لبنان … حين يأسُرُكَ جمالهُ ويُرهِقُك واقِعهُ

البروفِسور بيار الخوري*

يخرجُ كثيرون من السياح من لبنان بانطباعاتٍ مُتناقضة: بلدُ يأسرهم بجماله وكرم ناسه، لكنه في الوقت نفسه يُربِكُهُم بفَوضاه وبُناه التحتية المُتهالكة. هذا التناقُضُ يتكرّرُ في شهاداتٍ حَيّة ينشرها الزوار على منصات التواصل الاجتماعي، حيثُ يظهرُ بوضوحٍ أنَّ الجمالَ وطيبة الناس لا يكفيان وحدهما لتكونَ السياحة قطاعًا اقتصاديًا راسخًا.

في تغريدةٍ على منصّة “ثريد” (thread) كتبها أحد السيّاح بعد إقامته في جونية، بدأ بانطباعٍ إيجابي: “استمتعتُ كثيرًا”، لكنه سرعان ما انتقلَ إلى سرد السلبيات: “لا يمكنك أن تمشي هنا. لا أرصفة، وإذا حاولت فأنتَ إلى جانب زحمةٍ خانقة وهواءٍ مُلوّث. البحر كله مُخصخَص، ولا تستطيع أن تقتربَ منه إلّا إذا دفعت. وحتى سيارات الأجرة، السعر يتبدّل من ثمانية إلى عشرين دولارًا للمشوار نفسه”. هذه الكلمات أثارت تفاعلًا واسعًا بين اللبنانيين أنفسهم؛ بعضهم علّقَ على التغريدة وأقرّ بأنَّ هذا هو واقعه اليومي، وآخرون ردّوا بسخرية مُرّة: “أهلًا بك في لبنان، حيثُ البحر للسياسيين والأرصفة للسيارات المركونة”.

لكنَّ النقاشَ لم يقف هنا. بعضُ المُعلّقين حاولَ الدفاع، مُشيرًا إلى أنَّ هناكَ مساحاتٍ عامة مثل كورنيش بيروت ما زالت مفتوحة، وإن كانت قليلة ومُهمَلة. آخرون قدّموا نصائحَ عمليّة للسائح: “حمّل Bolt أو Uber Cash، ولا تعتمد على التاكسي التقليدي”. هكذا يظهر جليًّا أنَّ التجربة السياحية في لبنان غالبًا ما تتركُ السائح في مواجهةِ حلولٍ فردية بدلًا من منظومةٍ سياحية مُتكامِلة.

تغريدات مُشابهة على منصّة “ريديت” ( Reddit) تكشفُ الجوانب ذاتها. أحدُ السيّاح كتب: “أجمل ما في لبنان هو الناس. الجميع يساعدك بابتسامة، والإنكليزية والفرنسية منتشرتان. لكن إذا لم تحمل كاش بالدولار فأنت في ورطة، فبطاقات الإئتمان لا تنفع”. آخر أضاف: “اشتريتُ خطَّ هاتف نقّال من شركة “ألفا” ( Alfa) بثلاثة دولارات، لكن الإنترنت يتقطع. ومع ذلك لم أشعر بعدم الأمان، فالناس طيبون”. وفي مقابل هذه الانطباعات الدافئة، كتبت سائحة أخرى عن تجربتها الأولى: “شعرتُ وكأنَّ الجميع يُحدّقُ بي، لم أشعر بالترحيب في اليوم الأوّل”. فجاءها ردُّ لبناني: “الناس ليسوا ضدك، هم فقط متعبون وقلقون. حتى نحن نشعر بالغربة أحيانًا”.

هذه النقاشات تكشفُ بوضوح الفجوة بين عناصر الجذب وعناصر النفور. فالجمال الطبيعي والضيافة عنصران لا يمكن إنكارهما: مناظر جبلية خلّابة، طعاٌم متنوّع، حياةٌ ليلية نابضة، وأناسٌ مستعدّون لمساعدة الغريب. لكن هذه الإيجابيات تصطدمُ مباشرةً بالثغرات: غيابُ الأرصفة والنقل العام، الازدحام والتلوُّث، خصخصة الشواطئ، فوضى التسعير، وضعف الخدمات الأساسية.

من زاويةٍ اقتصادية، هذا يعني أنَّ لبنانَ يملكُ رأس مال سياحي خام لكنه عاجزٌ عن تحويله إلى صناعةٍ مُستدامة. فالسائحُ الذي يكتب: “أحببتُ لبنان، ولكن…” يختصرُ مُعضِلةً كاملة: هناكَ ما يجذب، لكنه لا يُتَرجَمُ إلى عائدٍ طويل الأمد. السياحةُ الناجحة ليست فقط صورًا للجبال وموائد عامرة، بل هي أيضًا تجربة متكاملة تبدأ من المطار وتنتهي بالشاطئ العام، مرورًا بالبنية التحتية والنقل والأسعار.

إنَّ تغريدات”ريديت” ( Reddit) و”ثريد” ((thread، وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي، بما تحمله من صراحةٍ وتناقُضٍ تُعَدُّ شهادةً حيّة على ما يقوله اللبنانيون منذ سنوات. فالمشاكلُ التي يراها الزائر في أسبوع هي نفسها التي يعيشها المواطن يوميًا. وإذا أرادَ لبنان أن يجعلَ من السياحة رافعة اقتصادية حقيقية، فذلك يتطلّبُ إصلاحاتٍ ملموسة: تحرير الشواطئ العامة من الخصخصة، تطوير النقل العام والسياحي، تنظيم الأسعار ووضع معايير شفافة، وتحسين البنية التحتية للمدن والبلدات. عندها فقط يمكن للجمال وطيبة الناس أن يتحوّلا من ميزةٍ عاطفية عابرة إلى قوّة اقتصادية قادرة على مواجهة الأزمة.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى