيرة، فماذا يمكنها أن تفعل عندما يتعلق الأمر بمعاهداتٍ أخرى لا يُنظَرُ إليها من خلال منظورٍ مرموقٍ وعالي المخاطر؟”.

يلوح هذا الخوف في الأفق بشكلٍ خاص في بنغلاديش، حيث تتصاعد التوترات مع الهند بشأن تقاسم المياه منذ سنوات. ومن المقرّر تجديد معاهدة مياه نهر الغانج، المُوقَّعة في العام 1996، في العام 2026. لكن العلاقات بين الجارَتَين توتّرت منذ إطاحةِ رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة الشيخة حسينة، التي فرت إلى الهند في العام 2024 وسط احتجاجات شعبية على حكمها الاستبدادي المتزايد.

تتزايد التوتّرات المائية أيضًا في أفغانستان المُعَرَّضة للجفاف، حيث أحيت الحكومة بقيادة طالبان مشاريع بناء السدود والقنوات على أنهارٍ رئيسة مثل هلمند، وأموداريا، وهريرود، وكابول، وكونار. وقد أثارت هذه المبادرات انتقادات لاذعة من دول المصبِّ المجاورة، مثل إيران وباكستان وتركمانستان، التي اتهمت كابول باستخدام المياه كورقةِ مُساوَمة في مفاوضاتٍ أخرى حول الطاقة والتجارة والأمن.

مع تزايُد انعدام الأمن المائي في أفغانستان، واستمرار محدودية التواصُل الديبلوماسي مع نظام طالبان -حتى في ظلِّ تعطُّلِ موارد المياه بسبب تغيُّر المناخ في جنوب ووسط آسيا- يظلُّ خطرُ تصاعُد النزاعات على المياه إلى مواجهاتٍ أوسع نطاقًا مرتفعًا، كما حدث بالفعل في الاشتباكات الحدودية بين أفغانستان وإيران في العام 2023.

الصين تلوح في الأفق

في غضون ذلك، يُواصِلُ لاعبٌ أقوى بكثير من دول المنبع تشكيل السياسات المائية في جنوب آسيا: الصين. فقد رفضت بكين الانضمام إلى أيِّ أُطُرٍ إقليمية لتَقَاسُم المياه، بينما تستثمرُ بكثافة في بناء السدود ومشاريع الطاقة الكهرومائية والبنية التحتية في جميع أنحاء المنطقة.

وبذلك، رسّخت مكانتها كلاعبٍ رئيس في إدارة نهر تيستا، الذي يتدفق من الهند إلى بنغلاديش، وهو أمرٌ يُشكّلُ مصدر قلق بين نيودلهي ودكا. كما تشارك الصين في العديد من مشاريع الطاقة الكهرومائية في نيبال، رُغم معارضة الهند، في إطار سعيها الحثيث لبسط نفوذها في المنطقة.

بكين، التي تتمتع بعلاقاتٍ عسكرية واقتصادية طويلة الأمد مع إسلام آباد، كثّفت أيضًا بناء سد مهمند “الرائد” في مقاطعة “خيبر بختونخوا” شمال غرب باكستان، وفقًا لتقرير صادر عن صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست”.

على الرُغمِ من أنَّ الهند تقع أعلى بالنسبة إلى المنبع من باكستان على نهر السند، إلّا أنَّ النهر ينبع من إقليم “التِبِت”، الخاضع للسيطرة الصينية، مما يثيرُ مخاوف من استخدام الصين للمياه كأداةٍ جيوسياسية، وهو أمرٌ فعلته في الماضي. على سبيل المثال، بعد اشتباك وادي غالوان في العام 2020، سدّت الصين نهر غالوان، أحد روافد نهر السند، مما تسبب في نقص المياه في أجزاءٍ من الهند.

ومع ذلك، يقع مشروع بكين الأكثر طموحًا على نهر “يارلونغ زانغبو”، المعروف في الهند باسم نهر “براهمابوترا”. في أواخر العام الفائت، أعلنت بكين عن خططٍ لبناء أكبر سد كهرومائي في العالم على النهر. وبمجرّد تشغيله، فإنَّ السدَّ سوف يمنح الصين سيطرةً غير مسبوقة على تدفّقات المياه إلى شمال شرق الهند وبنغلاديش، مما يثير المخاوف بشأن الفيضانات المفاجئة والجفاف وحتى التلاعُب الاستراتيجي بتدفّقات الأنهار في أوقات التوتّر.

ردًّا على ذلك، أحيت الهند خططها لبناءِ سدٍّ ضخم على نهر سيانغ، أحد روافد “براهمابوترا” الرئيسة في ولاية “أروناتشال براديش”، والذي يُغذّي أيضًا نهر يارلونغ زانغبو. ورُغمَ أنَّ هذا التسابُقَ على بناء السدود على أنهار الهيمالايا يُصوَّرُ كإجراءٍ دفاعي لمواجهة البنية التحتية الصينية، إلّا أنه ينطوي على مخاطر بيئية هائلة. فالمنطقة مُعَرَّضة للزلازل والانهيارات الأرضية المدمّرة، وقد تُهدِّدُ أيُّ انهياراتٍ كبيرة في السدود حياة ملايين الأشخاص.

مع تفاقُم آثار تغيُّر المناخ وتصاعُد التوترات السياسية، قد يؤدي الفشل في تعزيز المؤسّسات الإقليمية وتحديث المعاهدات إلى دفع الترتيبات الهشّة أصلًا إلى حافة الانهيار. لطالما كانت المياه شريان حياة مشتركًا في جنوب آسيا. ولكن ما لم تُحمَ وتُنَظَّم، فقد تُصبحُ أيضًا فتيلَ صراع.

  • بانساري كامدار هي صحافية وباحثة مقيمة في الهند. قبل ذلك، شغلت منصب محررة شؤون أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في وكالة “رويترز”، كما كتبت لصحيفة “بوسطن غلوب”، و”ذا ديبلومات”، و”هافينغتون بوست”، وغيرها من وسائل الإعلام.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى