وَهمُ هَزيمَةِ “داعش”: كَيفَ سَمَحَ التَرَاخي السِياسي ببَقاءِ التَهدِيد

بينما سارعت حكوماتٌ إلى إعلان نهاية تنظيم “الدولة الإسلامية”، تكفّلَ الفراغُ الأمني والتراخي السياسي بإبقائه حيًّا بصيغ جديدة. “داعش” اليوم ليسَ نتاجَ قوَّته وحدها، بل نتيجةً مباشرة لفشلٍ دولي في تحويلِ الانتصار العسكري إلى استراتيجيةٍ مُستدامة.

“الدولة الإسلامية” في خراسان: أقوى فصيل للتنظيم المنتشر عالميًا.

كلارا بروكيرت وكولِن كلارك*

في كلِّ مرّة يهزُّ العالمَ هجومٌ دمويٌّ جديد له صلة بتنظيم “الدولة الإسلامية”، تعودُ إلى الواجهة موجةٌ مألوفة من التساؤلات الإعلامية المُتكَرِّرة: هل عاد التنظيم إلى النشاط؟ هل نحنُ أمام مرحلةٍ جديدة من تمدُّده؟ وهل يطلّ علينا ما يُسمّى بـ”داعش 2.0″؟ هذه العناوين، على جاذبيتها، غالبًا ما تختزلُ واقعًا أكثر تعقيدًا، وتَخلُطُ بين القدرة العملياتية للتنظيم وبين حضوره الإيديولوجي العابر للحدود.

هذه الأسئلة تُطرَحُ مُجَدَّدًا اليوم، على وقع عطلة نهاية أسبوع دامية شهدت مقتل ثلاثة جنود أميركيين في سوريا بهجومٍ نفّذه مسلّح تابع للتنظيم، إلى جانبِ هجومٍ مروِّع استهدف يهودًا كانوا يحتفلون بعيد الأنوار (حانوكا) على شاطئ بوندي في سيدني. وقد نفّذَ الاعتداء الأخير أبٌ وابنه كانا قد أمضيا شهرًا في جنوب الفلبين قبل الهجوم، ما يفتح الباب أمامَ فرضيةِ تلقّيهما تدريبًا أو توجيهًا من عناصر “داعش شرق آسيا”. غير أنَّ صحيفة “النبأ”، الناطقة باسم التنظيم، سارعت إلى الادِّعاء بأنَّ الهجومَ كان “مُستَوحى” من التنظيم لا مُوَجَّهًا منه. وفي الوقت نفسه، تُعزّزُ مؤامراتٌ إرهابية أُحبِطَت مؤخرًا في بولندا وألمانيا —ويُعتَقَدُ أنها تأثّرت بخطابِ التنظيم— الانطباع بأنَّ خطرَ “داعش” لم ينتهِ، بل أعادَ تشكيلَ نفسه في صورةٍ أكثر انتشارًا وأقل مركزية.

الهزيمة المُعلَنة… والواقع الأكثر تعقيدًا

بالنسبة إلى الباحثين والمُحلِّلين (مثلنا) الذين يتابعون تنظيم “الدولة الإسلامية” عن قُرب، لا تبدو هذه التطوُّرات مُفاجِئة. فرُغمَ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام 2019 “هزيمة داعش”، ظلَّ هذا التوصيف سياسيًا أكثر منه توصيفًا دقيقًا للواقع. صحيحٌ أنَّ التهديدَ الذي مثّله التنظيم تراجَعَ بصورةٍ ملموسة، لا سيما بعد أفوله كـ”خلافة” إقليمية بين العامين 2014 و2018، إلّا أنَّ بُنيتَهُ الشبكية العابرة للحدود لم تُفَكَّك بالكامل، ولا تزالُ قادرةً على إنتاجِ عُنفٍ منظَّم في مسارح مُتعدِّدة.

ففي بعض الحالات، يحتفظُ التنظيم بقدرته على التخطيطِ المباشر وتنفيذِ عملياتٍ معقّدة، كما في هجوم إطلاق النار الجماعي في موسكو في آذار (مارس) 2024، الذي أوقع 149 قتيلًا. وفي حالاتٍ أخرى، يكتفي بدورِ المُحرِّضِ والمُوَجِّهِ الإيديولوجي، دافعًا أفرادًا أو خلايا صغيرة إلى تنفيذِ هجماتٍ باسمه، كما حصل في هجوم “نيو أورليانز” في أميركا خلال احتفالات رأس السنة 2025، والذي أسفر عن مقتل 14 شخصًا. ورُغمَ أنَّ غالبية هذه العمليات باتت أقل تعقيدًا من الهجمات المُنَسَّقة واسعة النطاق —كاعتداءات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 التي أودت بحياة 130 شخصًا— فإنَّ حصيلتها البشرية لا تزال مُرتَفِعة، سواء عبر الدهس بالمركبات، أو إطلاق النار، أو الطعن، أو العبوات الناسفة البدائية.

وتكشفُ أنماطُ العنف في العام 2024 أنَّ الثقلَ العملياتي للتنظيم لم يختفِ، بل أُعيدَ توزيعه جغرافيًا. فقد سُجِّلت أعلى نسب الوفيات المنسوبة إلى “داعش” في منطقة الساحل الأفريقي، تلتها العراق وسوريا، ثم آسيا الوسطى والجنوبية، إلى جانب بؤرٍ أخرى في أفريقيا جنوب الصحراء. وبعد انهيار الكيان شبه الدولتي الذي أقامه التنظيم في العراق وسوريا في العام 2019، لم يتفكّك بالكامل، بل أعادَ الانتشار، مُتَحوِّلًا إلى شبكةٍ مُترابطة لكنها لامركزية، ذات قيادة وهيكل تنظيمي، ومصادر تمويل، وخطوط إمداد واضحة.

ولاياتٌ مُتباعدة… وتنظيمٌ واحد

وقد وجدَ التنظيم في مناطق النزاع وضعف الحوكمة بيئاتٍ حاضنة لإعادة التمركز، فأنشأ فروعًا محلّية أطلق عليها تسمية “ولايات”. هذه الوحدات تشنُّ حملاتَ عنفٍ مُتواصلة تُلحق خسائر فادحة بالمدنيين، لكنها غالبًا ما تمرُّ خارج دائرة الاهتمام الإعلامي الغربي. وفي الوقت نفسه، يمكن لبعض هذه الساحات أن تتحوَّلَ إلى مختبرات قتالية تستقطب مقاتلين أجانب يسعون إلى اكتساب الخبرة، بما يفتح الباب أمامَ تهديداتٍ مستقبلية تتجاوزُ الحدود المحلّية لتلك الصراعات.

وحتى أيلول (سبتمبر) 2025، قدّر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة عدد مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” عالميًا بما يتراوح بين 8,800 و13,100 عنصر، من بينهم نحو 1,500 إلى 3,000 في العراق وسوريا. ولا تزال النواة الأساسية للتنظيم في سوريا مُتماسِكة نسبيًا، وإن كانت أصغر حجمًا. وفي شمال شرق البلاد، لم تُدمَج بعد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) —التي لعبت الدور الأبرز في دحر التنظيم خلال حملة 2014–2019— في هياكل الأمن التابعة للحكومة المؤقتة التي تشكَّلت عقب الإطاحة ببشار الأسد العام الفائت، ما يترك فراغات أمنية لا يزال “داعش” قادرًا على استغلالها.

يُسلِّطُ هذا التعثُّر، إلى جانب الخلافات السياسية والأمنية بشأن مستقبل مناطق شمال شرق سوريا وعلاقتها بحُكم دمشق، الضوءَ على فراغاتٍ أمنية واضحة يمكن لتنظيم “الدولة الإسلامية” استغلالها من دون عناءٍ كبير. وقد أظهر التنظيم بالفعل نزعةً انتقامية مُتصاعِدة، إذ كثّفَ عملياته داخل سوريا عقب انضمام الحكومة المؤقتة إلى التحالف الدولي ضد “داعش” وبدئها بتنفيذ حملات أمنية استهدفت شبكاته وعناصره.

أما خارج الشرق الأوسط، فتبرُزُ “ولاية خراسان” —الفرع المتمركز في أفغانستان والمعروف بـ”داعش–خراسان”— كأكثر أذرع التنظيم قدرةً على تنفيذ عملياتٍ خارجية. وتؤكّد ذلك سلسلة هجمات دامية، أبرزها الاعتداء الجماعي في موسكو عام 2024، إضافة إلى تفجيرات كرمان في إيران في العام نفسه، والتي أودت بحياة ما لا يقل عن 95 شخصًا. وبالتوازي مع نشاطه العملياتي، يواصل هذا الفرع إنتاج مواد دعائية متقنة تستهدف تجنيد وتطرّف أفراد في دول آسيا الوسطى وبين جالياتها في المهجر، مع تحريض مباشر على تنفيذ هجمات في الخارج.

وفي القارة الأفريقية، لا تقل الصورة قتامة. فقد أظهرت “ولاية الساحل” التابعة للتنظيم استعدادها لتوسيع نطاق عملياتها خارج مناطق تمركزها، كما دلّ على ذلك إحباط مخطط إرهابي في المغرب في وقت سابق من هذا العام. ويُسهِمُ ضعفُ جهود مكافحة الإرهاب وتراجُع الضغط الأمني في جعل هذه الجماعة، إلى جانب “ولاية غرب أفريقيا”، من أخطر فروع التنظيم من حيث القدرة على التمدد. كما تثير “ولاية الصومال”، المتمركزة في جبال كال مسكاد، قلقًا متزايدًا، إذ يأتي نحو نصف مقاتليها من خارج البلاد، وتؤدي دورًا محوريًا في تمويل الشبكة الأوسع للتنظيم. وفي جنوب القارة السمراء، تواصل “ولاية موزمبيق” في إقليم كابو ديلغادو استهداف المدنيين، ما استدعى تدخُّلًا عسكريًا مستمرًّا من رواندا للحد من توسّعها. وفي المقابل، تشن “ولاية وسط أفريقيا” حملة عنف ذات طابع طائفي تستهدف المجتمعات المسيحية في شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية.

وعلى خلاف الانطباع السائد، لا تعمل هذه “الولايات” بمعزل عن بعضها البعض. إذ يحتفظ تنظيم “الدولة الإسلامية” بهيكلٍ مركزي للقيادة والسيطرة عبر ما يُعرف بـ”مديرية الولايات العامة”، وهي بُنية تنظيمية جرى تطويرها في مرحلة ما بعد انهيار “الخلافة” الإقليمية. وقد سمح هذا الإطار للتنظيم بالحفاظ على تماسُكِ شبكته العابرة للأقاليم والعمل كمُضاعِف قوة، من خلال الإشراف على مكاتب إقليمية تتولى تنسيق نشاط الفروع المختلفة ضمن نطاقات جغرافية مُحَدَّدة، بما يعزّز قدرتها على الصمود والتكيُّف رُغمَ الضغوط العسكرية والأمنية.

ومن خلال هذا الهيكل الشبكي، يتمكّن تنظيم “الدولة الإسلامية” من تحويل الموارد المالية بين الأقاليم المختلفة، بما يسمحُ بسدِّ الثغرات ودعم الفروع التي تُواجِه ضغوطًا ميدانية أو مالية. وقد برز، على وجه الخصوص، مكتب “القرار” الصغير نسبيًا في الصومال —وهو المكتب الإقليمي المُشرِف على أجزاءٍ واسعة من شرق وغرب وجنوب أفريقيا— كعُنصرٍ محوري في منظومة تمويل التنظيم العالمية. ووفقًا لوزارة الخزانة الأميركية، نجح التنظيم عبر هذا الترتيب في توليد تدفّقات نقدية كبيرة بلغت نحو مليوني دولار خلال النصف الأول من العام 2022، مُستندًا إلى أنشطة غير مشروعة تشمل الابتزاز، وأنظمة ضرائب قسرية، ورسوم على الواردات، فضلًا عن عوائد من تربية الماشية والزراعة. وإلى جانب المال، توفر هذه المراكز الإقليمية المحدودة الحجم لكنها عالية الكفاءة دعمًا لوجستيًا وتدريبيًا يساهم في الحفاظ على الجاهزية العملياتية لعناصر التنظيم.

“داعش” الرقمي: عندما تصبح الدعاية سلاحًا

ومع ذلك، وعلى الرُغم من الدور الحيوي الذي تؤدّيه هذه البنى الإقليمية في الحفاظ على الامتداد العالمي للتنظيم، فإنَّ غالبية العمليات الإرهابية التي تستهدف الغرب في الوقت الراهن لا تُدارُ مباشرة من هذه المراكز، بل تَستلهِمُ خطابَ “داعش” وإيديولوجيته بدون تلقّي تَمكينٍ أو توجيه عملي مباشر. ويعكسُ هذا التحوُّل المكانة المركزية التي يحتلُّها الحضورُ الرقمي للتنظيم، والذي كرّسه، منذ نشأته، كأكثر الفاعلين نشاطًا وتأثيرًا في الفضاء الجهادي الإلكتروني.

فاستمرارُ التنظيم في تطوير محتواه الإعلامي المُتعدّد الوسائط، وإصدار نشراته الدورية، وإدارة منصّاته ومُنتدياته التفاعُلية، أتاحَ له توسيع دائرة تأثيره الإيديولوجي إلى ما يتجاوز نطاق عضويته التنظيمية. ففي ذروة ما سُمّي بـ”الخلافة”، رَكَّزت مقاطع الفيديو المصقولة على استقطاب المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق. أما اليوم، فتُوَجَّهُ الدعاية بشكلٍ مُتزايد نحو التحريضِ على تنفيذ هجماتٍ ضد أهداف غربية، مع التركيز على نماذج العمليات الفردية مُنخفضة الكلفة وعالية الأثر.

ولا يقتصرُ هذا النشاط الدعائي على الخطاب التحريضي فحسب، بل يتعدّاه إلى توفيرِ إرشاداتٍ عملية مُفَصَّلة حول اختيار الأهداف، والحصول على المعدّات، وإدارة الأمن العملياتي. ويتمُّ تحديثُ هذه المواد بصورةٍ مستمرّة لتُواكب التطوُّرات التكنولوجية، بما في ذلك الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي. وقد ترافقَ انتشارُ المنصّات الإعلامية الرسمية والمُوالية للتنظيم مع بروز شبكات ترجمة، تضمُّ هواةً ومحترفين، تعملُ على توسيع نطاق المحتوى وتعظيم أثره عالميًا. ففي ربيع العام 2023، قامت مجموعة موالية تُعرف باسم “فرسان الترجمة” بتجميع الإنتاج الإعلامي الدعائي للتنظيم وإتاحته بأكثر من 18 لغة، ما عزّز قدرة “داعش” على الوصول إلى جمهورٍ عالمي مُتنوِّع.

ورُغمَ أنَّ بعضَ منصّات التواصل الاجتماعي تُواصِلُ حذفَ الحسابات والمحتوى المرتبط بتنظيم “الدولة الإسلامية” بصورةٍ دورية، فإنَّ معركة الرقابة الرقمية لا تزال غير محسومة. فالمتعاطفون مع التنظيم يبرهنون باستمرار على قدرتهم على الالتفاف على أحدث أدوات الكشف والحذف. وإلى جانب المنصّات الكبرى، يعتمد “داعش” على بُنيةٍ تحتية رقمية بديلة يصعب تعطيلها، بل تكاد تكون عصيّة على الإغلاق. وتشمل هذه البُنية شبكة “تور”  (Tor)، التي توفّر مستويات عالية من إخفاء الهوية عبر تمرير حركة البيانات من خلال عقد يديرها متطوّعون، إضافة إلى منصّاتِ تَواصُل ذاتية الاستضافة مثل “روكِت تشات” ( Rocket.Chat)، التي تمنح التنظيم هامشًا أوسع من التحكُّم والاستمرارية.

وفي إنتاجه الدعائي، يُواصل التنظيم تقديم الأهداف المدنية بوصفها أهدافًا “رمزية” ذات عائدٍ إعلامي مرتفع. فقد دعت منصّاته الموالية، على سبيل المثال، إلى استهداف دورة الألعاب الأولمبية في باريس في العام 2024، فضلًا عن المهرجانات السينمائية، والحفلات الموسيقية، والفعاليات الثقافية في مختلف أنحاء أوروبا. ولا تزال أسواقُ عيد الميلاد الأوروبية تحظى بمكانةٍ خاصة في هذا الخطاب التحريضي، لما تُمثّله من كثافةٍ بشرية ورمزيةٍ ثقافية ودينية. وبعد هجوم سيدني الأخير، تصاعدت المخاوف من احتمال تنفيذ مزيد من العمليات الإرهابية المُستوحاة من “داعش”، أو حتى المُوَجَّهة منه، خلال الأيام الأخيرة من العام. وفي أحد أعداد مجلة “النبأ” الحديثة، خصّص التنظيم موسم الأعياد في بلجيكا بوصفه هدفًا مُحتَملًا لهجماتٍ فردية. وقد عزّزت هذه المخاوف سلسلةَ مخطّطات أُحبِطت مؤخَّرًا، من بينها محاولة استهداف سوق لعيد الميلاد في بافاريا مطلع هذا الشهر، وأخرى مماثلة في بولندا.

مكافحة الإرهاب في عصر التهديد اللامركزي

تكمُنُ إحدى أعقد معضلات مكافحة تنظيم عالمي مثل “الدولة الإسلامية” في حقيقة أنه حتى حين تُحقّقُ أجهزةُ الأمن والاستخبارات نجاحاتٍ ملموسة في إضعاف بعض فروعه —كما حدث في جنوب شرق آسيا— فإنَّ التنظيمَ نادرًا ما يُقضى عليه بالكامل. فبقايا صغيرة، محدودة العدد والموارد، قد تظلُّ قادرةً على لعب دورٍ حاسمٍ في تسهيلِ أو إلهامِ هجماتٍ إرهابية. وهذا ما يجعل مكافحة الإرهاب مسارًا طويلًا ومُرهِقًا سياسيًا وإعلاميًا: إذ نادرًا ما يُحتفى بالعمليات الوقائية التي تُحبِطُ المخططات قبل تنفيذها، بينما تؤدي الحوادث البارزة، كاعتداء سيدني، حتمًا إلى موجاتٍ من تبادُل اللوم واتهامات التقصير الاستخباراتي، بغضِّ النظر عن حجمِ التهديد الذي جرى احتواؤه في الخفاء.

إنَّ الطبيعة اللامركزية لشبكة “ولايات” تنظيم “الدولة الإسلامية”، المُمتَدَّة عبر مساحات جغرافية مُتباعدة، إلى جانب اعتماده المتزايد على نمط العمليات الخارجية التي تُفضي غالبًا إلى هجماتٍ “مُلهَمة” أكثر منها “مُوَجَّهة” مباشرة، تفرض تحديات واضحة على استراتيجيات مكافحة الإرهاب. أوّلُ هذه التحديات يتمثّلُ في الحاجة إلى الحفاظِ على ضغطٍ عسكري وأمني متواصل لاحتواء تمدُّدِ التنظيم في بُؤرٍ هشّة مثل منطقة الساحل والصومال. ويعني ذلك أنَّ أيَّ تقليصٍ أو إعادة تموضُعٍ للموارد العسكرية الأميركية في هذه الساحات يجب أن يكونَ مُنسَجمًا بدقّة مع الاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، لا أن يأتي استجابةً لحسابات سياسية ظرفية.

أما التحدّي الثاني، فيكمُنُ في البُعدِ الرقمي للصراع. فمواجهة “داعش” لم تَعُد مُقتَصِرة على ساحات القتال التقليدية، بل باتت تتطلّبُ جهدًا مستدامًا لقمع المحتوى الإرهابي على الإنترنت، وتطوير أدوات أكثر فاعلية لرصد الدعاية المُتطرِّفة وتعطيلها، إلى جانب تعزيز برامج الوقاية التي تستهدف مسارات التطرّف في مراحلها المُبكرة، قبل أن تتحوَّلَ إلى عنفٍ فعلي.

وفي المحصّلة، يظلُ تنظيمُ “الدولة الإسلامية” خصمًا عنيدًا وقادرًا على التكيُّف مع الضغوط، لكنه ليس عصيًّا على الاحتواء أو الهزيمة. واعتماده على شبكةٍ دولية مُترابِطة يجعلُ من المُمكِن تقويض قدراته —شرط توافر استجابة عالمية منسّقة، تتسم بالاستمرارية، وتحظى بتمويل كافٍ، وتجمع بين الأدوات العسكرية والأمنية والفكرية في آن واحد. فبدون هذا الجُهدِ الجماعي، سيبقى التنظيمُ قادرًا على إعادةِ إنتاجِ نفسه في الفراغات التي يُخلِّفها التراخي الدولي.

  • كلارا بروكيرت هي باحثة في مركز صوفان في نيويورك، حيث تُركّز أبحاثها على الإرهاب ومكافحته والتقنيات الناشئة.
  • كولِن كلارك هو المدير التنفيذي لمركز صوفان في نيويورك، وخبيرٌ مُعتَرَفٌ به على نطاقٍ واسع في مجال الإرهاب ومكافحته.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى