التَطبيعُ المَفروض: لماذا يُدفَعُ لبنان إلى خِيارٍ لا يَحتَمِلُهُ؟
تتزايَدُ الضغوطُ الدولية لدَفعِ لبنان نحو مسارٍ تطبيعي مع إسرائيل، في وقتٍ يعاني البلد من هشاشةٍ داخلية وتوازُناتٍ إقليميّة معقّدة. وبين حساباتِ التَهدِئة والمخاطر الاستراتيجية، يبدو هذا الخيار أقرب إلى مُقامرةٍ سياسية منه إلى حلٍّ مُستدام.

مايكل يونغ*
في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، عَيَّنَ الرئيس اللبناني جوزيف عون، بالتشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام، السفير اللبناني السابق لدى الولايات المتحدة سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني المُشارِك في ما يُعرف بـ”الآلية” أو “الميكانيزم”، وهي الصيغة الموسّعة للجنة الخماسية المُكَلَّفة مُراقبة ومُتابعة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمَّ التوصُّلُ إليه بين لبنان وإسرائيل العام الفائت. ويأتي هذا التعيين في سياقٍ سياسي وأمني دقيق، تتقاطَعُ فيه مساعي تثبيت التهدئة مع ضغوطٍ دولية مُتزايدة على بيروت.
وتَبرُزُ أهمّية تعيين كرم في كونه أول مدني يتولّى رئاسة الوفد اللبناني في هذه اللجنة، بعدما اقتصرَ التمثيلُ سابقًا على ضبّاط عسكريين، مع مُشارَكةٍ مدنية محدودة في إطارٍ استشاري وتقني. ويَعكِسُ هذا التطوُّرُ تعديلًا في المقاربة اللبنانية لإدارة هذا الملف، سواء من حيث طبيعة التمثيل أو مستوى الدور الممنوح للجانب الديبلوماسي، في وقتٍ تتزايد الحاجة إلى مُواكبةٍ سياسية إلى جانب المعالجة الأمنية.
ويأتي هذا التغيير بعدَ طلبٍ تقدّمت به المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) لتوسيع الوفد اللبناني ليشمل مدنيين، وهو طلبٌ واجهت بيروت صعوبة في رفضه في ظلِّ محدودية خياراتها واعتمادها على الدور الأميركي في الحدِّ من وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية. وتزامَنَ ذلك مع تصعيدٍ إسرائيلي ملحوظ في الغارات الجوية على مناطق عدة داخل لبنان، بذريعةِ استهداف مواقع تابعة لـ”حزب الله”، ما زادَ من تعقيد المشهد وضَيَّقَ هامشَ المُناورة أمام الدولة اللبنانية.
في المقابل، يبدو أنَّ المقاربة الأميركية تنطلقُ من هدفٍ أبعد من تثبيت وقف إطلاق النار، يتمثّلُ في دَفعِ لبنان تدريجًا نحو مسارٍ تفاوضي مع إسرائيل قد يفتحُ البابَ أمامَ تطبيعِ العلاقات بين الجانبين. غير أنَّ هذا التوجُّه يواجه رفضًا لبنانيًا واسعًا، إذ لا تزال بيروت تلتزمُ رسميًا بمبادرة السلام العربية التي أُقِرَّت عام 2002، والتي تربطُ أيَّ سلامٍ شامل بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلّة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وتتّسمُ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بانحيازٍ واضح إلى إسرائيل، مع هامشٍ محدود لإظهارِ تعاطُفٍ فعلي مع الموقف اللبناني. وعلى الرُغمِ من إقرارِ واشنطن بالقيود السياسية والأمنية التي تُواجِهُها بيروت، فإنها لا تُخفي حرصها على الدفع قدمًا بمسار “اتفاقيات أبراهام”، الذي تَنظُرُ إليه إسرائيل بوصفه ركيزةً أساسية لإعادة تشكيل علاقاتها الإقليمية. ويُمثّلُ أيُّ اختراقٍ إضافي في هذا الإطار مكسبًا سياسيًا مُهمًّا لترامب، ولا سيما في سياقٍ داخلي يسعى فيه إلى تسجيلِ إنجازاتٍ في السياسة الخارجية.
وفي هذا السياق، يبرزُ في واشنطن تحالفٌ غير مُتجانِس يضمُّ مؤسّسات وشخصيات مقرّبة من إسرائيل، إلى جانب شخصياتٍ لبنانية ترى في السلام اللبناني–الإسرائيلي مدخلًا لتهميش “حزب الله” وفتح آفاق اقتصادية وسياسية جديدة أمام لبنان. وقد لجأ بعض هؤلاء إلى استخدام منصّاتهم الإعلامية للترويج لهذا الطرح، بما في ذلك إجراء مقابلات علنية مع مسؤولين إسرائيليين، من بينها لقاءات مع سفير إسرائيل في واشنطن للحديث عن فُرَصِ السلام بين البلدين.
غير أنَّ هذا الطرحَ يصطدمُ بواقعٍ داخلي لبناني بالغ التعقيد. فمحاولةُ إدخالِ لبنان في مسارٍ سياسي لا يحظى بتوافُقٍ وطني واسع قد تؤدّي إلى تعميق الانقسامات الداخلية، وربما تفتح المجال أمام تدخُّلاتٍ خارجية تسعى إلى تقويضِ أيِّ فرصة لتسوية مستقرّة. كما إنَّ اختزالَ معوّقات السلام اللبناني–الإسرائيلي بعاملٍ واحد، يتمثّل في “حزب الله”، يتجاهلُ جُملةً من الاعتبارات السياسية والشعبية والإقليمية. فالتطبيعُ مع إسرائيل يواجه تحفّظات واسعة في لبنان والمنطقة، فضلًا عن وجودِ شريحةٍ كبيرة من اللبنانيين لا ترى، في المرحلة الراهنة، أيَّ مُبرِّرٍ للذهاب أبعد من التفاهُمِ على ترتيباتٍ أمنية محدودة في جنوب البلاد.
فعلى سبيل المثال، قد يؤدّي تصعيدُ الضغوط في هذا الملف إلى تحريكِ مساعٍٍ إيرانية وتُركيّة تهدفُ إلى تقويضِ أيِّ تقدُّمٍ يتمُّ إحرازه. ويعودُ ذلك إلى أنَّ المشهدَ الأوسع في المشرق العربي باتَ محكومًا بتنافُسٍ مُتشابك بين إسرائيل وتركيا وإيران، تسعى فيه كل دولة إلى توسيعِ نطاق نفوذها الإقليمي، أو، في حالة طهران، إلى الحفاظِ على ما تبقّى من حضورها في ظلِّ الضغوط المتزايدة التي تواجهها.
ويقع كلٌّ من لبنان وسوريا في صلبِ هذا التنافس الإقليمي، حيث تتقاطع وتتصادم مصالح القوى الثلاث. ففي سوريا، تتعارَضُ الأهداف التركية والإسرائيلية بشكلٍ متزايد، فيما يلوحُ تقارُبٌ ظرفي بين أنقرة وطهران نابعٌ من رغبتهما المشتركة في احتواء النفوذ الإسرائيلي، رُغمَ استمرار الخلافات العميقة بينهما، ولا سيما سعي تركيا إلى الحدِّ من قدرة إيران على التأثير في استقرار الساحة السورية. وفي هذا السياق، لفت إرسال “حزب الله” أخيرًا وفدًا إلى إسطنبول، برئاسة مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب عمار الموسوي، للمشاركة في مؤتمر حول فلسطين، الأنظار، ولا سيما مع تداوُلِ معلوماتٍ عن اجتماعاتٍ أخرى جمعت مسؤولين من الحزب مع مسؤولين أتراك.
ولم يَكُن الاهتمامُ التركي بلبنان بارزًا في مراحل سابقة، غير أنه بدأ يكتسب زخمًا متزايدًا في ضوءِ تَصاعُدِ التوتُّر بين أنقرة وتل أبيب، وتنامي النفوذ التركي في سوريا. وقد برزَ هذا الاهتمام بشكلٍ أوضح عقب الاتفاق الأخير بين لبنان وقبرص على ترسيم حدودهما البحرية، وهو اتفاقٌ أثارَ اعتراضاتٍ تُركيّة، على خلفية اعتقاد أنقرة بأنه يتعارَضُ مع تصوُّراتها الخاصة لترسيم الحدود البحرية، سواء مع الجُزء الشمالي التركي من قبرص أو مع الساحل السوري.
يُضافُ إلى ذلك أنَّ ترسيمَ الحدود البحرية بين لبنان وكلٍّ من إسرائيل وقبرص يفتحُ، من الناحية النظرية، البابَ أمامَ أي ترتيبات مستقبلية مُحتملة لتصدير الموارد اللبنانية من النفط والغاز البحري، في حال ثبوت وجودها، ضمنَ أُطُرِ تعاوُن إقليمي تشمل إسرائيل وقبرص. غير أنَّ هذا المسار يتقاطَعُ مع مصالح تركية مُغايِرة، إذ تسعى أنقرة إلى تكريس موقعها كممرٍّ رئيسي لنقل الطاقة من المشرق العربي إلى أوروبا، مُستندةً إلى دورها المحوري في شبكة خطوط الأنابيب التي تربط روسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط بالأسواق الأوروبية.
في هذا السياق، يجدُ لبنان نفسه أمامَ هامش مناورة محدود. فلا هو قادرٌ على الخروج عن الإجماع العربي حيال إسرائيل من دون تحمُّلِ كلفة سياسية وإقليمية باهظة، ولا هو معني بالدخول في مسارِ تَقارُبٍ من شأنه تعقيد علاقاته مع تركيا وسوريا. وإذ يُدرِكُ اللبنانيون أنَّ لكلٍّ من إيران وتركيا مصلحة مشتركة في الحؤول دون إدخال لبنان في الفلك الإسرائيلي، يُصبحُ الحفاظُ على الحدِّ الأدنى من التماسُك الداخلي أولوية، خصوصًا أنَّ أيَّ انقسامٍ داخلي عميق قد يُشكِّلُ مَدخلًا لتدخُّلات خارجية تُغذّي الانقسامات بدل احتوائها.
من هنا، يبدو الضغط الأميركي باتجاهِ التطبيع مع إسرائيل خيارًا بالغ الخطورة. ففَرضُ خياراتٍ كبرى على دولٍ مُنقَسِمة أصلًا، ودفعها إلى الاصطفاف القسري في صراعٍ إقليمي مفتوح، غالبًا ما يؤدّي إلى نتائج عكسية، لا تقلّ خطورةً عن الصراع ذاته. وتجربةُ أوكرانيا ماثلة في هذا السياق، إذ تحوَّلَ الانقسامُ الداخلي إلى ساحة مواجهة بين قوى إقليمية ودولية. ولن يكونَ لبنان، بتوازناته الهشّة، في موقعٍ أفضل إذا سلك المسار نفسه. فالمطلوبُ في المرحلة الراهنة هو تثبيتُ وَقفِ الهجمات العابرة للحدود بين لبنان وإسرائيل وضمان استمراريته، أما الذهاب أبعد من ذلك نحو التطبيع، فيبقى خطوةً مُتَسَرِّعة لا تنسجمُ مع مُعطيات الواقع السياسي والإقليمي الحالي.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.