العملاتُ الرقميّة قد تُخفِّفُ من وطأةِ صدماتِ حربِ ترامب التجارية
تُعَدُّ عملات البنوك المركزية الرقمية والعملات المستقرّة أدواتٍ واعدة للتخفيف من التداعيات الاقتصادية للركود الناجم عن الحرب التجارية. إنَّ تصميمها القابل للبرمجة، وكفاءتها في المعاملات، وإمكانية دقة سياساتها، توفّرُ مزايا قَيّمة في سياقات الأزمات التي قد تتعثّرُ فيها الأدوات التقليدية.

س. ياش كالاش*
أدّت عودة القومية الاقتصادية والسياسات التجارية الحمائية منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لا سيما من خلال تصعيد الرسوم الجمركية المفروضة على الصين وشركاء تجاريين رئيسيين آخرين، ثم تخفيفها، إلى اضطراباتٍ كبيرة في تدفّقات التجارة العالمية، مع احتمالِ حدوث المزيد منها في المستقبل. هذه الإجراءات، التي يُفترَض أنها تهدفُ إلى تصحيح الاختلالات التجارية، أدّت بدلًا من ذلك إلى فَرضِ رسومٍ جمركية انتقامية، وتقلباتٍ في الأسواق العالمية، واحتمال انخفاض الاستثمار عبر الحدود. ومع تفكُّك سلاسل التوريد وتباطؤ الإنتاج الصناعي، واجَهَ العديدُ من الاقتصادات خطر الضغوط الركودية، مما كشفَ عن هشاشةِ الترابط الاقتصادي العالمي في ظلِّ الضغوط السياسية.
في خضمِّ هذه التوتّرات الهيكلية، برزت الأصول الرقمية -وأبرزها العملات الرقمية للبنوك المركزية، والعملات المُستَقِرّة- كأدواتٍ مُحتَملة للابتكار النقدي والمالي، من شأنها أن تُسهِمَ في مُعالجةِ بعضِ الاضطراباتِ الناجمة عن تعريفات ترامب الجمركية وغيرها من الصدمات النظامية التي ضربت الاقتصادَ العالمي.
في هذا السياق، من الضروري التمييز بين مختلف الأدوات المالية الرقمية التي هي قيد الدراسة حاليًا. العملات الرقمية للبنوك المركزية هي رموزٌ رقمية أصلية صادرة عن جهاتٍ سيادية للعملة الورقية للدولة. تُدارُ هذه العملات مباشرةً من قِبل البنوك المركزية، وهي مُصَمَّمة لتكون عملةً قانونية، مما يضمنُ سيادةً نقدية مُعزّزة، وشمولًا ماليًا أوسع، وشفافيةً أكبر في المعاملات ضمنَ إطارٍ مُنظّم. حتى الآن، أطلقت ثلاث دول -نيجيريا وجزر البهاماس وجامايكا- عملاتٍ رقمية للبنوك المركزية، بينما تُجري عشرات الدول الأخرى، بما في ذلك الصين وأوروبا والهند والبرازيل، تجارب عليها.
من ناحيةٍ أخرى، تُعدّ العملات المُستَقِرّة، في نسختها الحالية، رموزًا رقمية صادرة عن جهاتٍ خاصة، مُصَمَّمة للحفاظ على قيمةٍ مُستَقِرّة من خلالِ ربطها بالعملات الورقية أو السلع المادية. وتهدفُ إلى دَمجِ استقرار العملات التقليدية مع كفاءةِ البُنى المالية اللامركزية أو الهجينة.
وعلى عَكسِ العملات المُشَفَّرة المُضارِبة مثل “بيتكوين”، فقد صُمِّمَت كلٌّ من العملات الرقمية للبنوك المركزية والعملات المُستَقِرّة أساسًا لتحسين كفاءة الدفع وتسهيل تكامُلٍ أعمق ضمن النظام المالي الأوسع. يكمنُ الفارق التكنولوجي الرئيس في ميزاتها القابلة للبرمجة وقدرتها على تكامل البيانات في الوقتِ الفعلي. وهذا يسمحُ بإجراءِ معاملاتٍ مشروطة مثل الإعانات المُوَجَّهة أو ضوابط رأس المال، بالإضافة إلى النشر السريع لتدابير الإغاثة وتعزيز الرقابة النظامية – وهي قدرات تكتسبُ أهمية خاصة في عصر التجارة العالمية المُتصدِّعة والصدمات الاقتصادية المُتكرّرة.
على الرُغم من أنَّ هذه الأشكال والرموز الرقمية من النقود صُمِّمت في البداية لتعزيز أنظمة الدفع والشمول المالي، إلّا أنها تتمتّعُ بالقدرة على مواجهة تحدّيات الاقتصادِ الكُلِّي الأوسع، بما في ذلك استقرار الاقتصادات خلال فترات الانكماش الاقتصادي الناجمة عن عوامل خارجية. لقد شَكّلَ فَرضُ الولايات المتحدة للرسوم الجمركية في عهد إدارة دونالد ترامب، وخصوصًاً على الصين، تحوُّلًا واضحًا عن قواعد التجارة مُتعدّدة الأطراف. ورُغمَ أنَّ تداعياتَ هذه الرسوم لم تُحَدَّد بالكامل بعد، إلّا أنه يُفترَض أنَّ العالم لن يشهدَ تباطؤًا في التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين فحسب، بل سيشهد أيضًا اضطرابًا أوسع في سلاسل التوريد العالمية، مع تداعياتٍ تمتدُّ إلى الاقتصادات المُتقدِّمة والناشئة على حدٍّ سواء.
تاريخيًّا، أحدثت حروبٌ تجارية بهذا الحجم على الدوام آثارًا انكماشية، تمثلت في انخفاض أحجام الصادرات، وانخفاض الإنتاج الصناعي، وارتفاع تكاليف المدخلات. وفي ظلِّ حالة عدم اليقين وتقلُب شروط التجارة، غالبًا ما تؤجِّلُ الشركات قرارات الاستثمار، مما يُفاقم الركود الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، يُمكنُ أن تؤدّي تقلّبات السوق وانخفاض قيمة العملات، لا سيما في الاقتصادات المُعَرَّضة للمخاطر التجارية، إلى هروب رؤوس الأموال وعدم الاستقرار المالي.
غالبًا ما تكون العواقب الاقتصادية لهذه الاضطرابات ركودية بطبيعتها. ومع ذلك، فإنَّ الاستجابات النقدية والمالية التقليدية لا تتسم دائمًا بالمرونة أو الفعالية بالتساوي في هذا السياق، لا سيما في الاقتصادات ذات الحَيِّز السياسي المحدود. ويُفسّرُ هذا التحدّي الاهتمام المتزايد بالأدوات البديلة، بما في ذلك الأصول الرقمية، للتخفيف من حدة الصدمات الخارجية.
ازدادت أهمية الأصول الرقمية مع سعي الحكومات والجهات الفاعلة الخاصة إلى تحديثِ البُنى التحتية للدفع وزيادة الشمول المالي. ومع ذلك، فإنَّ إمكاناتها تتجاوز كفاءة المعاملات. إذ تُوفّرُ ميزاتها القابلة للبرمجة وقدرتها على تكامل البيانات في الوقت الفعلي إمكانياتٍ لتدخُّلاتٍ نقدية أكثر استهدافًا، بما في ذلك خلال فترات الضائقة الاقتصادية. تُضيف هذه المرونة الوظيفية أداةً فعّالة إلى جهود صانعي السياسات في سعيهم نحو استقرار الاقتصاد الكلي، لا سيما في سيناريوهات الأزمات الناجمة عن الاضطرابات التجارية والمالية.
في البيئات الركودية الناجمة عن الحروب التجارية، تُقدّم الأصول الرقمية آلياتٍ جديدةً عديدةً لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. أوّلًا، تُوفّر العملات الرقمية للبنوك المركزية قناةً مباشرةً وقابلةً للبرمجة للتحفيز النقدي. يُمكن للحكومات نشر تحويلاتٍ مُوجَّهةٍ للأُسَر أو الشركات بدون الاعتماد على وسطاء، مما يُسرّع من أثر السياسة النقدية ويُعزّز دقّتها. وقد يُثبت هذا النهج فعاليته بشكلٍ خاص في فترات انخفاض الطلب والاختناقات المؤسّسية.
ثانيًا، يُمكن لكلٍّ من العملات الرقمية للبنوك المركزية والعملات المُستَقرّة أن تُقلِّلَ من الاحتكاك في المعاملات عبر الحدود. فكثيرًا ما تُفاقم التوترات التجارية تقلبات العملات وتُعَطِّلُ التسويات الدولية. ونظرًا لارتباطها بأصولٍ مُنخفضة التقلّبات، يُمكن للعملات المستقرّة أن تُمثّلَ وحداتَ حسابٍ مؤقتة أو مخازن للقيمة في الولايات القضائية التي تُواجه هروبًا لرؤوس الأموال أو انخفاضًا في قيمة عملاتها المحلية. كما يُمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية، المُزوَّدة بميزات التوافق التشغيلي عبر الحدود، أن تُسهِّلَ التجارة الثنائية أو الإقليمية خارج الأنظمة التقليدية القائمة على الدولار، مما يُعزّزُ من حماية الاقتصادات من الضغوط المالية الخارجية.
ثالثًا، تُوفّر الطبيعة الغنية بالبيانات لمنصّات الأصول الرقمية رؤى اقتصادية آنية، مما يُتيح تدخُّلاتٍ سياسية أكثر استجابةً وتكيّفًا. وتُشيرُ هذه القدرات مجتمعةً إلى أنَّ الأصول الرقمية يُمكن أن تُشكِّلَ أدواتٍ مُكمّلة ضمن استراتيجياتٍ اقتصادية أوسع نطاقًا لمواجهة التقلبات الدورية.
ومع ذلك، وعلى الرُغم من إمكاناتها، فإنّ استخدامَ الأصول الرقمية كأدواتٍ للاقتصاد الكُلّي مُحفوفٌ بالقيود الهيكلية والتنظيمية والجيوسياسية. والأهم من ذلك، أنَّ الجاهزية المؤسّسية تتفاوت بشكلٍ كبير بين الولايات القضائية. إنَّ تنفيذَ البنية التحتية للعملات الرقمية للبنوك المركزية الآمنة والقابلة للتطوير والمرنة لا يتطلّب القدرة التكنولوجية فحسب، بل يتطلّب أيضًا أُطُرًا قانونية وتنظيمية قوية – وكثيرٌ منها يلزمه تطوير.
على الرُغم من سرعة انتشار العملات المستقرّة، إلّا أنَّ إصدارها من قِبل جهاتٍ فاعلة غير حكومية من القطاع الخاص يُثيرُ مخاوفَ بشأن السيادة النقدية والمراجحة التنظيمية. وقد يُقوّض انتشارها ضوابط رأس المال ويُضعف قدرة البنوك المركزية على إدارة سياسةٍ نقدية فعّالة، لا سيما في الأسواق الناشئة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ غيابَ الرقابة العالمية المُوَحَّدة يزيد من خطر التشرذم المالي والتدفقات المالية غير المشروعة.
من الناحية الجيوسياسية، قد يُعمّق التبنّي غير المتكافئ للعملات الرقمية الاختلالات المالية العالمية. فإذا طوّرت القوى الكبرى عملات رقمية للبنوك المركزية ذات نطاقٍ يتجاوز حدودها الإقليمية، فقد تواجه الاقتصادات الأصغر أشكالًا جديدة من التبعية أو الإقصاء. وأخيرًا، لا تزال القضايا العالقة المُتعلّقة بالخصوصية والمراقبة والأمن السيبراني تُشكّل تحديات، مما يُقوّض ثقة الجمهور وقابلية التوسُّع في المدى الطويل. وتُؤكد هذه المخاطر على ضرورة اتباع استراتيجياتِ تنفيذٍ حذرة ومُنسّقة، في وقتٍ يشهدُ التعاون متعدد الأطراف ضغوطًا، لا سيما بسبب الحرب التجارية التي تشنُّها إدارة ترامب.
تُعَدُّ عملاتُ البنوك المركزية الرقمية والعملاتُ المُستَقرّة أدواتٍ واعدة للتخفيف من التداعيات الاقتصادية للركود الناجم عن الحرب التجارية. إنَّ تصميمها القابل للبرمجة، وكفاءتها في المعاملات، وإمكانية دقة سياساتها، توفّرُ مزايا قَيّمة في سياقات الأزمات التي قد تتعثّرُ فيها الأدوات التقليدية. ومع ذلك، لا تزال قضايا مثل فجوات البنية التحتية التكنولوجية، ومخاوف الخصوصية، والاحتكاك عبر الحدود، وعدم تكافؤ الاستعداد التنظيمي، تعيق انتشارها على نطاقٍ واسع.
لتحقيق كامل مزايا الأصول الرقمية، يجب أوّلًا معالجة هذه القيود الكبيرة المُتعلّقة بالتبنّي والتشغيل البَيني والوضوح التنظيمي. ومع استمرار تطوُّر الأصول الرقمية، ستعتمد فائدتها الاستراتيجية على حَوكَمةٍ دقيقة، وبناءِ القدرات المؤسّسية، والتنسيقِ مُتعدّدِ الأطراف لضمان دعمها للنظام الاقتصادي العالمي المتزايد هشاشة، بدلاً من زعزعته.
- س. ياش كالاش هو مدير أبحاث الاقتصاد الرقمي في “مركز الابتكار الدولي للحَوكمة” (Centre for International Governance Innovation.). وهو خبيرٌ في الاستراتيجية والسياسات العامة والتكنولوجيا الرقمية والخدمات المالية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.