العالمُ في 2026: حين تَتَقَدَّمُ البراغماتِيَّةُ على القَواعِد

كابي طبراني*

مع اقترابِ نهاية العام 2025، يدخل العالم العام 2026 وهو مُثقَلٌ بأسئلةٍ أكثر من الأجوبة. فالنظامُ الدولي الذي استندَ لعقودٍ إلى تحالفاتٍ مُستقرّة، وقواعد مُتَّفَق عليها، وإيقاعٍ بطيءٍ للتغيير، لم يَعُد يَعمَلُ بالمنطقِ نفسه. نحنُ أمامَ عالمٍ أكثر سيولة، وأقل يقينًا، حيثُ تتراجَعُ المُسَلَّمات القديمة، وتُختَبَرُ موازين القوة على نحوٍ متسارع. ولن يكونَ العام 2026 عامَ الحَسمِ أو الاستقرار، بقدرِ ما سيكون عامَ كشفِ الاتجاهات الحقيقية التي تُشَكِّلُ ملامحَ المرحلة المقبلة.

إحدى السمات الأبرز للعام المقبل هي استمرارُ الدور المحوري للولايات المتحدة في السياسة العالمية، ولكن ليس بوصفها قوّةً ضامنة للاستقرار، بل باعتبارها عاملًا مُتَغَيِّرًا يصعبُ التنبُّؤ بسلوكه. هذا الواقعُ دفعَ العديدَ من الدول، حتى تلك التي تعتمد تاريخيًا على الشراكة معها، إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية. فسياساتُ التكيُّف والاحتواء قد تستمر، لكنها باتت تُدارُ بقدرٍ متزايد من الحذر، مقرونةً بمحاولاتٍ جادة لتنويع الشراكات وتقليصِ الاعتماد على طرفٍ واحد.

في هذا السياق، تبدو أوروبا في مرحلةٍ انتقالية دقيقة. فالقناعةُ بأنَّ الضمانات الأمنية الخارجية لم تَعُد كافية بدأت تترسَّخ، وإن بوتيرةٍ غير متساوية بين الدول والمجتمعات. هناكَ تحرُّكات واضحة لتعزيز القدرات الدفاعية، وإعادةِ تعريفِ أدوار بعض القوى داخل القارة العجوز، لكنَّ التحدّي الحقيقي يبقى ذهنيًا ونفسيًا: الانتقالُ من عالمٍ افتراضي قائم على الطمأنينة الدائمة، إلى واقعٍ يتطلّبُ استعدادًا ذاتيًا وتحمُّلًا أكبر للمخاطر. عام 2026 قد يكون اختبارًا حاسمًا لمدى قدرة أوروبا على التكيُّف مع هذا التحوُّل، لا فقط سياسيًا، بل مجتمعيًا أيضًا.

أما الشرق الأوسط، فيدخل العام الجديد وهو يُجسّدُ صورةً مُكثَّفة عن التحوُّلات العالمية الأوسع. فالمنطقة لم تَعُد مجرَّدَ ساحةِ صراعٍ بالوكالة، بل باتت مسرحًا تتقاطَعُ فيه حساباتٌ إقليمية مستقلة، مع انحسارٍ نسبي لقدرة القوى الخارجية على فَرضِ مساراتٍ جاهزة. دول المنطقة أصبحت أكثر ميلًا إلى سياسات التوازُن والمرونة، فتتنقلُ بين الشراكات، وتُعيدُ تعريفَ أولوياتها وِفقَ مصالح وطنية مباشرة، لا وِفقَ اصطفافاتٍ جامدة.

غير أنَّ هذا التحوُّل لا يخلو من المخاطر. فمع تراجُع أنماط الردع التقليدية، قد تتصاعَدُ المنافسات الإقليمية، وتُصبِحُ إدارةُ الأزمات أكثر تعقيدًا. في المقابل، يفتحُ هذا الواقع نافذةً لنهجٍ جديد في الديبلوماسية الإقليمية، قائمٍ على المصالح المُتبادَلة والبراغماتية، بدل الارتهان الدائم لصراعات كبرى. عام 2026 قد يشهد تذبذبًا بين هذَين المسارَين، من دون أن يحسمَ أيّهما سيتغلّب.

وعلى المستوى العالمي، يستمرُّ التآكل البطيء لمنظومة القواعد والمؤسّسات الدولية. فهي لم تَنهَر، لكنها لم تَعُد المرجعيّة الحاسمة كما في السابق. الالتزامُ بالقانون الدولي أصبح انتقائيًا، والخطابُ القيمي يتراجَعُ أمامَ منطقِ القوة والمصلحة. في هذا المناخ، تسعى الدول المتوسِّطة إلى المناورة بدل الاصطفاف، وتُفضّلُ المرونة على الولاء، في محاولةٍ لتقليل الخسائر وتعظيمِ المكاسب في عالمٍ غير مُستقر.

ولا تقتصرُ التحوُّلات على الدول فقط، بل تمتدُّ إلى الأفراد. فحركةُ الهجرة، والتعليم، والاستثمار، والسياحة باتت مؤشّرات صامتة لكنها بالغة الدلالة على قوة الجاذبية الناعمة للدول. خلال العام 2026، ستكشفُ هذه التدفُّقات إن كان بعضُ الدول لا يزال قادرًا على استقطاب العقول ورؤوس الأموال، أم أنَّ الاضطرابات السياسية والاجتماعية بدأت تؤثر في صورته العالمية. هذه التحوُّلات، إن حدثت، ستكونُ أعمق أثرًا من أيِّ خطابٍ سياسي.

في أميركا اللاتينية والكاريبي، يزدادُ الشعورُ بالضيق من التعامُل مع المنطقة كساحةِ نفوذٍ مُتنازَع عليها. ورُغمَ التحدّيات الاقتصادية والأمنية الحقيقية، تتنامى الرغبة في استعادةِ القرارِ الوطني، ورَفضِ الإملاءات الخارجية. من المُرجَّح أن يشهدَ العام 2026 ارتفاعًا في أصواتٍ سياسية ومُجتمعية تُطالِبُ بعلاقاتٍ دولية أكثر توازُنًا واحترامًا للسيادة، لا قائمة على الضغط أو الاستقطاب.

اقتصاديًا، سيظلُّ عدم اليقين السمة الغالبة. فالاتفاقيات التجارية التي اعتُبِرَت مستقرة قد تعودُ إلى طاولة المراجعة، لا لأسبابٍ بُنيويّة فقط، بل لأنَّ الغموضَ نفسه باتَ أداةَ تفاوُض. في هذا السياق، ستُصبحُ المرونة الاقتصادية، وتعدُّد الشراكات، وبناء سلاسل إمداد أكثر تنوُّعًا، عناصرَ أساسيّة للصمود. الكفاءةُ وحدها لم تَعُد كافية في عالمٍ تُدارُ فيه المخاطر بقدرِ ما تُدارُ فيه الفُرَص.

وسيحفل العام 2026 بمحطّات رمزية كبرى: قممٌ دولية، أحداثٌ رياضية عالمية، واحتفالاتٌ وطنية ضخمة. لكنَّ الرمزيّة لا تعني بالضرورة الاستقرار. فالسؤالُ الحقيقي هو ما إذا كانت هذه المنصّات ستُستَخدَمُ لإعادةِ بناءِ الثقة والتعاون، أم لتعميق الانقسامات وتكريس السرديات المُتنافسة. الاستعراضُ سيكونُ حاضرًا بقوة، لكنَّ المضمونَ سيبقى موضع اختبار.

في المحصّلة، لا يبدو أنَّ العام 2026 سيكونُ عامًا للحلول النهائية، بل عامًا لظهورِ الحقائق. سيكشُفُ أيًّا من الافتراضات ما زالت صالحة، وأيّها بات من الماضي. النظامُ الدولي لا ينهار، لكنه يتغيَّرُ بعمق. والاستقرارُ، حيث يوجد، سيكونُ مشروطًا ومحدودًا، لا شاملًا ولا مضمونًا.

الخطرُ الأكبر يَكمُنُ في الحنينِ إلى عالمٍ لم يَعُد موجودًا. أما الفرصة الحقيقية، فتتمثّلُ في الاعتراف بالواقع الجديد والتكيُّف معه بوعيٍ وبراغماتية. الدولُ والمجتمعات التي تستثمر في المرونة، وتُديرُ علاقاتها بواقعية، ستكونُ أقدر على التأثير في مسار الأحداث بدل الاكتفاء بالتكيُّف معها. وفي العام 2026، قد يكونُ الدرسُ الأهم هو أنَّ المستقبلَ لن يُستَعادَ… بل سيُعادُ تشكيله، خطوةً بخطوة، وفي ظلِّ عالمٍ لا يَنتظِرُ أحدًا.

وكل عام وأنتم بخير…

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى