الاتكال غير مَنَاعيّ على “الذكاء” الاصطناعيّ

هنري زغيب*

على مدخل “مركز مايو كلينِك” الطبي الأَميركي الشهير (تأَسَّس سنة 1864) في مدينة روتْشِسْتِر (ولاية مينيسوتَّا)، هذه الثلاثيةُ البليغة: “فَكِّرْ طَمُوحًا، إِبْدأْ بسيطًا، نَفِّذْ سريعًا”. وفي شرح الثلاثية (كما ورَدَ في نص “دائرة الابتكار والتسويق” مُنْشِئَة الثلاثية لدى “مايو كلينِك”): “أَن تسعى إِلى بلوغ أَعلى ما تَطمح إِليه، وأَن تبدأَ من أَبْسط ما يُجَنِّبُكَ تعقيدَ مراحل عملِك، وأَن تُنَفِّذَ هذه المراحل تَوَاليًا بسرعةٍ واعيةٍ دون الوقُوع في التَسَرُّع”.

سَمَّيْتُها “ثلاثية بليغة” لأَنها فعلًا كذلك، من مبدَإِ أَنَّ “البلاغة في الإِيجاز”، ومن مقولة أَنَّ “الأَقلَّ هو الأَكثر”، ومن معادلة عبدالقاهر الجرجاني (1009-1078) في نظريته عن “معنى المعنى”.

مناسبةُ هذا الموضوع ما حدَثَ لصديقةٍ عنَّ لها هذا الأُسبوع أَن تسأَل “البروفسور” الخواجة “جي بي تي” (GPT) عمَّن أَطلقَ الثلاثية أَعلاه (فَكِّر، إِبدَأْ، نَفِّذْ)، فجاءَها الجواب الحَلَنْتيشي التالي: “هي السيدة بيتي كومْسْتُوك، النائبة السابقة للمدير العام في شركة جنرال إِلكتريك”.

طبعًا لا يفاجئُني هذا الجوابُ الجَعْثُوث (الكلمة الأَخيرة من اختراعي الشخصي لا معنى لها تدلُّ على ما لا معنى له). وكيف يفاجئُني طالَما حضرة البروفسور GPT هو في أَساس معناه “Generative Pre-trained Transformer”، بما تُـمكِنُ ترجمتُه بــ”محوِّل توليديّ مُسْبَقِ المعطَيات”. ومن اسمه الرُباعيّ هذا تستوقفُنا كلمة “مُسْبَق”، أَي أَننا نسأَل الأَخ عن موادَّ موجودةٍ سَلًفًا مُخَزَّنَةٍ متراكمةٍ مفَهْرسةٍ مبرمَجَةٍ في ذاكرته الاصطناعية، يَسْحبُ منها فورًا ما يُجيبُنا به عن تَسْآلنا إِياه. وأَقول “فورًا” لأَنه يستلُّ من مخزونه أَوَّلَ كتلةِ معلوماتٍ لديه تُجيب عن السؤَال، بدون تدقيقٍ فوريٍّ عن معنى المعنى، أَي عن السياق العام. لذا هو يجيب فقط، ولا يقرِّر إِن كان ما نطلبه منه هو ما عنه أَجاب. ربما كان صحيحًا (بما في مخزونه من معلوماتٍ معطاةٍ له مُسْبَقًا) أَنَّ “مدام بيتي” استخدمَت، كسواها، هذه الثلاثية. لكنَّ السؤَال كان “مَن أَطلق هذه الثلاثية” لا مَن يستعملها. لذا جاء الجوابُ غيرَ دقيق.

لا أَكتبُ هذا لأُقلِّلَ من بعض فوائد الـ”جي بي تي”.  فلا يمكن أَن أَكونَ خارجَ هذه المرحلة من العصر وقفزاتها التكنولوجية السريعة، لكنني أَقول إِن أَجوبته غالبًا ناقصة أَو مغلوطة، فلا نأْخُذَنَّها كما هي، قبل التحقُّق من “معنى المعنى” فيها، أَي من السياق المعنويِّ الذي جاءَت فيه الكلمة. والسياق أَحيانًا يُغيِّرُ كليًّا في معناها أَو ترجمتها أَو تفسيرها.

لذا لا أَجدُ صحيحةً تسميةَ “الذكاء الاصطناعي”، لأَن الذكاءَ الخلَّاق المبتكِر هو للإِنسان وحده، وهو غريزيٌّ في الحيوان، أَو تلقائيٌّ في النبات. من هنا أُفضِّل تسمية “الذاكرة الاصطناعية”، لأَن ذاكرة الإِنسان تضعف، أَو تنطفئ، أَو تخون، فيكونُ خلاصُها بتخزين موادِّها اصطناعيًّا في آلةٍ تحفظُها لتكونَ جاهزة عند اطِّلابها. وهذه أَصلًا مهمة الآلة (الروبوت، الكومبيوتر، الآلة الحاسبة، آلة التسجيل الصوتي أَو كاميرا الفيديو، …): أَن تُعطينا غبَّ الطلبِ ما لديها ممَّا نطلبُه منها. وأُكرِّر: “ما لدَيها” أَي ما نكون نحن مسْبَقًا أَلْقَمناها إِياه.

هذا هو دور “الذاكرة الاصطناعية”، أَي “المصَنَّعَة”، أَي “المخزونة” سلَفًا (لا “الذكاء” الاصطناعي). ويبقى، دائمًا يبقى، أَن نتحقَّق من أَجوبتها (في سياقِ ما نُريده نحن ونَقصدُه من السؤَال)، لا أَن نتلقَّفَ أَجوبتَها ببَّغائيًّا، ونتبنَّاها، ونستخدمَها على أَنها ثابتةٌ علميًّا أَو أَكاديميًّا. لذا عَنْوَنْتُ مقالي أَعلاه: الاتِّكالُ غيرُ “مَنَاعيّ” على الذكاء “الاصطناعيّ”.

وقبل أَن أُنهي، أُشير إِلى التلَقُّف “الببغائي” وخطَرِهِ على تلامذة المدارس وطلَّاب الجامعات، حين يَبْنون أَجوبتَهم (أَو التحضيرات) لفروضهم وامتحاناتهم بدون تدقيقٍ يناسبُ ما يَطلبون فتُبعدُهم الأَجوبة “الاصطناعية” العمياء عن الأَجوبة الصحيحة.

التكنولوجيا؟ صحيح. لكنها هي في خدمة الإِنسان، لا أَن يتحوَّل عميانيًّا خادمَها المطيع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى