أما آنَ الأَوان لشِيعَةِ لبنان أن يعودوا إلى الحَسَن؟
يَحتاجُ الشيعة في لبنان إلى تيارٍ سياسيٍّ حَكِيم يَعبُرونَ معهُ هذا المنعطف الخطير في تاريخ المنطقة وهُم مُطمَئنّون لا مَعزولون ولا مُهَمَّشون. ربما يحتاجُ الشيعة أن يُعيدوا اكتشافَ نهج الحَسَن بن علي.

ملاك جعفر عبّاس*
باتَ واضحًا بحسب نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة في لبنان، التي جرت في أيار (مايو) الفائت، وقبلها الانتخابات النيابية، التي جرت في أيار (مايو) 2022، أنَّ الطائفة الشيعية تَنقَسِمُ إلى قسمَين، يزيدان او ينقصان قليلًا. ينخرطُ النصفُ الأوّل في الحراك السياسي انتخابًا، ويصبُّ في غالبيته عند الثنائي الشيعي (حزب الله” وحركة “أمل) وبقايا اليسار والإقطاع التقليدي. فيما هناكَ نصفٌ صامِتٌ لا يبدو مُتَحمِّسًا للمشاركة لاعتباراتٍ لم يسبر احدٌ أغوارها بَعد، وقد تكونُ مُرتَبِطة بحالةِ عدمِ اكتراثٍ ناجمةٍ عن يأسٍ من النظام السياسي السائد برُمّته، وهو ما يتقاطَعُ عليه كثيرٌ من اللبنانيين من طوائف مختلفة. أو ربما بحالةِ اعتراضٍ تُفضِّلُ الصمتَ في ظلِّ غيابِ مشروعٍ سياسي يَطرَحُ خيارًا حقيقيًا ومُتكامِلًا يدفعُ هذه الغالبية إلى الخروج عن صمتها. وقد يكونُ بعضٌ من الأمرَين وأكثر.
وقد قدّمَت مجموعاتٌ سياسية شيعية طروحاتٍ كثيرة منذ العام 2005 استند معظمها إلى مُقارباتٍ تنتهِجُ الواقعية السياسية وتُركّزُ في الغالب على مهاجمةِ أداءِ الثنائي الشيعي، تتحدّثُ عن “كسر الاحتكار” و”العودة إلى كنفِ الدولة”، كما جاء في خطابِ مجموعةِ اللقاء الشيعي، الذي عُقِدَ أخيرًا في بيروت، والذي، على جرأته وأهمّيته كصوتٍ مختلف، لا يُقدِّمُ مُقاربةً للمُرتَكَزِ الأساسي الذي صنع قوة “حزب الله” تحديدًا وسطوته على جمهوره، وهو البُعدُ الهَوِيّاتي لخطابه العقائدي والذي صنعته آلة تسويق (بروباغندا) ضخمة مُمتَدّة من إيران إلى أقصى قريةٍ حدودية في لبنان سَخّرت كلَّ عواملِ التأطير الإيديولوجي من خطابٍ إعلامي مُنضَبط ومناسبات سياسية واجتماعية وندوات ووسائل تواصل اجتماعي (“سوشال ميديا) ومؤلفات واناشيد. وقد ساهمت القبضة الأمنية والسطوة على الحَيّزِ العام في إفراغ الجنوب اللبناني من الطاقات الراغبة في العمل السياسي بسبب الاستهدافِ المُباشَر أو المُبَطَّن من خلال الاغتيال المعنوي لأيِّ “دخيلٍ” يُعتَبَرُ تهديدًا على ما يُعرَفُ ب”بيئة المقاومة”، حتى وصلَ الأمرُ إلى مَنعِ كثيرٍ من منظّمات المجتمع المدني من العمل الإنساني البحت للأسباب عينها، والتي أدّت في حقيقةِ الأمر إلى إفراغِ العملِ العام من مضمونه الإنمائي، وجَرَّت المعارضة إلى مربع المنافسة على مَبدَإِ “قُمّ لأقعد محلّك”. فأيُّ مساحةٍ لفِعلٍ سياسيٍّ تراكُمي تبدو مستحيلة في ظلِّ مَنعِ أيِّ عملٍ ميداني، مهما كان مُهادِنًا، من شغلِ مساحةٍ مستقلّة عن سطوةِ الثُنائي.
وفي غيابِ قدرةِ المشاريع البديلة على تحفيزِ الغالبية الصامتة على المشاركة، وعدمِ إنجازِ ال”ميغاسَنتر” الذي يُتيحُ للناخب الجنوبي والبقاعي المُعارض الساكن في بيروت وضواحيها الإدلاءَ بصوته من دونِ تعريضِ نفسه وعائلته إلى العَزلِ بالحدِّ الأدنى، يبدو أنَّ الجميعَ يتنافسون على أصواتِ الشريحة نفسها التي أعطت الثنائي الشيعي بسخاء ولا تزال، فيما يبدو الآخرون غرباء في قراهم يرتاب ناخبوهم المُفتَرَضون من خطابهم المُتماهي إلى حدٍّ كبير مع خطاب الخصوم السياسيين الذين يُعتَبَرون أعداءً في أدبيات الهويّة الأحادية فيسهل وصمهم بشيعة السفارات. فقد احترفَ “حزب الله” خلال العقود الاربعة الماضية عسكرةَ الهوية الشيعية خدمةً لمشروعه العقائدي القائم على طاعةِ الولي الفقيه وتحضير الأرضية لظهورِ الإمام المهدي صاحب العصر والزمان ليُقيم دولة الحقّ، جاعلًا من رمزية كربلاء أساسًا للمظلومية الشيعية ومن نهج الإمام الحسين بن علي في الثورة والمواجهة استراتيجية أبدية تَصلُحُ لكلِّ زمان ومكان في حين يغيبُ أو يكاد، ذكرُ الإمام الحسن بن علي عن هذه الأدبيات.
يُجمِعُ الفقهاء الشيعة على أنَّ الإمامَين الحسن والحسين شكّلا نموذَجَين مُتكامِلَين في السلوك السياسي، رُغمَ اختلافِ الوسائل. الإمام الحسن بن علي، الذي تولّى الخلافة بعد اغتيال والده الإمام علي بن ابي طالب، اختارَ الصُلحَ مع معاوية بن أبي سفيان بَعدَ إدراكه أنَّ موازينَ القوى لم تَكُن لصالحه، فآثرَ الحفاظَ على الدماء ووحدة الأمة. أما الحُسَين، فقد رفضَ مُبايَعَةَ يزيد بن معاوية وخرج في ثورةٍ انتهت باستشهاده في كربلاء، مُجَسِّدًا رمزًا للمظلومية والتضحية.
في الفقه الإمامي الكلاسيكي، لا يُقدَّمُ أحدُ النَهجَين على الآخر كحُكمٍ شرعي مُطلق، بل يُنظرُ إليهما باعتبار كلٍّ منهما يُمثل “تكليفًا شرعيًا” يختلفُ بحسب الظروف. وقد استعارَ مُؤسّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الإمام روح الله الخميني، في تنظيره السياسي، من الحُسَين رمز الثورة والمواجهة، متجاوزًا البُعد التاريخي لظرفية كربلاء، وحَوّلَ هذا النهج إلى مَبدَإٍ دائمٍ في السياسة الشيعية.
أما المرجعيات التقليدية في النجف، وعلى رأسها السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، فقد كانت تميلُ إلى المدرسة “الحَسَنيّة”، أي التحفّظ والحياد، وعدم زَجِّ الدين في صراعاتِ السلطة.
وقد أسّسَ الخميني لتحوّلٍ جذريٍّ في فَهمِ العلاقة بين الدين والسياسة، مُستَندًا إلى قراءةٍ جديدة للتاريخ الشيعي، خصوصًا في ما يتعلّقُ بثُنائية الإمامَين الحَسَن والحُسَين، فلم يتعامل الخميني مع خيارَي الصلح والثورة كاستجابتَين ظَرفِيتَين مختلفتين فقط، بل عَمَدَ إلى تراتبيتهما، مُفضِّلًا “النهج الحُسَيني” بوصفه النموذج الأعلى للقيادة الإسلامية في زمن الغَيبة. فهو يرى أنَّ الحُسَين خَرَجَ “لإقامة العدل”، وأنَّ نهضتَهُ لم تَكُن هزيمة، بل انتصارًا أخلاقيًا أبديًا. ولا يُقدِّمُ صُلحَ الحَسَن كنموذجٍ يُحتذى به في ظلِّ الاستبداد، بل كتكتيكٍ اضطراريٍّ لا يَصلُحُ للتأسيس السياسي. من هنا، بات “الدم الحسيني” رمزًا لتحدّي الظلم، و”الثورة” نهجًا ثابتًا، لا موقفًا ظرفيًا. وهو ما يُفسّرُ تركيزه على “ثقافة الشهادة” وتصديرها كأداةِ مُقاومةٍ دائمة في الداخل والخارج. وقد برّر الخميني تفضيله لهذا النهج بأنَّ الظروفَ السياسية والاجتماعية لعصر الغَيبة الكُبرى تقتضي تحريكَ الأمة لا تَهدِئتها، وإحياء روح الرفض لا مُهادنة السلطان. في هذا السياق، استعادَ مَفهومَ “القيام لله” الوارد في الخطابِ الحُسَيني، وربطه بولاية الفقيه كصيغةٍ للحُكم. فالفقيه، في نظره، لا يُديرُ شؤونَ المجتمع كوكيلٍ عن الإمام فحسب، بل يجب أن يتحلّى بشجاعةِ الحُسَين. وقد ساعدَ التوظيفُ الرمزي والسياسي لكربلاء بترسيخ مشروعية الثورة الإيرانية وربطها بالسَردية الدينية، لكنه، في المقابل، هَمّشَ المدرسة الفقهية التي طالما اعتبرت “النَهجَ الحَسَني” أداةً واقعية لحفظ الجماعة وتجنّب الفتن في محيطها العربي والدولي. وقد شكّل “حزب الله” التجسيد الفعلي لهذا الفكر من خلال تطبيقه عملًا لا قولًا، وتحويله إلى ما يُشبِهُ هويةً قومية لجماعته أوصلته لإعادة إنتاج كربلاء العصر الحديث يوم السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2024، تاريخ اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله.
وفيما يبدو الحزب عالقًا في ذلك المشروع، مُتمسِّكًا بمحورٍ ذَوَى، مُتَمَترِسًا خلفَ خطابِ المظلومية التاريخية، يبدو الشيعة اليوم أحوج ما يكون إلى مشروعٍ سياسيٍّ بديل، خصوصًا مع تناقُص أعداد المقترعين وتقلُّص هوامش الربح والتي قد لا تعني بالضرورة مزيدًا من الفُرَصِ لأيِّ مُرشّحٍ مُعارِض، فقد تعتكف الطائفة برمتها عن التصويت إن لم تطرح وجوهٌ ذات صدقية وحضور على الأرض مشروعًا أصيلًا يبدأ من تلبية احتياجات الناس اليومية التي يتشاركون فيها مع باقي إخوانهم في الوطن، مشروعٌ يعملُ بالنفس الطويلة، يؤسّسُ لحالةٍ حقيقية لا كردِّ فعلٍ فقط على الواقع المُعاش، يبلورُ خطابًا سياسيًا جديدًا بأدبياتٍ تستمدُّ شرعيتها من التاريخ الشيعي الغارق في تراب هذه الأرض يحفظُ التنوُّعَ داخل الطائفة ويفتح جسور التواصل والتشارك مع مكوّنات الوطن. يحتاج الشيعة في لبنان إلى مَن يفتحُ نوافذ الهوية على العالم والمحيط ويُحرّرها من سطوةِ الإيديولوجيا ويحافظ في الوقت نفسه على روح التشيُّع الاصيلة المُتمثّلة في الكرامة والرأس المرفوع دائمًا دفاعًا عن الحق. يَحتاجُ الشيعة إلى تيارٍ سياسي حكيم يعبرون معه هذا المنعطف الخطير في تاريخ المنطقة وهم مطمئنون لا معزولون ولا مُهَمَّشون. ربما يحتاج الشيعة أن يُعيدوا اكتشافَ نهج الحَسَن.
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية حاورت شخصياتٍ عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.