صنِّين خيمةٌ أُوركيديَّة

هنري زغيب*

حين عزمتُ على إِصدار مجلتي الشعرية “الأُوديسيه”، قرَّرتُ أَلَّا أَنشُرَ فيها إِلَّا قصائدَ جديدةً غيرَ منشورة. وفي زيارتي إِلى كبيرنا ميخائيل نعيمه، شَرحتُ له الأَمر فقام وجاءَني بمخطوطة قصيدة “صنّين”، قال لي إِنها غير منشورة بعد، كان كتَبَها سنة 1934 للمدرسة الرسمية في بسكنتا. وهكذا صدَرَ العدد الأَول من “الأُوديسيه” (أَيار/مايو 1982) وفي صدر صفحته الأُولى القصيدة، ومنها: “صنّينُ يا زَينَ الجبال… يا بكْرَ آياتِ الخيال… يا حاديًا ظَعْن الجَمالْ… من فوق أَشلاء السنينْ (…) صنّينُ خُذْ منّا وهاتْ… واسمَحْ بأَن نقْضي الحياةْ… في حضنِكَ الرَحب الأَمين”…

وحين كتَب رشيد أَيوب قصيدته الشهيرة “يا ثلجُ قد هيَّجْتَ أَشجاني… ذَكَّرْتَني أَهلي بلبنانِ”،  وفيها: “ذَكَّرْتَني الموقد”… “ذَكَّرْتَني الوادي”، كانت في باله بسكنتاهُ الهانئةُ في حضْن صنّين…

وحين كتَب ميشال طراد “عَ طريق العين محلى التكْتكِه، والقمَر عَ  كِتْفْ صنّين متِّكي”، لم يجد متَّكأً للقمر أَجمل من كَتِف صنين…

وحين عزَمَ عبدالله غانم على إِصدار جريدةٍ، لم يجد اسمًا لها أَغلى من “صنّين”…

وحين كتَب سعيد عقل قصيدته في فؤَاد افرام البستاني، أَظْهَرَ تواضعَه باستعارِهِ شُموخَ صنّين: “إِن رحتُ أُطريه يُغْضي رأْسَهُ دَعَةً… كرأْس صنّين يَهوي، إِن هوى، صُعُدا”…

وحين غنَّتْ فيروز للأَخوين رحباني عن النوستالجيا، غمرَت بصوتها صنّين: “يا حجَل صنّين بالعَلالي، يا حجل صنّين بالجبَل”…

إِنه إِذًا صنّين، رمزًا وحضورًا: ما كنتُ قبلًا بَلَغْتُهُ، حتى تَهيَّأَتْ لي زيارتُه ذاتَ مناسبةٍ أَدبيةٍ بسكنتاوية. قادَتْني إِليه دَربٌ تتأَفْعَنُ بِطُولها بين أَشجار ظليلة، ففهمْتُ عند بلوغي قمَّتَه كيف لبنانُ يَستندُ إِليه فيَقوى ضدَّ جميع الأَعاصير.

وقفْتُ على شَفَا منحَدَرٍ يحلو فيه عيشُ المكان، فلا قيمةَ للمكان من دون العيش فيه بهناءة. وماذا في المكان؟ المدى ورائي، أَمامي جبلُ الزعرور، وَحَولي يُرفرفُ صوتُ فيروز: “هَوْن السما قريبِه… بْتِسْمَعْنا يا حبيبي”. ورُحتُ فعلًا أَسمع التلال تحتي تتغامزُ عن أَيِّها أَعْنَقُ. وإِخالُها، الشمس، إِذ تُطِلُّ فجرًا من وراء صنّين، تَنهَضُ من نَومها القممُ، مُتأَمِّلَةً فوقَها الغيماتُ الـمُسافرة إِلى البعيد، لِيُشَتِّتَها الهناك خيوطًا خيوطًا قبلَ تذوبُ في المدى.

رحتُ أَسيحُ في الرؤَى إِلى البعيد، تُدندنُ في عينيَّ أُنشودةُ حبٍّ طال انتظارُه بعد صحراء، فأَلمحُ نجمةً نهاريةً تَسبَح في شمس العُمر الزرقاء، خلْف قُبَّةٍ أُوركيديَّةٍ بيضاء تحضن سعادةً غامرةً لا تأْتي في العمر سوى مرةٍ وحيدة.

أَعودُ من الرؤَى. تَنْدهُني بسكنتا من جديد. أَفهم شغَف ميخائيل نعيمه، إِذ أَزهَقَهُ الدَردورُ النيويوركيُّ الرهيبُ ذو “الحضارة التي تَسير على دواليب”، فحمَل نوستالجياهُ، وعاد بها سنة 1932 إِلى حضْن صنّين، إِلى بَسكنتاهُ وشخروبِهِ، وأَقفل بالَه على كلِّ سفَر، فاستقرَّ هانئًا 56 سنةً يَكتُب ويَنشُر، حتى طوى آخرَ يومٍ من شباط/فبراير 1988.

إِنه صنّين… وكثيرًا ما نقرأُ في القصائد وقفاتٍ جُلَّى أَمام هَيْبة الجبال. منها الرمز الوطني (كجبل أَرارات الأَرمني يرنو إِليه الأَرمن في كل العالم مسلوبًا في المقْلب التركيّ)، ومنها الرمز الشعري للهيبة والقوة والارتقاء (كما في قصائد فيكتور هوغو وشارل بودلير ورُنيه شار).

ونحن؟ نحن لنا صنّين، بعباءَته البيضاء شتاءً، وَهَيْبة شُمُوخه صيفًا، ونسَمَاته الغاردينيّة ربيعًا، وخصوبة الخريف في حضْنه. ولنا فيه أَكثرُ من رمز وطني وأَدبي وشعري وفني معًا،

ولنا فيه رؤْيا من البعيد تجعل الجلوسَ في فَيْئِهِ متعةً من الحب والحنين والحنان، تَرسُم عمرًا ينْفُض من صحرائه غبارَ الوحدة، ويفتح بوابة الأَمل على قبَّة بيضاء تضُمُّ وعدًا بأَحلامٍ في العُمر كانت سرابًا، وها هي تنفتح كي تخرُجَ من السراب.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى