تحوّلات غير مَسبُوقة: كَيفَ يُعيدُ ترامب رَسمَ حدودِ العلاقة الأميركية–الإسرائيلية؟

تشهدُ العلاقاتُ الأميركية–الإسرائيلية مرحلةَ إعادةِ تشكيلٍ جذرية تقودها تدخُّلات الرئيس دونالد ترامب الاستثنائية وتغيُّرات عميقة في الرأي العام الأميركي. وبينما يسعى بنيامين نتنياهو إلى الحفاظ على دَعمِ واشنطن، يتصاعد الثمن السياسي الذي قد تضطر إسرائيل إلى دفعه قريبًا.

الرئيس السابق جو بايدن: قدم الكثير لإسرائيل لكن رُغم ذلك هاجمه وانتقده نتنياهو!!!

دانيال كورتزر وآرون ديفيد ميلر*

يشيرُ تطوُّران لافتان وغير مَسبوقين إلى أنّ العلاقات الأميركية–الإسرائيلية تشهدُ تحوُّلًا جذريًا، وربما لا رجعةَ فيه.

أوّلًا، يكشف الضغط الذي مارسه الرئيس دونالد ترامب أخيرًا على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لقبول خطته المؤلفة من عشرين بندًا بشأن غزة، أنّ زمامَ تحديد العلاقة الثنائية في المستقبل المنظور باتَ في يد الرئيس الأميركي، وليس في يد رئيس الوزراء الإسرائيلي. ويعكسُ هذا الضغط قدرة ترامب واستعداده لتوظيف النفوذ الأميركي، مُستفيدًا من اعتماد نتنياهو المتزايد عليه لتعزيز فُرَصِه في الانتخابات المقبلة. حتى الآن، يبدو أنّ الرئيس الأميركي ينجح في فَرضِ ما يريده على نتنياهو.

ثانيًا، تسبّبَ الإفراطُ في السعي إلى تحقيق الأهداف العسكرية الإسرائيلية في غزة، وسياسات الضمّ في الضفة الغربية، في إحداثِ شرخٍ داخل القاعدة الأميركية التقليدية الداعمة لإسرائيل، وهو شرخٌ قد يكون من الصعب رأبه سريعًا. وقد تمتدُّ تداعيات هذه التحولات إلى ما بعد عهد نتنياهو نفسه، خصوصًا إذا واصل المسار السياسي الإسرائيلي تحوّله نحو اليمين كما يُتَوَقَّع بعد هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

لطالما حاول رؤساء الولايات المتحدة التأثير في مسار السياسة الإسرائيلية، وحققوا في ذلك نجاحات متفاوتة. فقد كنّا في موقع المسؤولية شاهِدَين عندما اختار الرئيس جورج بوش (الأب) حرمان رئيس الوزراء آنذاك إسحق شامير من مليارات الدولارات كضمانات قروض، قبل أن يمنحها لاحقًا لخلفه إسحق رابين. وبعد سنوات، حاول الرئيس بيل كلينتون تقوية موقف شيمون بيريز قبيل الانتخابات عبر استضافته في البيت الأبيض، في خطوةٍ لم تُثمر شيئًا بعدما خسر بيريز السباق أمام نتنياهو.

ومع ذلك، تبدو كل هذه التدخُّلات مُتواضِعة مُقارنةً بالتحرّكات الأخيرة لترامب لدعم نتنياهو بشكلٍ غير مسبوق. ففي غضون أسابيع قليلة، دعا ترامب المؤسّسات القضائية الإسرائيلية عمليًا إلى إلغاء محاكمة نتنياهو وإسقاط تُهَم الفساد عنه، ثم قاطع خطابًا ُمعَدًّا سلفًا أمام الكنيست أثناء زيارته للمنطقة بهدف التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة، ليحثّ الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ على منحه العفو. ولم يكتفِ بذلك، بل لمَّحَ في مقابلة إلى استعداده لمساعدة نتنياهو على “حلّ مشاكله القانونية”، قبل أن يرسل يوم الأربعاء الفائت رسالة رسمية إلى هرتسوغ يطالبه فيها بالعفو عن نتنياهو واصفًا التُهَم بأنها “ملاحقة سياسية غير مُبرَّرة”.

يُراهنُ ترامب اليوم على نتنياهو بشكلٍ كبير، رُغمَ السجال الذي نشب بينهما في أواخر الولاية الرئاسية الأولى لترامب. ويتمتّعُ الرئيس الأميركي بشعبية تفوق بكثير شعبية نتنياهو داخل إسرائيل، وقد ازدادت هذه الشعبية مع نجاحه في التوسُّط لوقف إطلاق النار في غزة ودوره في قضية الرهائن. وبحسب استطلاعٍ حديث لمعهد الديموقراطية الإسرائيلي، يرى نحو نصف الإسرائيليين أنَّ الولايات المتحدة تُمارس تأثيرًا أكبر على القرارات الأمنية لبلادهم من حكومتهم نفسها.

لذلك، لا يمكن التعاطي مع تدخّلات ترامب لصالح نتنياهو على أنها مجرّدُ ضوضاءٍ سياسية أو تصريحاتٍ بلا أثر، حتى إن لم تُحقِّق نتائج فورية. فمع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية العام المقبل، قد يشكّل دعم ترامب لنتنياهو ما يشبه “مفاجأة تشرين الأول/أكتوبر” بنسختها الإسرائيلية — حدثًا قادرًا على إقناع الناخبين المُتردّدين بأنَّ التصويت لنتنياهو هو السبيل لضمان استمرار دعم رئيس أميركي يحظى بشعبيةٍ واسعة في إسرائيل.

النقطة المحورية هنا هي أنَّ ترامب يمتلك نفوذًا فعليًا على نتنياهو، وعلى عكسِ كثيرٍ من الرؤساء الذين سبقوه، لا يتردّدُ في استخدام هذا النفوذ كلَّما رأى ضرورة لذلك. ومن ثمّ يبرز السؤال الأهم: هل سيمضي ترامب إلى أبعد من ذلك، ويُمارسُ مزيدًا من الضغط على نتنياهو من أجل دفع المرحلة الثانية من خطة النقاط العشرين إلى الأمام — وهي مبادرة سلام إقليمية تتطلّبُ تنازلات شديدة الحساسية بالنسبة إلى نتنياهو وائتلافه، خصوصًا في ما يتعلق بالفلسطينيين ومستقبل السيطرة على الضفة الغربية؟

أما التحوّل الثاني فيتَّصِلُ بطبيعة الدعم الشعبي الأميركي لإسرائيل ودرجة صموده. فقد بدأ السعي المُعلَن من قبل نتنياهو لـ”تدمير” “حماس” يُضعفُ ذلك التأييد الأميركي التقليدي الذي كان يُمنَحُ لإسرائيل تقريبًا بلا تحفُّظ. ولم يكن الدعم الاستثنائي الذي قدّمه الرئيس السابق جو بايدن لإسرائيل خلال الحرب كافيًا لتهدئة نتنياهو، الذي لم يتردّد في انتقاد بايدن ومجاراة ترامب. ورُغمَ أنّ تأييد نتنياهو العلني لترامب لم يُحدِث تغييرًا كبيرًا في ميل الناخب اليهودي الأميركي إلى التصويت للديموقراطيين —إذ بقيت النسبة عند حدود 70% في انتخابات 2024— إلّا أنَّ الغضب المتصاعد بشأن غزة والسياسة الأميركية تجاهها ساهم في تعزيز فُرَص ترامب في ولاياتٍ مُتأرجحة حاسِمة.

لم يَعُد دَعمُ الكونغرس لمبيعات الأسلحة لإسرائيل أمرًا مضمونًا كما كان. فقد باتَ عددٌ متزايد من الديموقراطيين —وحتى بعض الجمهوريين— يصوّتون ضد حزم المساعدات العسكرية الإضافية. وفي الحد الأدنى، يطالب عددٌ من الديموقراطيين غير الراضين بفرضِ قيودٍ صارمة على كيفية استخدام الأسلحة الأميركية. وقد أصبحت صورُ الدمار الواسع في غزة، ومشاهد العائلات الفلسطينية التي تتنقّل مرارًا بحثًا عن الأمان بضغط من التعليمات الإسرائيلية، تفوق قدرة العديد من داعمي إسرائيل التقليديين —سواء في الكونغرس أو بين الجمهور— على التسامح معها.

إنَّ التداعيات القصيرة والطويلة الأمد لهذين التحوُّلين لافتة للغاية. فالمرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في غزة ما تزال صامدة رُغمَ هشاشتها، وحمايتها تتطلّب ديبلوماسية أميركية نشطة، بما في ذلك دور مباشر لترامب نفسه. وعلى الرُغمِ من أنّ ترامب منح نتنياهو الضوء الأخضر للرد على الهجمات الجديدة ل”حماس”، إلّا أنّه من المؤكد سُيقيّدُ قدرة نتنياهو على اتخاذِ خطواتٍ استباقية ضد الحركة فيما تحاول استعادة نفوذها السياسي في غزة. يُريدُ نتنياهو تحقيقَ الشرطَين المُتعلِّقَين ب”حماس” —نزع سلاحها وإقصاؤها عن الحكم— قبل أيِّ انسحابٍ إسرائيلي إضافي، لكن ترامب قد يرى ضرورة منح الحركة قدرًا من “الحَيّز السياسي” حتى تتمكّن المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار من التقدّم نحو المرحلة الثانية.

وفي موازاة ذلك، باتت الولايات المتحدة، عبر مركز التنسيق المدني-العسكري الذي أُنشئ حديثًا في إسرائيل، تتحمّل مسؤولية متزايدة في تأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، في خطوةٍ تعكس حجم الانخراط الأميركي العميق في إدارة الوضع الإنساني والسياسي على حدٍّ سواء.

من بين التطوّرات المفاجئة في هذا المشهد اندفاع الإدارة الأميركية نحو طَرحِ مشروعِ قرارٍ طموح أمام مجلس الأمن الدولي يمنحُ تفويضًا لقوة استقرار متعددة الجنسيات —بوصفها قوة إنفاذ لا مجرّد قوات حفظ سلام— إلى جانب دور حوكمة يمتد لعامين على الأقل. لطالما قاومت إسرائيل أيَّ انخراط ٍلمجلس الأمن الدولي في شؤونها الداخلية، وكانت واشنطن، في معظم الأحيان، تساير هذا الموقف. لكن هذه المرة قد تبدو مختلفة. فحتى لو حصلت قوة كهذه على تفويضٍ أممي، فإن تشكيلها من دول عربية وإسلامية يظل مهمة معقّدة، خصوصًا في ظلِّ بقاء “حماس” مسلّحة واحتفاظ إسرائيل بحقِّ الرد على أيِّ استفزازٍ تتعرّضُ له. وسيبرزُ اختبارٌ مُبكِر لقدرة ترامب على إطلاق تلك القوة في التعامل مع تركيا: فبينما تصرّ إسرائيل على استبعادها، يُبدي ترامب إعجابًا بالرئيس رجب طيب أردوغان الذي يملك بدوره نفوذًا مؤثرًا على “حماس”.

وتكمُنُ النتيجة العملية لهذه التحوُّلات في أنَّ ترامب هو الذي يُمسِكُ الآن بمقود القرارات المُتعلّقة بإسرائيل وبمسار العلاقات الأميركية–الإسرائيلية ككل. فبعكس كلينتون وبايدن، يتبعُ ترامب نهجًا براغماتيًا صارمًا تجاه إسرائيل، من دون أن تحكمه اعتباراتٌ عاطفية أو تاريخية عميقة. كما إنّه أقل تقييدًا بضغوطٍ سياسية داخلية، بفضل قبضته المُحكَمة على الحزب الجمهوري.

ويُسهِمُ ازدراء نتنياهو العلني للديموقراطيين في تعميق هذا الوضع، لا سيّما في أوساط اليهود الأميركيين المؤيّدين لإسرائيل. ويكفي التذكير بمحاولته تجاوز الرئيس باراك أوباما في العام 2015 لإلقاءِ خطابٍ أمام الكونغرس مُعارضًا الاتفاق النووي مع إيران. لقد بنى نتنياهو قسمًا كبيرًا من مسيرته السياسية على قناعته بأنه الأقدر على إدارة العلاقة مع واشنطن. أما اليوم، فقد دفعت سياساته —ولا سيما حكومته اليمينية المتشددة— إلى واقعٍ جديد أصبح فيه نتنياهو مُستَجديًا أكثر منه شريكًا، وعُرضةً لتقلُّبات الحسابات السياسية والديبلوماسية لترامب.

يُدرِكُ نتنياهو تمامًا أنَّ التفريطَ بالعلاقة مع الديموقراطيين، وتجاهُلَ مبدَإِ التوافق الحزبي التقليدي في الولايات المتحدة، والدخولَ في تحالُفٍ يعتمدُ على رئيسٍ مُتقلّب المزاج، قد يفرضُ على إسرائيل ثمنًا باهظًا يمسّ قدرتها على التحرّك بحرية. فهو يحتاجُ إلى دعم ترامب للفوز في الانتخابات المقبلة، تمامًا كما احتاج ترامب إلى التعاون معه لإنجاح الحرب القصيرة ضد إيران. ويبقى السؤال الأساسي: هل سيتمكّن نتنياهو من مواصلة الخضوع لإرادة ترامب عندما يحين وقت تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق السلام؟

فلكلِّ خطوة ثمن، وهذه قاعدة لا تستثني السياسة الخارجية. ورُغمَ أنَّ الرقصة البطيئة بين ترامب ونتنياهو تبدو مُتناغِمة في الوقت الراهن، إلّا أنَّ لحظةَ حسابٍ ستأتي لا محالة. وعندها ستُواجِهُ إسرائيل قيودًا ملموسة على حرّية عملها، ليس في غزة وحدها بل ربما في ساحاتٍ أخرى أيضًا. كما سيواكب ذلك تراجعٌ متزايد في دعم اليهود الأميركيين لسياسات إسرائيلية تتعارَضُ بوضوح مع القِيَمِ والمصالح الأميركية الأساسية. في هذه اللحظة، قد يشعرُ نتنياهو بالطمأنينة، لكنَّ الواقعَ يُشيرُ إلى أنَّ الفاتورة الحقيقية لم تُحصَّل أو تُدفَع بعد.

  • دانيال كورتزر هو أستاذ كرسي :أس. دانيال أبراهام” لدراسات سياسات الشرق الأوسط في كلية الشؤون العامة والدولية بجامعة برينستون. خلال مسيرته المهنية التي امتدت لتسعة وعشرين عامًا في السلك الديبلوماسي الأميركي، شغل كورتزر منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل وسفيرها لدى مصر. كما كان كاتب خطابات وعضوًا في هيئة تخطيط السياسات لوزير الخارجية جورج شولتز، وشغل منصب نائب مساعد الوزير لشؤون الشرق الأدنى ونائب مساعد الوزير الأول للاستخبارات والبحوث.
  • آرون ديفيد ميلر هو زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، يركز على السياسة الخارجية الأميركية. ألّف خمسة كتب، من بينها كتابه الأخير “نهاية العظمة: لماذا لا تستطيع أميركا (ولا تريد) أن تحظى برئيس عظيم آخر”.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى