اللبناني محمد حسَين بيضون: مُعجِزة؟ أَم أُعجُوبَة
هنري زغيب*
بين لبنان الدولة ولبنان الوطن، فرقُ ما بين المحدودية والعبقرية: الدولةُ اللبنانيةُ محدودةٌ بجغرافياها (مساحةً) وديموغرافياها (مواطنين وسكَّانًا)، لا سُلْطة لها على شبر واحد ولا شخصٍ واحدٍ خارجَهما. بينما الوطنُ اللبنانيُّ لا حدودَ له: ساطعٌ في كل العالم بما في أَرضه من فرادةِ طبيعةٍ وحضاراتٍ وآثارٍ وتاريخٍ وسياحةٍ ومعالِمَ وأَعلامٍ مبْدعين على أَرضه الأُم وفي كلِّ أَرضٍ من أَوطان العالَم. هكذا: بسبَب محدودية الدولة فُرَصًا وإِمكانات، وبفضْل عبقرية اللبناني في وطنه اللامحدود، يُطلُّ علينا مع كلِّ فجرٍ صباحٌ جديدٌ بإِشراقِ لبنانيٍّ في العالَم يَجترحُ أَو يَفوزُ أَو يُحقِّقُ أَو يُنجزُ، ما لم يكن ممكنًا له في محدودية الإِمكانات المحلية والظروف.
أَحدثُ هذه “الإِشراقات” جاءَنا من أَميركا هذه المرة، حقَّقَهُ ابنُ بنت جبيل الطبيبُ الفَذُّ محمد حسين بيضون بإِنجاز مبارَكٍ هو بين المعجزة العلْمية والأُعجوبة الطبية: تناولَ طفلًا ابنَ سنتَين انفصَلَ عُنقُه عن جسده، وعالجَه بإِجراء ثلاثِ عملياتٍ جراحيةٍ دقيقةٍ وخطيرةٍ وصعبةٍ جدًّا طيلة خمسة أَيام متتالية، كلُّ عمليةٍ بين 8 و10 ساعات، حتى ردَّه إِلى الحياة قبل رمقِها الأَخير. نعم: أَعادَ الطبيبُ اللبنانيُّ تثْبيتَ رأْس الطفل بعد انفصالِ جمجمتِه شبهِ الكامل عن العمود الفقري، وتَمَزُّقِ الحبْل الشوكي، وانقطاعِ الإِشارات العصبية بين الدماغ وسائر أَعضاء الجسم، في ما وصفَها الخبراءُ الاختصاصيون “من أَكثر العمليات تعقيدًا في تاريخ الطب الحديث”.
هكذا محمد بيضون، رئيسُ قسم جراحة الدِماغ والأَعصاب في جامعة شيكاغو ومستشفاها، نجحَ في وَهْب الحياةِ طفلًا كان الطبُّ وقَفَ عاجزًا حيالَه مقترِحًا وَهْب أَعضائه الطفْلة قبل وفاته المحتَّمة. لم يقف محمد بيضون عاجزًا. هو والدُ طفلَين، واعتبَرَ هذا الطفلَ الأَميركي أُوليفر ستوب Staub وَلَدًا ثالثًا له. قرَّر إِنقاذَه، وأَنقذَهُ بإِيمانه أَنَّ “الطبَّ ليس علْمًا وحسْب بل رسالةٌ إِنسانية”.
أَكثر؟ هذه:
تناولَ “مستشفى شيكاغو الجامعي” حالةَ نجاح الطبيب اللبناني محمد بيضون، وثَبَّتَها في سجلِّ “أَبحاث طبية متخصِّصة حول إِصابات العمود الفقري عند الأَطفال”، واعتَبَرَ أَنَّ إِنجازَ الدكتور بيضون، في إِعادةَ تثْبيتِ الرأْس بالعمود الفقري وإنقاذ الولَد من الشلَل، “يُسهمُ في تطوير بروتوكولات علاجية جديدة في هذا المجال الدقيق، لأَن هذه العملية فَتحَت أُفقًا جديدًا لاكتشاف قُدرة الدماغ البشري على التكيُّف بعد إِصابةٍ خطيرةٍ في الحبْل الشوكي”، وهي تحصل لأَوَّل مرةٍ في تاريخ الطب.
أَكثر بعد؟ هذه:
لفتَني في حديث الدكتور بيضون إِلى محطة “أم تي في” “MTV” كلامُه باللبنانية من دون رطانة أَميركية اللفْظ، ما يُشير إِلى أَنه لم ينفصلْ عن لسانه اللبناني في محيطه اليومي هناك. كما لفَتَني ذِكْرُهُ أَنَّ معه في الجامعة ذاتها والمستشفى ذاته طبيبَين لبنانيَّين آخرَين: الدكتور عصام عوَّاد والدكتور يوسف قمَير، وقولُه باعتزازٍ عنهما إِنهما “من الأَوائل في العالَم”. وفي ختام تلك المقابلة قال محمد بيضون بنبرةٍ أَرزيَّة: “لي الفَخرُ أَن أَكون من لبنان”.
قبل سنواتِ، غادر الدكتور حسين بيضون صيدا (وكان فيها مُدَرِّسًا لدى دار المعلَّمين والمعلِّمات، وقبْلذاك كانت زوجتُه نجوى الخليل مديرةَ المدرسة الرسمية للبنات في بلدتها جوَيَّا)، وانتقل إِلى مدينته بنْت جبيل إِثْر تعيينه مديرَ المدرسة المهنية فيها. وذات يومٍ أَسودَ من سنوات الحرب، ضايقَه قراصنةُ “الهنود الحمر” أَبطالُ الساحة فترتئذٍ، فقرَّر مغادرةَ لبنان. انتقلَ إِلى أَميركا، ثم التحقَتْ به سنة 1987 زوجتُه نجوى مصطحبةً ابنتَيهما وابنَيْهما وأَصغَرُهُما محمد ابن السبع سنوات (وُلِدَ في صيدا يوم الأَربعاء 14 أَيار 1980).
اليوم، بعد إِنجازه الطبي الماثل بين المعجزة والأُعجوبة، يقفُ الطبيب اللبناني الشاب محمد بيضون (45 سنة) على قمَّة النجاح العالَمي (شهِدَتْه له الصحافة الأَميركية والعالَمية)، يَشْهَرُ لبنانيَّتَه بشموخِ ابن الجنوب اللبناني الرائع، ويًذكِّرنا بمقولة جبران “أَبناءُ لبناني هم الذين يولَدون في الأَكواخ ويموتُون في قصور العلْم”.
محمد بيضون: تنتمي إِلى لبنان الوطن أَنْت؟ ثِقْ أَنَّ وطنَك أَيضًا يَنتَسبُ إِليكَ وإِلى أَمثالكَ من أَحبابنا اللبنانيين المبدعين.
بلى، بلى: “يا زغيَّر وْوِسْع الدني يا وطني”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
 
				 
					 
						


