ثُلاثِيَّةُ الثروة في 2026: ذَهَبُ الملاذ، وفِضَّةُ الحصان الأسود، والبجعةُ السوداء المُتَرَبِّصة

البروفِسور بيار الخوري*

عاشَ الذهبُ في العام 2025 حالةً من إعادةِ صياغةِ القواعد، حيثُ لم يَعُد مُجرَّدَ أصلٍ تقليدي يلجأُ إليه المستثمرون عند القلق. فمع انحسارِ حقبة الفوائد المُرتفعة ودخول البنوك المركزية العالمية مرحلة التقاط الأنفاس، استعادَ المعدنُ الأصفر بريقه التاريخي من جديد. هذا التحوُّلُ النقدي أطلقَ موجةَ صعودٍ متواصلة في الأسعار، ما عزّزَ قناعةَ الأفراد والشركات بأنَّ الذهب لا يزالُ الحارسَ الأوثق لقدرتهم الشرائية في زمنٍ تتكاثر فيه الشكوك.

ولم يَكُن هذا التألُّقُ مُنعَزِلًا عن السياق السياسي العالمي. فقد تزامَنَ صعودُ الذهب مع تصاعُدِ الضجيج الجيوسياسي وتكاثُرِ بُؤرِ التوتُّر، الأمر الذي أعادَ إلى الواجهة مفهوم “الملاذ الآمن”. وما مَنَعَ السعر من الهبوط الحاد في لحظاتِ التقلُّبِ هو الإقبال الكبير من البنوك المركزية في الدول الناشئة على ملء خزائنها بالذهب، مما خلق شبكةَ أمانٍ منعت الأسعار من الانهيار رُغمَ العواصف التي ضربت الأسهم والعملات الرقمية.

ومع التطلُّع إلى العام 2026، تتجِهُ أنظارُ العالم إلى قرارات السياسة النقدية الأميركية، بوصفها المُحرِّك الأكثر حساسيَّةً لمسار الذهب. فكلُّ إشارةٍ إلى خفضِ الفائدة تعني عمليًا زيادة جاذبية المعدن الأصفر، إذ تتراجَعُ تكلفة الفُرصة البديلة للعوائد الدورية مثل السندات.

وفي خلفية هذا المشهد، يستمرُّ الصراعُ التاريخي بين الذهب والدولار؛ فكلما أنهكت الديون العملة الأميركية وأضعفت ثقة الأسواق بها، وَجَدَ الذهبُ فُرصةً للتحليق وتأكيد دوره كمرساةِ استقرار.

إلى جانب ذلك، لا يُمكِنُ أن ننسى “ضريبة القلق” الجيوسياسية، فالتوتّرات التجارية والسياسية تجعلُ السبائك هي اللغة الوحيدة التي يثق بها الجميع. والمفاجأة تأتي من المختبرات والمصانع التكنولوجية، حيث يزدادُ دخول الذهب في الصناعات الدقيقة، مما يضيف طلبًا جديدًا يتجاوز كونه مجرّدَ زينة أو مخزنٍ للقيمة، وتمنحه دورًا مُتجدّدًا في الاقتصاد الحديث.

​ وفي خضمِّ هذه العوامل المُتشابكة التي تُعيدُ رَسمَ موقع الذهب في المشهد الاقتصادي العالمي، لا يبدو أنَّ التوقعات المستقبلية أقل إثارةً للجدل. فمع اقتراب العام 2026، تتجه أنظارُ المؤسسات المالية الكبرى إلى المعدن الأصفر بعَينٍ يغلبُ عليها التفاؤل الحذر.بنوكٌ استثمارية عريقة، مثل “غولدمان ساكس” و”جي بي مورغان”، ترى أنَّ الذهبَ مُرَشّحٌ لتجاوز متوسّطاته السعرية السابقة. هذا الشعورُ الإيجابي يشارك فيه مجلس الذهب العالمي، لا سيما مع عودة صناديق الاستثمار الكبرى إلى تعزيز حيازاتها من المعدن الأصفر بعد فترةٍ من الترقُّب.

ورُغمَ هذا الإجماع النسبي، تَبرُزُ نقطةَ خلافٍ مُثيرة حول “الركود الاقتصادي”؛ فبينما يرى البعضُ أنه سيكونُ الوقودَ لقفزةٍ سعرية جنونية لا تتكرّر، يخشى آخرون أن يؤدّي نقصُ السيولة في الأسواق إلى ضغطٍ مؤقت على سعر الذهب قبل أن يبدأ رحلةَ صعوده الكبرى.

​وأمامَ هذا التبايُن في التوقعات بين التفاؤل الحذر والتحذير من الصدمات، يُصبحُ من الصعب اختزال مسار الذهب في سيناريو واحد حتمي. فالمشهدُ الاقتصادي العالمي يبدو اليوم وكأنَّه غرفةٌ مُغلَقة تتفاعلُ داخلها عوامل مُتناقِضة، ما يفتحُ البابَ أمام مساراتٍ مُحتَملة عدة لأداء الذهب في العام 2026، تتفاوت بين القفزات الحادة والتحرُّكات الهادئة، بل وحتى فترات التراجع المؤقت.

هناك ثلاثةُ احتمالاتٍ لما قد يحدث في الغرفة المُغلَقة للاقتصاد العالمي وتأثيرها في بوصلة السعر:

السيناريو الأول، عاصفة الركود التضخّمي: في حال تعطّلت طرق التجارة وتباطأ النمو العالمي، سيهرُب الجميع من العملات الورقية بحثًا عن الأمان المُطلَق في الذهب، وهو ما قد يدفع الأونصة لنطاق 5000-6000 دولار في مشهدٍ يَعكِسُ فقدانَ الثقة التام في النظام المالي التقليدي.

السيناريو الثاني، الهبوط الناعم والاستقرار: إذا نجحَ العالمُ في لجم التضخُّم من دون وقوعِ كارثةٍ اقتصادية، فسوف يتحرّك الذهب في مسارٍ هادئ يميلُ نحو الارتفاع الطفيف، مدعومًا بطلبٍ مُستَمرّ من دولٍ مثل الصين والهند التي تعتبرُ الذهب جُزءًا من ثقافتها واستقرارها.

السيناريو الثالث، التعافي الكبير وهدوء العواصف: في حالِ حدوث طفرةٍ تكنولوجية مُذهلة أو تسوياتٍ سياسية غير مُتوقَّعة، ستتجه الأموال نحو الأسهم والمشاريع ذات المخاطرة، مما قد يؤدّي إلى بردٍ مؤقت في سوق الذهب وتراجع الأسعار لاختبار مستوياتِ دعمٍ دُنيا.

وفي ختام هذا المشهد المليء بالاحتمالات المُتشابكة، لا يُمكِنُ النظرُ إلى الذهب بمعزلٍ عن بقية معادن الثروة، فحركته غالبًا ما تكون النغمة التي تضبط إيقاع السوق بأكمله. ومع دخولِ العام 2026، تبرزُ الفضّة بوصفها “الحصان الأسود” (بلغة سباق الخيل)؛ ذلك المجهول الذي قد يسبق الجميع في مضمار السباق السعري. فبفضل الحاجة الماسة إليها في تقنيات الطاقة الخضراء، قد تُحقّقُ الفضة قفزات تفوق الذهب نسبيًا. ومع أنَّ المعادن الأخرى كالبلاتين تظلُّ رهينة صناعة السيارات، يبقى الذهب هو القائد والعملة التي لا تموت. وعادةً ما يسحب الذهب بقية المعادن خلفه في رحلات الصعود، لكن كل معدن يُغنّي لحنه الخاص بناءً على مدى توفّره وحاجة الصناعة إليه.

​​ ورُغمَ كلِّ التحوُّلات النقدية والسيناريوهات المُتباينة التي طُرِحَت، يبرزُ درسٌ جوهري لعام 2026 مفاده أنَّ الذهب تجاوز دوره التقليدي كخصمٍ مباشر للدولار. فحتى لو ارتفع الأخير، يظلُّ الذهب مطلوبًا كدرعٍ ضد الأزمات الائتمانية والمخاطر التي قد تهزُّ الدول الكبرى نفسها. الذهبُ يمنحُ المستثمر قدرةً شرائية عالمية لا ترتبطُ بقرارٍ سياسي أو بنكٍ مركزي واحد. لذا، فإنَّ الاحتفاظ بنسبةٍ ثابتة من الذهب ليس مجرَّدَ استثمار، بل هو تأمينٌ ضد أحداث “البجعة السوداء”؛ اي تلك الكوارث النادرة التي لا يتوقّعها أحدٌ ولكنها تُغيِّرُ وجه التاريخ. إنه الملاذُ الأخير الذي يحمي الثروات عندما تُصبِحُ الأوراقُ المالية مجرَّدَ أرقامٍ في عالمٍ مضطرب.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى