تَعود بيروت، تعود… أَشرِقْ أَيُّها الفجر
هنري زغيب*
كأَنما خريفُ لبنان هذا العام، ربيعٌ جاءَ يعتذر عن تقصيره في موعدِه، لتَصَاعُدِ القلَق فَصْلَئذٍ في النفوس والقلوب، لِما كان يغتلي في أَرجاء الوطن، حِيالَ سًلُوك البعض من “بيت بو سياسة” المتحكِّمين ظُلْمًا بمصير البلد، وحِيالَ وضعٍ إِقليمِيٍّ تلفحُ حروقُ وهْجِهِ وجْهَ لبنان. ومع ذلك، بقيَتْ بيروتُ تقاوم، على عادتها أَن تقاومَ منذ زلزالِ 8 تموز 551 حتى زلزالِ 4 آب 2020 وما بعدَه. ولم تتوقَّفْ بيروت عن أَن تُقاوم، بالفكْر تقاوم، بالآداب والفنون تقاوم، وبإِيمانِ أَنَّ لبنان، كما في كلِّ شِلْحٍ من أَرزه الخالد، يَلْوي ولا ينكسر، وكما هُوْجُ العواصف تضربُ عَلَمَه فلا يَهْوِي.
وها الخريفُ أَطلَّ، واعدًا بأَكثرَ من بسمةِ قدَرٍ تعافى ويتعافى بِتَصاعُد:
ها الإِحصاءاتُ تدلُّ على موسمٍ صيفيٍّ سياحيٍّ عَبَر، كانت أَرقامُه باسمةً بالرَغْم من حظْرٍ على معظم أَصدقاء لبنان في دُوَل المحيط العربي. لكنَّ أَبناءَ لبنانَ الْعادوا إِليه صيفًا من مَهاجرهم، ملَأُوه خيرًا وأَنسامَ فرَح.
وها خبرٌ طالَعنا قبل يومين: بلوغُ الكاتب اللبناني بالفرنسية شريف مجدلاني اللائحةَ القصيرةَ لجائزة “غونكور” الشهيرة، أَقدمِ وأَعرقِ جوائزِ فْرنسا الأَدب… وها المسارح تلهَثُ بمواعيدها ولا ترتاح من عملٍ إِلى عملٍ إِلى عمل، والجمهورُ يُقْبِل، والجمهورُ يتابع، وصالات المسارح تغصُّ بروَّادها، ومعظمُهم، كما أَرى في مسرح “مونو”، من جيل الشباب. وها معارضُ الرسم والنحت تملأُ الغالريات المشكَّلةَ أَنيقةً بهيةً في مفاصل بيروت، وحديثٌ عن غالرياتٍ جديدة تهمُّ بالإِعلان عن افتتاحها خلال هذا الخريف.
من المعارض التشكيلية إِلى معارض الكتب. فها المهرجانُ الدوليُّ الفرنكوفونيُّ الكبيرُ “بيروت الكُتُب” يَفتتح نشاطَهُ وندواتِهِ في بيروتَ والمناطقِ بعد عشرة أَيام، ويستقبل عشرين ضيفًا بين لبنانيين وفْرنسيين وفْرنكوفونيين، يقابلون تلامذتَنا الثانويين وطلَّابَنا الجامعيين وحلَقاتِ مثقَّفين، في لقاءَاتٍ حول الكِتَاب والقراءة، لأَن بيروتَ عاصمةٌ تَقرأُ، وتُنْتِجُ الكُتَّابَ، وتُنْتِجُ الكتابَ في دُورٍ للنشْر لا تهدأُ، وتُعلنُ كلَّ يوم تقريبًا عن إِصدارٍ قيِّمٍ جديد.
وها “أَسواقُ بيروت” استعادَت هذا الأُسبوع عشراتِ محالِّها الأَنيقةِ مستقطِبةً مستَثْمرين ومستهلكين وروَّادًا وزوَّارًا ومُعجَبين.
وها المنظمةُ العالميةُ لِـ”مؤشِّر الذَكاء” International IQ Test (مركزُها كييف في أُوكرانيا) أَصدرَت قبل أَسابيعَ تقريرَها السنوي وفيه، وَفْق نتائج آلاف الاستمارات، حلَّ الشعبُ اللبناني في المرتبة الأُولى عربيًّا، متقدِّمًا بذكائه على دُوَل المنطقة، في مفارقةٍ لافتةٍ برَغْمِ ما يعانيه لبنانُ منذ سنواتٍ من أَزمات اقتصادية وسياسية.
كلُّ هذا، وبيروتُ تقاومُ بالإِبداع اللبناني في كلِّ حقلٍ معرفيٍّ علْميٍّ وأَدبيٍّ وفنِّيّ. تُقاومُ وتَنتصر. تُقاوم وتسطعُ في عواصم المحيط والعالَم بفرادةٍ عجيبة. وفيما بيروتُ الدولة، إِداريًّا وسياسيًّا، تتخبَّط في مناكَفات سياسييها، ها بيروتُ الوطن، تَسْطعُ ثقافيًّا في فضاءَات الإِبداع بأَعلامٍ لبنانيين، على أَرضهم الأُمّ أَو في مَهاجر العالم.
بلى: ها تَعودُ بيروت. تَعودُ إِلى سابق إِشعاعها عروسَ المتوسط، بأَعلامِها وعلاماتها ومَعالِمها، وتنفَحُ لبنانَ بالعافية. فأَشْرِقْ أَيها الفجرُ كلَّ يومٍ بإِبداعٍ جديدٍ ومُبْدعٍ جديد. ولْيَكُن أَنَّ بيروت تتخطَّى كَبَواتِ البعض ممَّن يَسُوسُونَ الدولةَ ويُسَيِّسُونها ويُسَوِّسُونها، غيرَ مدركين أَنَّ البقاءَ والخلودَ لبيروتَ الوطن، ولهم غيابٌ آتٍ عند مغيبٍ آتٍ لن يكونَ لهم بعده أَن يَشهدوا، صباحَ كلِّ يومٍ، إِطلالةً جديدةً لفجرٍ لبنانيٍّ جديد.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib