تَوَازُنُ القوى الجديد في الشرق الأوسط: أميركا، إيران، والمحور العربي الناشئ

إذا تمكّنت واشنطن وطهران من التوصُّلِ إلى اتفاق، فستُتاح لدول الخليج العربية فرصةٌ لتصبح محورَ نظام إقليمي جديد، بمحاور تمتد من خلالها إلى إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. بعد سنواتٍ من الحرب والاضطرابات، قد يُتيح ذلك أخيرًا فرصةً حقيقيةً لإحلال الاستقرار في المنطقة.

وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان ورئيس القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري عندما زار الأول طهران في نيسان/أبريل 2025.

وَلي رضا نصر*

خلال زيارته للشرق الأوسط في أيار (مايو) الفائت، قامَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأمورٍ عدة لم يَتَوَقّعها الكثيرون قبل أشهرٍ أو حتى قبل أسابيع. كان من بينها لقاؤه المفاجئ مع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، وما تلاهُ من رَفعٍ للعقوبات الأميركية عن سوريا، على الرُغم من تاريخ الشرع كزعيمٍ لجماعةٍ إسلامية مُتشَدِّدة. وكان من بين هذه الأمور أيضًا قراره بعدم إدراج إسرائيل في جدول الرحلة، على الرُغم من جهود إدارته المستمرّة لإنهاءِ الحرب في غزة. وجاءت هذه الزيارة في أعقابِ قرار الإدارة في أوائل أيار (مايو) بتوقيعِ اتفاقٍ ثُنائي لوقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن، بدون استشارة إسرائيل أو إشراكها. وإلى جانب بدء ترامب محادثات مباشرة مع إيران -وهي خطوة تُعارضها إسرائيل بشدة، لكن القادة العرب في الخليج العربي رَحّبوا بها بل وساهموا في تسهيلها- تُشيرُ هذه التطورات إلى مدى تغيُّرِ ميزان القوى الإقليمي منذ هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

لقد غيّرت حربُ غزة المشهدَ الجيوسياسي في الشرق الأوسط. في السنوات التي سبقت هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تشاطرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولٌ خليجية أخرى مع إسرائيل تصوُّرًا مفاده أنَّ إيران وتحالفها من القوى بالوكالة (الأذرع والعملاء) يُشكّلان التهديد الأكبر للمنطقة. دعمت هذه الدول حملة “الضغط الأقصى” التي شنّتها إدارة ترامب الأولى على طهران، وبدأت تطبيع العلاقات مع إسرائيل. اليوم، تَحوّلَ الوَضعُ جذريًا. بعد عشرين شهرًا من الحرب، تبدو طهران أقل تهديدًا بكثير للعالم العربي. في غضون ذلك، تبدو إسرائيل بشكلٍ متزايد قوةً إقليميةً مُهَيمِنة.

في خضم هذه التطوّرات، يقفُ حلفاءُ واشنطن العرب وإسرائيل الآن في مُعسكرَين مُتعارضَين بشأن مزايا اتفاقٍ نوويٍّ جديد. لا تزالُ إسرائيل ترى في الاتفاق شريانَ حياةٍ للجمهورية الإسلامية، وتحثُّ إدارة ترامب بدلًا من ذلك على اتخاذ إجراءٍ عسكري لتدمير المنشآت النووية الإيرانية. في المقابل، تخشى دولُ الخليج من حربٍ جديدة قد لا يُمكِنُ احتواؤها على أعتابها، وترى أنَّ الحلَّ الديبلوماسي مع طهران هو أمرٌ حيوي للأمن والاستقرار الإقليمِيَين. كما إنها حذرة من خلق شرق أوسط تتمتّعُ فيه إسرائيل بحرية التصرُّف – حتى في مستقبلٍ يُمكن فيه للتطبيع مع إسرائيل أن يتحقق. في سعيها إلى تحقيقِ توازُنٍ جديد بين إسرائيل وإيران، أصبحت دول الخليج أطرافًا رئيسة في مساعي ترامب للتوَصُّلِ إلى اتفاقٍ نووي جديد. وتهدفُ هذه الدول معًا إلى أن تُصبِحَ محورًا لنظامٍ إقليمي مُعاد تشكيله.

فشلُ الضغط

لفَهمِ مدى تحوُّلِ دول الخليج تجاه إيران، من الضروري أن نتذكُّرَ ردَّ فعلِ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على أول اتفاق نووي أميركي-إيراني قبل عقد من الزمان. عندما وَقّعت إيران والولايات المتحدة “خطة العمل الشاملة المشتركة” (الإتفاق النووي) في تموز (يوليو) 2015، شاركت دول الخليج قلق إسرائيل من أنها ستُعزّز نفوذ إيران الإقليمي. في ذلك الوقت، كان العالمُ العربي لا يزال يتعافى من الانتفاضات الشعبية خلال “الربيع العربي” 2010-2011، والتي أطاحت حُكّامًا أقوياء وأشعلت حروبًا أهلية في ليبيا وسوريا واليمن. استفادت إيران من الاضطرابات، ونحتت مجالَ نفوذٍ يمتد من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد المشرق العربي. في خطابٍ أمام الكونغرس الأميركي في آذار (مارس) 2015، حذّرَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أنَّ “إيران تُهيمن الآن على أربع عواصم عربية – بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء”. كانت دول الخليج العربية، مثل إسرائيل، قلقةً من أنَّ الولايات المتحدة، في سعيها إلى الاتفاق النووي، تتجاهل التهديد الإقليمي المتزايد الذي تُشَكِّلهُ الجمهورية الإسلامية ووكلاؤها وأذرعها. في الشهر نفسه الذي ألقى فيه نتنياهو خطابه، أعلنت المملكة العربية السعودية أنها تقودُ تدخّلًا عسكريًا في اليمن ضد الحوثيين، الجماعة المتمردة التي كانت توسّع نطاق نفوذ إيران في شبه الجزيرة العربية.

ربما بالغ كلٌّ من إسرائيل وحلفاء واشنطن الخليجيين في تقدير احتمال الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، لكن لا شك أنَّ الاضطرابات في العالم العربي قد رجّحت كفة ميزان القوى الإقليمي لصالح إيران. بالنسبة إلى منتقديها في الشرق الأوسط، لم تكن خطة العمل الشاملة المشتركة تتعلق فقط بالقدرات النووية الإيرانية، بل تتعلق أيضًا بنفوذ إيران النسبي. ووفقًا لشروط الاتفاق، حصلت إيران على تخفيفٍ للعقوبات لمجرّد موافقتها على الحد من برنامجها النووي؛ ولم تكن مُلزمة بكبح قواتها بالوكالة وأذرعها في المنطقة. ونتيجة لذلك، هدّدَ الاتفاق بزيادة نفوذ إيران حتى مع كبحه سعيها إلى امتلاك أسلحة نووية. وهكذا، تعاونت الدول العربية مع إسرائيل لتسليط الضوء على هذا الخلل، واستخدمته في جُهدٍ بارزٍ لتقويض خطة العمل الشاملة المشتركة. بالإضافة إلى الضغط بقوة على أعضاء الكونغرس ــوهو الهجوم الذي يرمز إليه خطاب نتنياهو في العام 2015ــ شملَ هذا الجهد حملةً عامة تسويقية وإعلامية ضد الاتفاق.

خلال إدارته الأولى، اتفق ترامب مع منتقدي الاتفاق النووي لعام 2015. تخلّت الولايات المتحدة من جانب واحدٍ عن خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2018 وفرضت عقوباتٍ اقتصادية على إيران تحت حملة “أقصى ضغط”. في ذلك الوقت، توقّعت إدارة ترامب أن يؤدّي هذا الضغط إلى إضعاف إيران وتقليص نفوذها الإقليمي لصالح نظامٍ إقليمي جديد يتمحور حول إسرائيل وحلفاء واشنطن العرب. شجعت الإدارة على توسيع التعاون الأمني ​​والاستخباراتي العربي-الإسرائيلي، والذي بلغ ذروته في اتفاقيات أبراهام في العام 2020 – وهي الاتفاقية التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وسلسلة من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما في ذلك البحرين والإمارات العربية المتحدة، ثم المغرب والسودان. كما اتخذت موقفًا أكثر صرامةً تجاه دعم إيران لوطلائها وأذرعتها  في جميع أنحاء المنطقة، لدرجة اتخاذ قرارٍ غير عادي للغاية باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، القائد القوي للحرس الثوري الإسلامي الإيراني، في بغداد في العام 2020.

استمرّت الاستراتيجية الأميركية الأكثر صرامةً تجاه إيران في عهد الرئيس جو بايدن. على عَكسِ التوقّعات، لم تُعِد إدارة بايدن العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة، وتجنّبت التعامل مع إيران، ولم تُوافِق على المحادثات إلّا بعد أن زادت إيران من حدّة التوتر بتسريعها تراكم اليورانيوم عالي التخصيب. ورَكّز بايدن، على غرار ترامب، على بناءِ محورٍ عربي-إسرائيلي. وهكذا أصبح تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية هو الأساس لسياسة بايدن في الشرق الأوسط. في الواقع، في وقت هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، اعتقدت الإدارة أنها على أعتابِ اتفاقٍ إسرائيلي-سعودي من شأنه أن يُحقِّقَ سلامًا دائمًا في المنطقة.

إطلاقُ العنان لإسرائيل

كما ستوضِّحُ الأحداث لاحقًا، كان هذا الافتراض مُضَلِّلًا للغاية. لم تُفضِ استراتيجية ترامب-بايدن إلّا إلى تفاقم التوترات الإقليمية. ردت إيران على الضغوط الأميركية بتوسيع برنامجها النووي ودعمها للحوثيين في اليمن في حربهم مع دول الخليج. كما بدأت مهاجمة المصالح الأميركية والخليجية بشكل مباشر، وأبرزها منشآت النفط السعودية، في العام 2019. حتى قبل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فقدت دول الخليج ثقتها باستراتيجية واشنطن. في آذار (مارس) 2023، انشقّت السعودية عن صفّها لتطبيع العلاقات مع إيران – في اتفاقٍ توسّطت فيه الصين. ومن الفوائد المباشرة لذلك وقف هجمات الحوثيين على السعودية والإمارات. وظلت دول الخليج مُلتَزِمة بتعزيزِ علاقاتها مع إسرائيل، لكنَّ الحفاظَ على التوازُن بين إيران وإسرائيل سيكونُ صعبًا.

ثم جاءت هجمات “حماس” وحرب إسرائيل الشرسة في غزة، ما عرقلَ التطبيع بين إسرائيل والسعودية. أصبح “محور المقاومة”، المُتجدِّد، المدعوم من إيران – بما في ذلك “حزب الله” في لبنان وحركة الحوثي في اليمن، اللذان اعتبرا، إلى جانب “حماس”، احتمال التطبيع الإسرائيلي-السعودي تهديدًا وجوديًا- في حالة حربٍ مفتوحة مع إسرائيل. افترضت إدارة بايدن أنَّ هذا الصراع الإقليمي الجديد سيُعزّزُ قضية تحالفٍ أمني بين إسرائيل ودول الخليج، لكن دول الخليج كانت مُتردّدة في الانجرار إلى هذا الصراع. في كانون الثاني (يناير) 2024، عندما قرر بايدن الرد عسكريًا على هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، تجنّبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التدخُّل بعناد، على الرغم من صراعهما المستمر منذ سنوات ضد الجماعة. كما كان على الدول العربية أن تأخذ في الاعتبار الغضب المتزايد لدى الرأي العام العربي إزاء معاملة سكان غزة، والذي حال دون أيِّ توطيدٍ إضافي للتعاون الأمني ​​العربي-الإسرائيلي.

ثم، في خريف العام 2024، قلبت سلسلة من النجاحات الإسرائيلية مجرى الحرب. ففي أواخر أيلول (سبتمبر)، قضت إسرائيل على القيادة العليا ل”حزب الله”، بما في ذلك زعيم المنظمة منذ فترة طويلة، السيد حسن نصر الله، في هجومٍ بالقنابل مستهدف – وهي ضربة أعقبت عملية سرية ناجحة دمّرت هيكلَ القيادة والسيطرة للجماعة باستخدام أجهزة نداء ولاسلكي متفجّرة. وفي الشهر التالي، قتلت القوات الإسرائيلية يحيى السنوار، زعيم “حماس” الذي كان العقل المدبّر لهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). وفي أوائل كانون الأول (ديسمبر)، انهار نظام بشار الأسد في سوريا، الحليف الوثيق لإيران منذ فترة طويلة. وفي الوقت نفسه، زادت عمليات تبادل الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة الخطيرة بين إيران وإسرائيل من المخاطر ولكنها أضعفت أيضًا هالة القوة الإيرانية، حيث زعمت إسرائيل أنها حيّدت ودمّرت العديد من الدفاعات الجوية الإيرانية.

بحلول نهاية العام، كان “محور المقاومة” قد تضاءل قدرةً ونفوذًا، ووجدت طهران نفسها معزولة إلى حدٍّ كبير عن المشرق العربي. حتى دفاع إيران عن وطنها بدا ضعيفًا. ومع استعداد ترامب، الداعم القوي لإسرائيل، للعودة إلى البيت الأبيض، رأت حكومة بنيامين نتنياهو الواثقة في إسرائيل فرصة نادرة لتوجيه ضربة حاسمة لإيران، وتدمير منشآتها النووية وبنيتها التحتية الاقتصادية في هجوم من شأنه أن يدفع الجمهورية الإسلامية إلى حافة الهاوية.

إيران في الميزان

مع ذلك، لم يتبع ترامب السيناريو الإسرائيلي المُتَوَقَّع. فخوفًا من أن تجرَّ الضرباتُ العسكرية على إيران الولايات المتحدة إلى حربٍ باهظة الثمن، قاوم الرئيس حتى الآن الضغوط الإسرائيلية للتخلّي عن الديبلوماسية وشَنِّ حربٍ مفتوحة على إيران. بدلًا من ذلك، دفع باتجاه صيغةٍ جديدة لما رفضه تحديدًا خلال ولايته الأولى: الاتفاق النووي. وبذلك، يحظى بدعمِ دول الخليج، التي، على الرُغم من معارضتها للاتفاق السابق، تُفضّلُ الآن أيضًا الديبلوماسية مع إيران. منذ تولي ترامب منصبه، حذّرت سلطنة عُمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من الحرب، ولعبت دور الوسيط بين طهران وواشنطن. والسبب الأوضح لهذا التحوُّل هو الخوف من تأثير الحرب في الخليج في اقتصاداتها. وعلى مستوى أعمق، ترى المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى أنَّ الاتفاق النووي أساسيٌّ لتحقيق توازن قوى جديد في الشرق الأوسط.

ويَعودُ دَعمُ الخليج للاتفاق النووي جُزئيًا إلى تغيُّرِ موقف إسرائيل في المنطقة. فحتى مع استمرار هجومها على غزة، بدأت إسرائيل بالفعل الظهور مُنتَصِرة، واثقة بتفوُّقها العسكري المُطلَق، ومُستَعِدّة لاستخدامه لفرض هيمنتها على الشرق الأوسط. فبالإضافة إلى توسيع احتلالها لقطاع غزة، الذي اقترح قادة إسرائيل وضعه تحت حكم عسكري لأجل غير مسمى، فرضت إسرائيل إرادتها على جنوب لبنان، وتحتل وتشنّ توغلات عسكرية في مساحات شاسعة من سوريا. وهي الآن تريد توسيع حملتها المنتصرة في المشرق العربي إلى الخليج، بهجومٍ عسكري على إيران. وبالإضافة إلى إثارة الرد الإيراني الذي قد يشمل قريبًا أهدافًا في شبه الجزيرة العربية، فإن مثل هذا الهجوم قد يؤدي إلى تعطيل إمدادات الطاقة العالمية ويلقي بظلالٍ من الشك على جدوى الطفرة الاقتصادية في الخليج في المدى الطويل.

لطالما قاومت القوى الرئيسة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الدول العربية وإيران وإسرائيل وتركيا، هيمنة جهة إقليمية واحدة. فعندما كان العالم العربي يسعى إلى الهيمنة تحت راية القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تكاتفت إيران وإسرائيل وتركيا لاحتوائه. وحتى بعد الثورة الإسلامية في العام 1979، لم تكن إسرائيل مُعادية لإيران تلقائيًا إذا ما فرضت موازين القوى الإقليمية خلاف ذلك: ففي السنوات الأولى من الحرب الإيرانية-العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان العراق بقيادة صدام حسين يكتسب اليد العليا ويدّعي قيادة العالم العربي، زوّدت إسرائيل إيران الإسلامية الثورية بالمعلومات الاستخباراتية والعتاد الحربي. وفي وقت لاحق، ومع ظهور إيران كقوة صاعدة، تعاون الإسرائيليون مع الدول العربية لمواجهتها.

والآن، وبعد أن ادّعت إسرائيل أنها القوة التي لا تُضاهى في المنطقة، تحتاج الدول العربية وإيران -وكذلك تركيا- إلى بعضها البعض لتحقيق التوازن. من بين الدول الأولى البحرين ومصر والأردن، التي لا تربطها علاقات ديبلوماسية بإيران، ولكنها، كغيرها من القوى العربية، زادت من مشاركتها بشكل كبير. والأهم من ذلك كله، أصبحت دول الخليج ركيزة إيران في سعيها إلى مفاوضات نووية مع الولايات المتحدة. تُدركُ دول الخليج أنها، في ظل التنافس بين إيران وإسرائيل، هي الجائزة. تريد إسرائيل محورًا مع العالم العربي من شأنه احتواء إيران، بينما تريد إيران حرمان إسرائيل من أيِّ موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. من جانبهم، يريد قادة الخليج نظامًا إقليميًا يكبحُ جماحَ كلٍّ من إيران وإسرائيل مع تمكين حكوماتهم. إنَّ هذه الضرورة الحتمية للتوازن هي التي حوّلت حلفاء واشنطن في الخليج من معارضين سابقين للاتفاق النووي إلى مؤيّدين أقوياء. من وجهة نظرهم، فإنَّ أيَّ اتفاقٍ جديد بين إيران والولايات المتحدة من شأنه أن يحرم إسرائيل من طريقٍ للحرب مع إيران قد يمتد إلى شواطئهم، ومن ثم يؤكد فقط تفوُّق إسرائيل الإقليمي غير المُقَيَّد.

في المقابل، أصبحت إيران، الحريصة على إبرام اتفاق نووي لتجنُّب الحرب وتعزيز اقتصادها المتعثّر، تعتمدُ بشكلٍ مُتزايد على دول الخليج للتأثير في إدارة ترامب واستمرار المفاوضات. على سبيل المثال، لعب وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي دورًا رئيسًا في المحادثات من خلال وضعِ مقترحاتٍ لسدِّ الفجوة بين طهران وواشنطن؛ وتبنّت المملكة العربية السعودية فكرة إنشاء تحالف نووي إقليمي مع إيران لإدارة تخصيب اليورانيوم بشكلٍ مشترك. كما أشار وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى أنَّ المملكة مستعدّة لاستخدام قوتها الاقتصادية للمساعدة على التوصُّل إلى اتفاقٍ نهائي.

محوَرُ الاستقرار

تحتاج إيران ودول الخليج العربية الآن إلى بعضهما البعض، ويحتاجُ كلا الجانبين إلى اتفاقٍ نووي. وهذا تطوُّرٌ مُرَحَّبٌ به. يمكن أن يبني الثقة بين دول الخليج المجاورة، مما يُمكّنها من تعميق شراكتها لتشمل التعاون الأمني ​​والاستثمارات والتجارة. علاوةً على ذلك، لا تتطلّب إعادة الانخراط مع إيران التخلي عن جهود التطبيع مع إسرائيل. لا يريد قادة الخليج أن يضطروا إلى الاختيار بين إيران وإسرائيل. إنهم يريدون علاقات مع كليهما لتحقيق توازن إقليمي يخدم مصالح دولهم ويضمن السلام والاستقرار الحيويين للأهداف الجيواقتصادية للمنطقة. بالنسبة إلى دول الخليج، من شأن الاتفاق النووي أن يوائم استراتيجيتها مع سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، والتي يمكن تكريسها بعد ذلك في شراكة استراتيجية رسمية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

بدا أن زيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج تؤكد هذا التوقُّع. حتى قبل وصوله إلى المنطقة، تجاهلت إدارته مخاوف إسرائيل وأبرمت اتفاق وقف إطلاق نار ثنائي مع الحوثيين. في الوقت نفسه، شكّلت الصفقات الاقتصادية الطموحة التي عرضها القادة العرب على ترامب خلفية للتصريحات الأميركية بشأن غزة وإيران وسوريا التي عكست أولويات الخليج على حساب تفضيلات إسرائيل. في كلِّ محطة من رحلته، كرّر ترامب تفضيله لحل القضية النووية الإيرانية عبر الديبلوماسية. وفي بعض المناسبات، بدا وكأنه يعترف بالمخاوف العربية بشأن الحرب في غزة: ففي أبو ظبي، على سبيل المثال، قال: “الكثير من الناس يتضوَّرون جوعًا في غزة” – منتقدًا على ما يبدو الحصار الإسرائيلي المستمر منذ عشرة أسابيع على المساعدات إلى القطاع.

ولكن لكي يُحقق هذا التقارب السلام والاستقرار الإقليميين، يجب على الولايات المتحدة أن تُؤطّرَ أيَّ اتفاقٍ نووي جديد مع إيران إطارًا استراتيجيًا أوسع. ويجب أن يترافق هذا الاتفاق مع السعي إلى توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام، وتطبيع علاقات إسرائيل ليس فقط مع المملكة العربية السعودية، بل أيضًا مع دولٍ عربية أخرى، مثل سوريا. ولاستئناف جهود التطبيع مع إسرائيل، ستطالب الرياض بإنهاء الحرب في غزة ومستقبل سياسي قابل للاستمرار للفلسطينيين. ولكن على صعيدٍ آخر، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين أن ينظروا إلى التطبيع كمُكمّل ضروري لكلٍّ من الاتفاق النووي الأميركي-الإيراني ومحور إيران ودول الخليج المتنامي، بحيث تُشكّل هذه العناصر الثلاثة معًا توازنًا إقليميًا جديدًا.

وبالطبع، قد تتعثّرُ المفاوضات الأميركية مع إيران، وقد تعود واشنطن إلى مسارٍ أكثر تصادمية مع طهران. ومن المرجح أن تُطيلَ هذه النتيجة أمَدَ الصراع الإقليمي وتُضيّق الخناق على أيِّ احتمالٍ لمزيد من التطبيع العربي-الإسرائيلي في المدى القريب. لكن إذا أمكن التوصل إلى اتفاق، فستُتاح لدول الخليج فرصةٌ لتصبح محور نظام إقليمي جديد، بمحاور تمتد من خلالها إلى إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. بعد سنوات من الحرب والاضطرابات، قد يُتيح ذلك أخيرًا فرصةً حقيقيةً لإحلال الاستقرار في المنطقة.

  • والي (فالي) نصر هو أستاذ كرسي ماجد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، ومؤلف كتاب “استراتيجية إيران الكبرى: تاريخ سياسي”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى