مَأزَقُ إيران: “فيلُ الغُرفة” الذي لا يَراهُ ظريف

قلّما يتّفقُ المُحلِّلون على توصيف الواقع السياسي والاجتماعي الإيراني، غير أنّ إجماعًا آخذًا في التشكُّلِ باتَ يجمعُ طيفًا واسعًا ومُتناقِضًا من أصحاب الرأي على حقيقةٍ واحدة: إيران عالقة في مأزقٍ عميق. قد تختلفُ المُقارباتُ في توصيفِ هذا المأزقِ وسُبُل الخروج منه، لكن لم يَعُد أحدٌ يَنكُرُ وجودَهُ.

محمد جواد ظريف: يحاول “التلاعُب بالعقول”.

ملاك جعفر عبّاس*

بينَ تَرَقُّبِ الحرب، وجمودِ المُفاوضات النووية، وتدهوُرِ الوضع الاقتصادي، وتَفَشِّي الاتِّهامات بالخيانة والعمالة على خلفية الاختراق الأمني الكبير الذي كشفته حرب الصيف الماضي، تتَّسِعُ الهوّة بين النظام والمجتمع في إيران، وتتشنّجُ علاقاتُ المصالح بين أقطابِ السياسة فيها، ليُصبح مصيرُ النظامِ نفسه مَوضِعَ تساؤل.

يطفو إلى السطح صراعٌ كان مكبوتًا بفعل القبضة الحديدية للمرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي. ومع تقدُّمه في العمر، وتراجُع حضوره في الفضاء العام، تتراخى هذه القبضة تدريجًا، ما يفتحُ المجالَ أمامَ صراع الخلافة وسؤال “اليوم التالي”. تبدو إيران عالقة في لحظةٍ تاريخيّة مُتجَمِّدة، تفتقدُ القُدرةَ على التواصُل مع الداخل والخارج، بل ومع ذاتها.

في هذا المناخ، تتقاذفُ النُخَب الاتهامات بالمسؤولية عن الوصول إلى هذا الدرك، مَحكومةً بخطوطِ الصدعِ التقليدية بين أصوليين، ومحافظين، وثوريين، وإصلاحيين. غيرَ أنَّ هذه التيارات جميعها تبدو عاجزةً عن رؤية “الفيل في الغرفة”. وليس هذا مُستَغرَبًا، فمن الصعب على مَن عاشَ عقودًا في بطن الفيل أن يُدرِكَ أنَّ عالمَه ذاتهُ هو جوهرُ المشكلة، وأنَّ بدايةَ الحلّ تَكمُنُ في تسميتها لا تغطيتها بورقةِ توتٍ بالية.

يظهرً هذا الاستعصاء بوضوح في المقالة التي نشرها وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف (بالاشتراك مع أمير بارسا غارمسيري) في مجلة “فورين أفِّيرز” الأميركية (وأعادت نشرها “أسواق العرب”) في 23/12/2025 تحت عنوان: كَيفَ يُمكِنُ لأميركا وإيران كَسرُ الجمودِ النووي … والخروجُ من فَخِّ الأمننة؟

الأمننة (securitization) كعقيدةٍ تأسيسية

يُتقِنُ ظريف لغةَ الغرب ويحفظُ مُفرداته ومفاتيحه عن ظهر قلب، لا سيما أنه درس وتعلّم في جامعاتٍ أميركية (جامعة سان فرنسيسكو وجامعة دنفر). وليست هذه المرّة الأولى التي يُحاوِلُ فيها إعادةَ تعليب النظام في قوالب برّاقة أملًا في إعادةِ تسويق الاتفاق النووي، الذي يَعدّه درّةَ تاجِ إنجازاته. سبقت المقالة إطلالةٌ لافتة له في “حوار الدوحة” أثارت جدلًا واسعًا آنذاك.

يحاول ظريف في مقالته تقديم إيران بوصفها دولةً طبيعية اضطرّت إلى انتهاجِ الأمننة (تحويل قضية إلى مسألةٍ أمنية) بفعلِ خطابٍ أميركي–إسرائيلي عدائي. غير أنَّ هذا الطرح يتجاهلُ حقيقةً مركزية: الأمننة جُزءٌ بُنيوي من نظام الثورة الإسلامية منذ تأسيسه في العام 1979.

فالثورة، كما صاغها آية الله روح الله الخميني، عَرَّفت الدولة كمشروعٍ عقائدي عابرٍ للحدود، تُرجِمَ في مبدَإِ “تصدير الثورة” المنصوص عليه صراحة في المادة 154 من الدستور الإيراني. هذا المبدأ، بطبيعته، هو عمليةُ أمننة شاملة إذ يفترضُ وجودَ عالمٍ مُعادٍ، يُبرّرُ التدخُّل في شؤون الآخرين، ويُسقِطُ الفاصل بين الدفاع والهجوم.

وعليه، فإنَّ تصويرَ إيران كدولةٍ أُجبِرَت على تبنّي مُقاربةٍ أمنية ليس سوى تعمية على واقعٍ أنَّ النظامَ نفسه عرّفَ السياسة منذ البداية بوصفها صراعًا وجوديًا، والدولة قلعة محاصَرة، والمجتمع ساحة تعبئة دائمة.

الأمننة كسياسة خارجية

لم يبقَ “تصديرُ الثورة” في حدود الشعار، بل طُبِّقَ كسياسةٍ خارجية فعلية عبر إنشاءِ شبكاتٍ تنظيمية–عقائدية في العالم العربي والإسلامي. منذ ثمانينيات القرن الماضي، شرع الحرس الثوري الإيراني في بناءِ نموذجِ نفوذٍ لا يقومُ على العلاقات الديبلوماسية التقليدية، بل على الميليشيات العقائدية.

في لبنان، أُنشئ “حزب الله” كتنظيمٍ عسكري إيديولوجي مُرتَبِطٌ مُباشرةً بولاية الفقيه لا بالدولة اللبنانية. في العراق، وبعد الغزو الأميركي عام 2003، أُعيدَ إنتاجُ النموذج ذاته عبر عشرات الميليشيات التي قَوَّضَت سيادة الدولة، وربطتها بما عُرِفَ ب”محور المقاومة”. وفي سوريا واليمن وغزة، تكرّر النمط نفسه.

وبينما كان ظريف يُفاوضُ مجموعة “5+1” في جنيف ونيويورك، كانت ميليشيات “وزير الخارجية الفعلي” قاسم سليماني تُسيطرُ على دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، وتعبثُ بأمن دول الخليج. في هذا السياق، تختزل مقالة ظريف هذا النفوذ الذي فجّرَ المنطقة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى مجرّد “سوء فهم” لتصريحِ مصدرٍ غير مسؤول عن “السيطرة على أربع عواصم عربية”.

الأمننة ضد المجتمع

لم تَتَوَجَّه الأمننة إلى الخارج فقط، بل استُخدِمت أيضًا ضد المجتمع الإيراني نفسه. فمنذُ الأيام الأولى للثورة، أنشأ النظامُ أجهزةً مُوازية للدولة كالحرس الثوري، والباسيج، والمحاكم الثورية التي أعدمت الآلاف من رفاق الميدان لتأمين النظام الجديد لا الدولة.

تعاملت هذه الأجهزة منهجيًا مع أيِّ معارضة سياسية، أو حراك اجتماعي، أو مطلب اقتصادي بوصفه تهديدًا أمنيًا أو امتدادًا لمؤامرةٍ خارجية. وكان الإصلاحيون في طليعة الضحايا والملاحقين على رأسهم قادة الثورة الخضراء مير حسين موسوي ومهدي كروبي والرئيس السابق محمد خاتمي، ومنهم ظريف نفسه الذي واجه ضغوطًا مُتكرّرة دفعته إلى الاستقالة أكثر من مرة.

وفي هذا الموضع، يُصيبُ ظريف جُزئيًا: نعم، إيران تُعاني من مرض الأمننة المُزمِن. لكن هذا المرض لم ينتقل بعدوى “المُعضِلة الأمنية” الخارجية، بل جرى إنتاجه في مختبرات النظام العقائدية،  وليس سجن إيفين سوى شاهدٍ على ذلك.

حين تنحني الإيديولوجيا أمام الأمن

يبلغ التناقض في خطاب ظريف ذروته عند استحضار الحرب العراقية–الإيرانية. فرُغمَ الخطاب العقائدي المُتشدِّد، تجاوزت طهران شعاراتها عندما اقتضت مصلحتها ذلك. المثال الأبرز هو شراء إيران أسلحة من إسرائيل في عمليتي “سيشَل” (Seashell) و”إيران-كونترا” (Iran-Contra). وفيما قَرَّعَ ظريف الحضور في جلسته في “حوار الدوحة” مُطالبًا بتعويضاتٍ تصلُ الى مئة مليار دولار كثمنٍ لدعم دول الخليج لصدام حسين، غابت الإشارة الى مآسي ملايين السوريين الذين قتلتهم براميل ميليشياته على مدى أكثر من عقد.

لم تَكُن الإيديولوجيا يومًا سوى أداة تعبئة استخدمها النظام الإيراني لحشدِ التأييد مُحاولًا تسجيل القضية الفلسطينية كوكالةٍ حصرية لقوى المحور، بينما تصرَّفت النُخَب ببراغماتيةٍ تُلامِسُ الانتهازية حين تعلّق الأمر بالبقاء. وعليه، فإنَّ تصويرَ الصراع مع إسرائيل اليوم كصراعٍ وجودي مُطلَق يتجاهلُ أنَّ النظامَ نفسه أسقطَ هذا الادعاء عمليًا عندما احتاجَ السلاح وتعايَشَ مع إسرائيل لعقودٍ مُتقاسمًا مناطق النفوذ وساحات الصراع بالوكالة.

صراعُ النُخَب وإعادةُ تسويقِ الذات

لا يُمكِنُ فصلُ مقالة ظريف عن صراعِ النُخَب داخل النظام الإيراني. فهو ينتمي إلى جناحٍ يسعى إلى تقديمِ نفسه بديلًا عاقلًا يَفهَمُ لغة الغرب ويعتقد أنه قادرٌ على تسويقِ أفكارٍ تُحيي الاتفاق النووي بما يحمله من وعودٍ اقتصادية في ظلِّ وَضعٍ داخلي مأزوم. فبعد سلسلةِ إخفاقاتٍ أمنية وعسكرية واقتصادية فادحة كشفتها الحرب الأخيرة، يرى هذا التيار أنَّ الحلَّ يَكمُنُ في زيادة جرعة البراغماتية، والانفتاح النسبي. يُسَوِّقُ فُرَصًا استثمارية وأسواقًا واعدة ويبني جسورًا مُتَخيَّلة من التواصُل البنّاء، غير أنه يصطدم بتيارٍ مُتشدّد يزداد نفوذه داخل الحلقة الضيّقة المُحيطة بالمرشد، ويتقدّمُ عمليًا الى موقع اتخاذ القرار. وقد سمح التعايش الطويل بين التيارَين بإدارة التناقضات، إلّا أنَّ مؤشّرات الصدام باتت أكثر وضوحًا.

يطرحُ ظريف حلوله للأمننة من دون التطرُّقِ الى أسئلةٍ تفرض نفسها: ما هو السبب الحقيقي لإقصائه المُتكرّر؟ ولماذا هتفَ نواب البرلمان “الموت لفيريدون (حسن روحاني)” حين انتقد الدور الروسي في مفاوضات الاتفاق النووي؟ لماذا تحوَّلَ موت الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني في المسبح إلى مادةِ سجالٍ حاد؟ مَن سرَّبَ فيديو زفاف ابنة وزير الدفاع الأسبق علي شمخاني ولماذا؟ أسئلةٌ عديدة، إجابتها واحدة: النظامُ يأكلُ أبناءه وصراعُ النُخَب على أشدّه. لكن بدل تشخيص الواقع كما هو، يعتمد ظريف في مقالته تكتيك ال”غازلايتينغ” أو “التلاعُب بالعقول”: يُحاولُ إعادةَ تشكيلِ الوعي عبر قلبِ مواقع الضحيّة والجلّاد، والقول إنَّ “المشكلة ليست نحن، بل الآخرون هم الذين دفعونا إلى هذا المسار”. يتجاهل أنه كان جُزءًا من هذا النظام لا خارجه، وعمل ضمن ازدواجية سلطة تتيح واجهة ديبلوماسية ناعمة فيما القرار الحقيقي بيد المرشد والحرس الثوري. ربما يُدركُ ظريف وحلفاؤه طبيعة الحل المطلوب، لكنَّ البَوحَ دونه أخطار كبرى.

ما لا يقوله ظريف

لا يَكمُنُ الحلُّ في تعديل الخطاب أو تجميل الصورة، بل في تفكيك البُنية التي تُنتِجُ هذا الخطاب. فأيُّ مُقاربةٍ جدّية تقتضي أوّلًا تفكيك الحرس الثوري كقوة عسكرية–اقتصادية–إيديولوجية مُوازِية للدولة ومُعَطِّلة لها، وإنهاء ازدواجية النظام بين مؤسّسات الدولة وأجهزة الثورة. كما تفرضُ هذه المقاربة حسم العلاقة بين المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية، والانتقال إلى عقدٍ اجتماعي جديد يُعيدُ تعريفَ إيران كدولةٍ وطنية طبيعية، لا كثورةٍ دائمة. كما يتطلّبُ الخروج من “فخِّ الأمننة” عودة إيران إلى منطق الدولة “الوستفالية” التي تحصر نفوذها داخل حدودها وتعترف بتعدُّديتها الداخلية.

فهل يجرؤ محمد جواد ظريف على كتابة مقالٍ كهذا؟

ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin على: www.linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى