تُجَّارٌ مُزدَوِجون: لبنان ومخاطرُ تجارةِ الكبتاغون (2 من 3)
أتاحَ الانهيار المالي في لبنان والصراع السوري نموَّ اقتصادٍ غير مشروع، ما أدّى إلى ظهورِ جيلٍ جديد من تجّار المخدّرات المُرتَبطين بأحزابٍ لبنانية ونفوذٍ في قوات الأمن. ولمعالجة هذا الوضع، يجب على الدولة اعتماد نهج شامل.

مهنّد الحاج علي*
انبثقت أنشطة تجار الكبتاغون، شأنها شأن الشبكات التقليدية، من سياقٍ اجتماعي واقتصادي مُحَدَّد في لبنان سهّل تنامي الأنشطة غير المشروعة، سواءً المتعلقة بالمخدرات أو غيرها. وقد ملأَت شبكات الكبتاغون الفراغَ الناجم عن الصراع السوري والانهيار المالي والاقتصادي الذي شهده لبنان في العامين 2019 و2020، بالإضافة إلى التحوُّلِ الهيكلي الذي أبعدَ البلاد عن الاعتماد على الريعية الإقليمية المُتراجِعة أصلًا.
والأشدُّ إثارةً للقلق هو أنَّ تجارة الكبتاغون قد تغلغلت في المؤسّسات السياسية والأمنية للدولة اللبنانية. وبينما لا يوجدُ دليلٌ على تورُّطِ أفرادٍ بارزين من الطبقة السياسية في الاتجار، يبدو أنَّ بعضهم قد أقامَ علاقاتٍ غامضة مع تجار ومهرّبي المخدرات، مما أثار تساؤلات مُحرِجة في المجتمع اللبناني. علاوةً على ذلك، يُشتَبَهُ في تورُّطِ أحزابٍ سياسية بارزة، ولا سيما “حزب الله”، في تجارة المخدرات. كلُّ هذا يشير إلى أنَّ القضاءَ على تجارة الكبتاغون قد يكون أصعب بكثير مما يُعتَقَد.
كانَ الصراعُ السوري دافعًا رئيسًا وراء توسُّع تجارة الكبتاغون بعد العام 2012. واجَهَ نظامُ الأسد ضغوطًا كبيرة بسبب الصراع، نتيجةً للعقوبات ورفضه قبول أيِّ حلٍّ سياسي من شأنه أن يُسهِمَ في تطبيع الوضع في البلاد. وبسبب نقص التمويل وعجزه عن تأمين تمويل إعادة الإعمار، قام النظام بدمج الجيش السوري في تجارة الكبتاغون. وقد خلقت هذه الشبكة من العلاقات مصالح متوازية مثيرة للدهشة، إذ شملت أيضًا شبكات تهريب عبر الحدود كانت متحالفة مع المعارضة السورية، بالإضافة إلى شبكاتٍ استفادت من تعاون “حزب الله” أو حمايته في لبنان. والأهم من ذلك، استفاد نظام الأسد من الطلب المتزايد على الكبتاغون في دول الخليج. لقد تدفّقت مليارات الدولارات إلى سوريا من الخليج، من دون شروطٍ سياسية، مما سمح للأسد باستخدام تجارة المخدرات كورقة مساومة في المفاوضات مع الدول العربية المتضرّرة.
رُغمَ أنَّ تجارة الكبتاغون كانت في البداية توسُّعًا حكوميًا في ظلِّ نظام الأسد الهشّ في سوريا، إلّا أنَّ أُسُسَها -الطلب المستدام في الخليج، والخبرة التقنية في إنتاج الكبتاغون، وشبكات النقل النشطة- امتدت إلى ما وراء النظام نفسه. يعكسُ انتشارُ النشاطَ الاقتصادي غير المشروع، مثل تجارة الكبتاغون، استجابةً مختلةً في لبنان وسوريا لضعف أنظمة الريع التي اعتمدا عليها، حيث أُعيدَ توزيعُ عائدات الدول المنتجة للنفط والغاز عبر وسائل مختلفة على الدول غير المنتجة للنفط، أو الدول المنتجة للنفط بكميات محدودة. استفادت الدولتان من هذا الريع، لكن تراجعه، بسبب العقوبات المفروضة على إيران وتحوُّل السياسات السعودية، إلى جانب انهيار الاقتصادين اللبناني والسوري والنظامين السياسيين، أجبر كلا البلدين على اللجوء إلى أسواق الظل للصمود والبقاء.
الأسد والكبتاغون
بعد سقوط نظام الأسد، سُلِّط الضوء على تورُّطه في تجارة الكبتاغون. كان النظامُ قد تولّى دورًا رئيسًا في إنتاج المخدرات بكميات كبيرة، حيث قُدِّرت عائداته السنوية بنحو 10 مليارات دولار في الفترة 2018-2019 وحتى سقوط بشار الأسد. كان هذا الرقم أعلى من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا آنذاك. لم تُوضَّح تفاصيل كيفية نموِّ تجارة الكبتاغون إلى هذا النطاق بشكلٍ كاملٍ بَعد، على الرُغم من ازدهار هذه التجارة بين أوروبا الشرقية والشرق الأوسط خلال ثمانينيات القرن الماضي، ثم نقلها إلى سوريا كيميائيون مُدَرَّبون في بلغاريا. وأشارت الأدلّة من شبكات الكبتاغون إلى وجودِ صلةٍ بالفرقة المدرَّعة الرابعة التابعة لماهر الأسد وإلى 15 منشأة ومرافق إنتاج رئيسة. أثبتت التحقيقات التي أجرتها السلطات اللبنانية وجود روابط بين دقو ورئيس مكتب ماهر الأسد، اللواء غسان بلال، الذي حافظ على اتصال منتظم مع الشبكة لمناقشة تسليم شحنات الكبتاغون من سوريا. وكان يُطلَق على بلال لقب “الزعيم” في محادثات دقو.
ومع ذلك، اقتصرَ موضوع العلاقة بينهما على جانب بلال من العملية ولم يشمل أنشطة دقو في لبنان، حيث تواصل مع جهات فاعلة مختلفة وسهّل شحنات إلى الخارج. على سبيل المثال، في ملفات تحقيق دقو، التي سُرّبت إلى وسائل الإعلام، توجد إشارات إلى بطاقات “SIM” واتصالاته السعودية. بالنسبة إلى تجار المخدرات عبر الحدود، كانت سوريا مركز الإنتاج الرئيس ولكنها ليست الوحيدة. كان لدى دقو صلات لبنانية، سواء مع “حزب الله” أو داخل الدولة والسوق اللبنانية، وحافظ على علاقات مع المتاجرين في البلدان التي يُرسل إليها الكبتاغون. وفي حين كان النظام السوري يسيطر بشكل كامل على أراضيه، كانت شبكات الاتجار التابعة له تعتمد على خدمات واتصالات أشخاص مثل دقو ورشاق، الذين لم يكن من السهل استبدالهم.
أشار الجانب اللبناني من تجارة الكبتاغون، كما كشف عنه تحقيق دقو، إلى تكرار الطريقة التي تدير بها النخبة السياسية لبنان بعد الحرب – أي من خلال تقسيم الغنائم الوطنية بين الزعماء الطائفيين الرئيسيين (أو المحاصصة). بمعنى آخر، على الرُغم من انقسامات البلاد، عندما يتعلق الأمر بالجريمة، فإنَّ للشبكات مصالح متوازية. اجتمع عددٌ من العوامل لتوسيع نطاق الأنشطة غير المشروعة. بحلول وقت اعتقال دقو في العام 2021، كانت البلاد مرت بعامين من انهيارٍ مالي واقتصادي. انخفض التمويل الإقليمي للطبقة السياسية في لبنان مع تغيير القيادة السعودية من العام 2015 فصاعدًا. أثرت حملة الضغط القصوى التي شنتها إدارة دونالد ترامب الأولى ضد إيران على كلٍّ من مالية طهران نفسها والاقتصاد اللبناني، مع زيادة التدقيق في القطاع المصرفي. إنَّ دورَ “حزب الله” في دعم نظام الأسد ووجوده على طول الحدود اللبنانية-السورية جعله شريكًا فعليًا في تهريب الكبتاغون. وقد اتهمت واشنطن “حزب الله” باستخدام المخدرات لتمويل أنشطته وفرضت عقوبات على أفرادٍ مرتبطين به.
وكان لظهور اقتصادٍ نقدي في لبنان، بفضل القيود المصرفية بعد الانهيار المالي في العامين 2019 و2020، دورٌ رئيس في تسهيل المعاملات غير المشروعة. في العام 2022، قُدِّر الاقتصاد النقدي بنحو 9.9 مليارات دولار، أي ما يعادل أقل بقليل من نصف الناتج المحلي الإجمالي للبنان، وفقًا للبنك الدولي. وقد تطوّرَ هذا جنبًا إلى جنب مع التهريب واسع النطاق الذي كان يحدث عبر الحدود اللبنانية-السورية، للبنزين وزيت الوقود على وجه الخصوص، حيث استفاد المهربون من حقيقة أنَّ لبنان يدعم أسعارهما. وحتى عندما تسبب هذا النظام المكلف في نقصٍ حاد في السلع الأساسية في لبنان، فقد حافظت الحكومة عليه وسط اتهامات بالتواطؤ بين السياسيين والمهرّبين. ووقع الحدث الأبرز في هذه الحقبة في قرية التليل الشمالية، حيث قُتل ثلاثون شخصًا جراء حريق في مستودع تمَّ تخزين الوقود فيه. وقد استخدمَ المتورّطون في تهريب الوقود صلاتهم السياسية لتجنُّب المساءلة ودفعوا لعائلات الضحايا للتخلّي عن دعاواهم القضائية. كانت هذه الاتصالات والتواطؤ، بما في ذلك مع “حزب الله”، ضرورية لإجراء عمليات التهريب بين لبنان وسوريا خلال الفترة 2019-2022.
لكن التهريب لم يكن سوى الجانب الأكثر وضوحًا للاقتصاد غير المشروع الناشئ. لم تكن تجارة الكبتاغون أقل شأنًا، حتى وإن كشفت صور دقو مع سياسيين لبنانيين، بعد اعتقاله في العام 2021، عن ارتباطاتٍ مثيرة للقلق. انتشرت هذه الصور على نطاق واسع، وأظهرت تاجر المخدرات مع رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، والأمين العام لتيار المستقبل، أحمد الحريري، ونائب “حزب الله” إبراهيم الموسوي. أظهرت اتصالات دقو مع الموسوي ومع سعد الحريري، الذي كان شخصية بارزة مناهضة للأسد ودعم المعارضة السورية خلال السنوات الأولى من الانتفاضة في سوريا، براغماتيته. وشملت معاملات دقو شراء سيارات من وزير الداخلية السابق في البلاد نهاد المشنوق، وهو شخصية أخرى مناهضة للأسد، والحصول على ترخيصٍ من وزير الداخلية آنذاك محمد فهمي لبناء مرافق تخزين في بلدته. أنكرت جميع الشخصيات السياسية معرفتها بأنَّ دقو كان تاجر كبتاغون، على الرغم من صعوبة تصديق ذلك. لا شك أنَّ موكب دقو وأسلوب حياته الباذخ ونشاطه على الحدود قد أثارت الشكوك حول مصادر دخله بين هؤلاء السياسيين الماكرين.
كانت القدرة على تجاوز الانقسامات السياسية، التي أظهرها دقو، واضحة أيضًا بين المتاجرين في سوريا، حيث كانت شبكات الكبتاغون اللبنانية بمثابة ممر إلى الشرق الأوسط الأوسع. وبينما ظل نظام الأسد الفاعل الرئيس في إنتاج المخدرات على المستوى الصناعي، فإنَّ تهريب الكبتاغون إلى الأردن استلزم التعامل مع شبكات محلية راسخة. وقد أنشأ بعض هذه الشبكات قادة جماعات المعارضة السورية الذين توقفوا عن قتال النظام بعد اتفاقيات المصالحة التي قادتها روسيا في العام 2018، لكنهم مع ذلك ظلوا مُعادين له. كان هؤلاء القادة وشبكاتهم أساسيين، إذ كانوا يعرفون التضاريس، ولديهم صلات بالعشائر الأردنية على الجانب الآخر من الحدود، وتمكنوا من التنقل في منطقة ذات كثافة عسكرية عالية. نظرًا لأن محافظة درعا في جنوب سوريا ظلت غير آمنة لجنود الحكومة واستمر العنف حتى انهيار النظام في كانون الأول (ديسمبر) 2024، فمن الواضح أنَّ شبكات التهريب المحلية كانت لها وكالة في ما يتعلق بمورِّدي الكبتاغون، وأنَّ العلاقة كانت زواج مصلحة، نظرًا لحاجة كلا الجانبين إلى الموارد. وحشدت المعارضة قواتها في درعا لاحقًا ولعبت دورًا رئيسًا في إطاحة النظام.
“إسكوبار جنوب سوريا”
كما شارك في تجارة الكبتاغون عبر الحدود من سوريا عبر الأردن مرعي الرمثان، وهو راعٍ محلّي تحوّل إلى تاجر مخدرات وكان يُعرف باسم “إسكوبار جنوب سوريا”. في أيار (مايو) 2023، اغتالته السلطات الأردنية في غارة جوية. وقد أشارت تقارير إعلامية إلى أنَّ الرمثان كانت له صلات بأجهزة المخابرات العسكرية السورية و”حزب الله”، ومع ذلك فإنَّ قوته نابعة من قدرته على العمل عبر الحدود. نظرًا للوجود العسكري الأردني المكثف على الحدود، استخدم تجار المخدرات وسائل مبتكرة لإرسال الشحنات عبرها، بما في ذلك استخدام أسراب من الطائرات المُسيّرة والحمام، مع الاعتماد على الظروف الجوية الصعبة للتهرُّب من المراقبة. كما شنّ الأردنيون غارات جوية ضد اثنين من تجار المخدرات المُشتبه بهم في محافظة السويداء السورية في كانون الثاني (يناير) 2024.
في شمال سوريا، انطوى طريقُ تهريبِ الكبتاغون إلى تركيا أيضًا على تعاونٍ بين النظام السوري والجماعات المُسلّحة التي تُشكّلُ جُزءًا من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا. أصبح مدى تورط الجيش الوطني السوري في تهريب المخدرات معروفًا للعامة الآن، مع مناقشاتٍ حول الأمر في وسائل الإعلام المُناهضة للأسد. وقد توسّع وجود الجيش الوطني السوري في سوريا جغرافيًا منذ سقوط النظام.
كما امتدت صلات تجار الكبتاغون إلى قوات الأمن اللبنانية، بالإضافة إلى شخصياتٍ بارزة في جانب الطلب في دول الخليج. تصدرت صلات محمد رشاق بضباط الأمن عناوين الصحف، مما يدل على أنه جنّدهم للمساعدة على إخفاء أنشطته. في الواقع، عمل أحد الضباط معه لسنوات، وأُلقي القبض عليه لاحقًا. ولم يكن أقل وضوحًا قدرة رشاق على تأمين إطلاق سراحه من سجنٍ سوري في العام 2011، مما يؤكد صلاته في سوريا. وشملت اتصالاته عبر الحدود الشهيرة أميرًا سعوديًا، عبد المحسن بن وليد بن عبد العزيز، الذي أُلقي القبض عليه في بيروت. في العام 2015 أُلقي القبض على المواطن السعودي، الذي أطلق عليه اللبنانيون اسم “أمير الكبتاغون”، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 أثناء استعداده للمغادرة ومعه ما يقرب من طنين من الكبتاغون في طائرة خاصة. أظهرت قضية الأمير أهمية عامل الطلب في المملكة العربية السعودية، حيث أُلقي القبض على ستة عشر موظفًا حكوميًا في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 في حملة على شبكة المخدرات.
جاءت اعتقالات رشاق وعبد العزيز في الوقت الذي تصاعدت التوترات بين المملكة العربية السعودية وإيران و”حزب الله” بشأن تدخل الأخير في سوريا واليمن، ومع انتقال السعودية إلى الحكم الفعلي للأمير محمد بن سلمان. في العام 2016، تمَّ القبضُ على رشاق مع عقيد في قوى الأمن الداخلي اللبنانية الذي تمت الإشارة إليه في التقارير الإعلامية بأنه “شريك” لمهرب المخدرات. في حين أن اعتقالات رشاق والأمير السعودي كانت مرتبطة، نظرًا لتورّطهما في تهريب الكبتاغون، فإنَّ الطريقة التي تم بها اعتقالهما، تشير إلى وجود أجندات سياسية مختلفة وراء كل من هذه الخطوات. اعتقلت وكالتان أمنيتان مختلفتان رشاق وعبد العزيز. اعتقل أمن المطار، الذي كان رئيسه في ذلك الوقت تابعًا ل”حزب الله”، الأمير السعودي. بدوره، أُلقي القبض على رشاق من قِبل فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي، الموالي لرئيس الوزراء السابق سعد الحريري، الحليف السعودي، بعد أن تلقى معلومات استخباراتية عن أنشطته من سلطات دول الخليج. أظهر كل هذا أن ديناميكيات تجارة المخدرات غالبًا ما تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة، مما يعكس كيفية دمج تجارة الكبتاغون في التنافسات السياسية الأوسع. وهذا يؤكد، مرة أخرى، مدى صعوبة وضع حد لها.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأخيرة التي تُنشرُ غدًا.
- مهند الحاج علي هو نائب مدير الأبحاث في مركز مالكولم هـ. كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يركز عمله على الجغرافيا السياسية المتغيرة والجماعات الإسلامية بعد الانتفاضات العربية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.