كيفَ يُمكِنُ لِأميركا وإيرانَ كَسْرُ الجُمودِ النَّوَوِيّ… والخُروجُ مِن فَخِّ الأَمْنَنَة؟
لم يَعُد “الأمن” في السياسة الدولية مفهومًا للحماية بقدر ما بات أداةً لإعادةِ تعريف الخصوم بوصفهم تهديدًا وجوديًا يُبرِّرُ الاستثناء والعقاب. وفي الحالة الإيرانية، صنعت الأمننة حلقةً مفرغة من الضغط والردّ، تُنتج نبوءةً تتحقق ذاتيًا وتدفع الجميع إلى مزيد من التصعيد بدل التعايش.

محمّد جواد ظريف وأمير بارسا غارمسيري*
في العلاقاتِ الدولية المُعاصِرة، لم يَعُد الأمنُ مجرَّدَ غايةٍ تسعى الدول إلى تحقيقها داخل حدودها فحسب، بل أصبحَ أداةً سياسية تستخدمها لتبرير السيطرة على سلوك الآخرين والتحكُّم به وإعادة توجيهه. عندما يتحدث علماء السياسة عن “الأمننة” (تحويل قضية إلى مسألةٍ أمنية) (securitization)، فإنهم يُشيرون إلى عمليةٍ يتمُّ من خلالها تصويرُ قضيّةٍ مُعَيَّنة على أنها تهديدٌ وجودي يُبرِّرُ اتخاذ تدابير استثنائية، بدلًا من كونها قضية يمكن للحكومات معالجتها عبر السياسات المعتادة.
وتبرزُ الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثالًا دالًا على هذا المنحى. فخلال العقدين الماضيين، عملت إسرائيل والولايات المتحدة على ترسيخِ صورة إيران كخطرٍ مركزي يُهدّدُ النظامَ الدولي، بدل التعامل معها كدولةٍ طبيعية ضمنه. وقد تُرجِمَ هذا المسار بسلسلةٍ من الإدانات المتكررة، والعقوبات القاسية، والتهديدات باستخدامِ القوة، وصولًا إلى تنفيذ عمليات عسكرية على أراضيها، حتى في خضمِّ مفاوضاتٍ ديبلوماسية بين طهران وواشنطن. أمامَ هذا الواقع، وجدت إيران نفسها مُضطَرَّة إلى تكثيف إنفاقها الدفاعي وتعزيز قدراتها، بما في ذلك رفع مستويات تخصيب اليورانيوم، في رسالةِ تحدٍّ تؤكّدُ رفضها الخضوع للضغوط. ولم يقتصر أثرُ هذا النهج الأمني على السياسة الخارجية، بل امتدَّ إلى الداخل، حيثُ أسهم في تشديد مُقاربة الدولة إزاء القضايا الاجتماعية، وتعاملها معها بقدر أكبر من الصرامة وفرض القيود.
والنتيجة كانت حلقةً مفرغة من التسييس الأمني: دوّامةٌ خبيثة يجد فيها كلٌّ من إيران وخصومها نفسه بأنه مُضطَرٌّ لتبنّي سياساتٍ أكثر تشدُّدًا وعدائية ردًّا على سلوك الطرف الآخر. تُشبهُ هذه الديناميكية إلى حدٍّ ما “مُعضِلة الأمن”، حيث يؤدّي سعيُ دولةٍ ما إلى تعزيز قدراتها إلى دَفعِ دولٍ أخرى إلى المسار نفسه. ولكن في “مُعضلة الأمن”، يتفاعلُ كلُّ طرفٍ مع الزيادات المادية في قدرات الطرف الآخر. تبدأ هذه الحلقة بالخطاب. يُصَوَّرُ البلدُ المُستَهدَف على أنه تهديد، ثم يُعامَلُ على هذا الأساس. ومع مرور الوقت، يجد نفسه مضطرًا، ردّا على ذلك، إلى اتِّخاذِ إجراءاتٍ —كتعزيز ترسانته الصاروخية أو رفع مستويات تخصيب اليورانيوم— تُستَخدم لاحقًا لتأكيد الاتِّهام الأصلي. وهكذا، تتحوَّلُ العملية برمّتها إلى نبوءةٍ تُحقِّقُ ذاتها، يفقد فيها الطرف المُسيَّس أمنيًا تدريجًا هامش الاستقلال في قراراته، ويقع في فخِّ سلسلةٍ مُتلاحقة من ردودِ الفعل.
كَسرُ هذه الحلقة ليس مهمّة سهلة أو سريعة، إذ يتطلّبُ قبلَ كلِّ شيء أن تكفَّ القوى الخارجية عن تشويهِ صورة إيران، وتهديدها، والتعامُل معها بمنطق الإكراه، وأن تُبدي قدرًا من الاحترام لحقوقها وكرامتها كدولةٍ ذات تاريخٍ حضاري عريق. ومع ذلك، لا يخلو الأمر من خياراتٍ مُتاحة أمام طهران للإسهامِ في تفكيك هذه الدوامة. في مقدّمة هذه الخطوات، يأتي تعزيز التماسُك الداخلي عبر إصلاحاتٍ اقتصادية حقيقية، من شأنها تقوية موقع إيران التفاوضي خارجيًا، لا سيما أنَّ التجربة أثبتت أنَّ المجتمع الإيراني يُشكّلُ أحد أهم عناصر الصمود في مواجهة الضغوط والاعتداءات الأجنبية. كذلك، يُمكنُ لإيران مراجعة تركيزها المُفرِط على أدوات القوة الدفاعية الصلبة، التي غالبًا ما تُضَخِّمُ تصوُّرات التهديد، مقابل إيلاء أولوية أكبر لمسارات التعاون والتنسيق، وخصوصًا على المستوى الإقليمي. ومن بين الخيارات المطروحة أيضًا فتح حوار جاد وشفاف مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمعالجة المخاوف المتبادلة واستعادة التعاون، إلى جانب السعي إلى قنوات تواصل مع الولايات المتحدة لإدارة الخلافات القائمة، بدءًا من الملف النووي وصولًا إلى نظام العقوبات.
تحت ضغطٍ شديد
على مدى العقدين الماضيين، كانت إيران هدفًا لحملةٍ أمنية مُكثَّفة قادتها إسرائيل والولايات المتحدة، عمل الطرفان خلالها على ترسيخِ ونَشرِ سرديةٍ تُقدِّمُ الجمهورية الإسلامية بوصفها تهديدًا وجوديًا، ليس لمحيطها الإقليمي فحسب، بل للعالم أجمع. وقد لعبَ الخطابُ السياسي دورًا محوريًا في هذا المسار؛ بنيامين نتنياهو، الذي وصف الحكومة الإيرانية بأنها “طائفة مسيحانية ذات نزعة كارثية”، زعم في خطابٍ ألقاه أمام الكنيست عام 1992 أنَّ “إيران على بُعدِ ثلاث إلى خمس سنوات من امتلاك سلاح نووي”. وفي السياق نفسه، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من بين العديد من الإهانات، إيران بأنها “مكانٌ شرير للغاية”. وعلى الرُغم من التناقض الصارخ بين هذه الادعاءات، لم يمنع ذلك أيًا من الطرفَين من مواصلة الترويج لها، بالتوازي مع تصعيد سلوك عدائي متدرّج. فقد فرضت واشنطن نظامًا غير مسبوق من العقوبات الاقتصادية، فيما نفّذت إسرائيل، بدعمٍ أميركي مباشر، هجمات استهدفت البنية التحتية الإيرانية، وأدّت إلى اغتيال قادة عسكريين وعلماء، وسقوط مدنيين.
أمام هذا المسار التصعيدي، اضطرّت إيران إلى الردِّ بسياساتٍ عدائية بدلًا من مواصلة خططها الأصلية الهادفة إلى تحقيق مصالحها ضمن أُطُرٍ أقل صدامية. ومع تصاعُد الضغوط الأميركية والإسرائيلية، رفعت طهران مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة، وقلّصت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي أعقاب الهجمات الأميركية-الإسرائيلية المشتركة غير المُبَرَّرة، بدأ الإيرانيون العاديون يُناقشون ما إذا كان ينبغي تغيير عقيدة الدفاع الإيرانية لتشمل الأسلحة النووية. واكتسبت الدعوات لإغلاق مضيق هرمز زخمًا متزايدًا. ولولا هذا العدوان، لكانت إيران قد واصلت تعاونها غير المسبوق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب الاتفاق النووي لعام 2015، ولركّزت على التعاون الإقليمي الذي دافعت عنه منذ العام 1985.
وقد أسهم هذا التوجّه الأمني في ترسيخ ما يمكن وصفه بـ”عقلية الحصار”، التي غالبًا ما تنعكسُ في فرض قيود اجتماعية مُشَدَّدة، تشملُ تقييد الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز أدوات المراقبة بحجّة مكافحة التجسُّس والتخريب. غير أنَّ هذه الإجراءات، على شدّتها، تبقى عاجزة عن معالجة جذور السخط الداخلي، من أزمات اقتصادية متفاقمة، وتآكل في رأس المال الاجتماعي، واتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع. ومع ذلك، فإنَّ هذه النتيجة تكادُ تكون حتمية عندما يُدفَعُ بلدٌ ما إلى العيش لعقود تحت وطأة عقلية الحصار. ففي الحالة الإيرانية، تعودُ جذورُ هذا التشدُّد الأمني إلى الحرب التي شنّها الرئيس العراقي السابق صدام حسين على إيران لثماني سنوات، وما تلا ثورة 1979 من عنفٍ انفصالي وعملياتٍ إرهابية واسعة النطاق. وقد استمرَّ هذا المسار بفعل التهديدات والإكراه المُتَواصِلَين من الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي مثل هذه الظروف، يصعبُ على أيِّ حكومة ألّا تنشغل، أوّلًا وقبل كلِّ شيء، بالتهديدات الخارجية —الحقيقية منها والمُتَخَيَّلة— التي تمسُّ كرامتها واستقلالها.
وتُعدّ التهديدات الخارجية عاملًا مركزيًا في تفاقُم هذه المُعضِلات والصعوبات. فمع تعرُّضِها لهجماتٍ مُتكرِّرة من العراق سابقًا، ثم من إسرائيل والولايات المتحدة لاحقًا، اضطرّت طهران إلى إعادةِ ترتيب أولوياتها المالية، فرفعت إنفاقها العسكري والأمني على حساب الاستثمار في التنمية والرعاية الاجتماعية. وزادَ من حدّة هذا المسار ما يُمكِنُ وصفه بـ”الحرب الاقتصادية” التي قادتها واشنطن ضد إيران، سواء عبر العقوبات الواسعة التي فُرِضَت في عهد باراك أوياما، أو من خلال حملة “الضغط الأقصى” التي أطلقها دونالد ترامب. وقد أدّت هذه السياسات إلى انهيارٍ حاد في قيمة الريال، وتضخُّمٍ خانق، وانتشار مُمارسات فساد هدفت إلى الالتفاف على العقوبات. ومع ذلك، وبدل الاعتراف بدورها المباشر في إفقار المجتمع الإيراني، عمدت القوى الخارجية إلى تكريس صورةٍ انتقائية ومُسَيَّسة للجمهورية الإسلامية، تُقَدَّمُ فيها بوصفها مُنتَهِكة لحقوق الإنسان، ما أسهمَ في تعميق دوّامة التسييس الأمني، وتقليص هامش استقلال إيران في خياراتها الدولية.
الدولة والمجتمع
من أجلِ بناء إيران أكثر استقرارًا وعالمٍ أكثر أمانًا، ستحتاجُ طهران وخصومها إلى إيجادِ مخرجٍ من هذه الدوّامة. وما ثبت فشله بات واضحًا: الضغوط لم تُفلِح في تغييرِ سلوك إيران، كما إنَّ السياسات الدفاعية التي انتهجتها طهران، مثل رفع مستويات تخصيب اليورانيوم، لم تُبدِّد التهديدات المُتَصَوَّرة حيالها. فالتسييسُ الأمني يعمل أساسًا في فضاء التصوُّرات الذهنية لا في ميدان القدرات المادية، وغالبًا ما تُستخدَمُ الإجراءات الدفاعية التي يتّخذها الطرفُ المُستهدَف لتعزيز سرديات خصومه. ويتجلّى ذلك بوضوح في الخطاب الاستفزازي، ولا سيما التصريحات غير المسؤولة التي أطلقها بعض السياسيين الإيرانيين خلال العقد الثاني من الألفية، حين تحدث عن “سيطرة” إيران على أربع عواصم عربية —دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء— وهي تصريحات استغلتها القوى المُسَيِّسة لتبرير ضغوطها على إيران.
قد يُوحي هذا المشهد بأنَّ طهران عالقةٌ في مأزقٍ لا مفرَّ منه. لكن التاريخ يُشيرُ إلى عَكسِ ذلك. فمن خلال ديبلوماسيةٍ حكيمة ومحسوبة، تمكّنت إيران من كَسرِ حلقة التضييق الأمني خلال النصف الأول من العقد الثاني من الألفية الثانية من خلال الحوار مع الولايات المتحدة، وهو مسارٌ تُوِّجَ بخطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، التي سعت إلى ضمان عدم تطوير إيران لسلاح نووي مقابل التطبيع الاقتصادي. وقد غيّر هذا الاتفاق البيئة الدولية المحيطة بإيران (ولو مؤقتًا). وقد كرّسَ مجلس الأمن الدولي هذا التحوُّل في قراره رقم 2231، الذي نصّ على أنَّ “إبرامَ خطة العمل الشاملة المشتركة يُمثّل تحوُّلًا جوهريًا في نظرته إلى هذه القضية”، وأعرب عن “رغبة المجلس بكامل هيئته في بناء علاقة جديدة مع إيران تُعزّزها بتفعيل خطة العمل الشاملة المشتركة”.
ويعودُ نجاحُ إيران في إبرام هذا الاتفاق بالدرجة الأولى إلى الإقبال الكبير على الانتخابات الرئاسية لعام 2013، والذي بدّدَ الأوهام السائدة في الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الانهيار الوشيك للجمهورية الإسلامية، وهي أوهامٌ غذّتها الاضطرابات التي أعقبت انتخابات العام 2009 في إيران. وقد منحت انتخابات 2013 شرعيةً داخلية لإدارة حسن روحاني الجديدة، التي سعت إلى صَونِ حقوق الشعب الإيراني وحمايتها عبر الحوار لا المواجهة. بعبارةٍ أخرى، بدأ كسرُ حلقة التسييس الأمني من الداخل، ببناءِ توافُق وطني واسع. بإمكان إيران إعادة بناء هذا التوافق، لكن ذلك يتطلّب إقامة حوار وطني بين الجماعات السياسية والفئات الاجتماعية وعامة الشعب. لحُسنِ الحظ، تمتلك إيران بالفعل منصّات إلكترونية، أنشأتها منظمات غير حكومية، يمكن للمواطنين استخدامها لتسجيل شكاواهم بشأن السياسات والبيروقراطيين. كما ترصُدُ هذه المنصّات مدى انتشار هذه الشكاوى. ينبغي على الحكومة تشجيع هذا الإبلاغ، وإلزام الأجهزة الحكومية باتخاذ إجراءات تصحيحية استجابةً لهذه الشكاوى. من شأن ذلك تعزيز رأس المال الاجتماعي للحكومة، وبالتالي تمهيد الطريق لتنفيذ سياسات تهدف إلى مكافحة التسييس الأمني.
بإمكان الحكومة الإيرانية تعزيز ثقة الشعب الإيراني بتحسين ظروف معيشة المواطنين. ورُغمَ أنَّ الحرب الاقتصادية الأميركية على إيران تَحُولُ دون تحقيق تحسينات اقتصادية كبيرة في المستقبل القريب، إلّا أنه لا يزال بإمكان الحكومة مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، وكبح جماح سلوكيات استغلال النفوذ الناجمة عن التحايُل على العقوبات. من شأن ذلك أن يُقلّلَ من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، ويرفع مستوى رضا الشعب، وبالتالي يقلل الحاجة إلى سياسات أمنية داخلية.
حُسنُ الجوار
مع سعي طهران إلى بناءِ توافُقٍ في الآراء داخليًا، يُمكنها البدء في العمل على تحسين سمعتها الدولية. ينبغي على المسؤولين إعطاء الأولوية لتدابير بناء الثقة التي تُركّزُ على تحسين الحوار مع جيران إيران. على سبيل المثال، يُمكنهم متابعة مبادرة “مسعى هرمز للسلام” التي اقترحها الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، والتي تهدف إلى تعزيز التعاون وبناء الثقة بين الدول المجاورة لمضيق هرمز الاستراتيجي. كما يمكنهم إنشاء “رابطة حوار غرب آسيا الإسلامية”، التي تهدف إلى استبدال العداء بالوئام من خلال حوارات بين الدول الثماني المطلّة على الخليج العربي، بالإضافة إلى مصر والأردن وسوريا وتركيا. أو بإمكانهم إنشاء شبكة الشرق الأوسط للبحوث والتقدُّم النووي، والتي من شأنها أن تُنشئ آليات إقليمية لضمان عدم الانتشار النووي ونزع السلاح النووي، مع تعزيز التعاون في الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بين دول المنطقة الرافضة للأسلحة النووية.
تمتلك إيران أكبر قوة إجمالية في المنطقة، بالإضافة إلى موارد بشرية وطبيعية وجيوستراتيجية هائلة، لذا فمن المنطقي أن تُسهِمَ في قيادة هذه المبادرات. كما ينبغي لطهران أن تُدرِكَ أنَّ قوتها قد تُثيرُ قلقَ الآخرين، وبالتالي عليها أن تُحوِّلَ تركيزها من سردية بناء “إيران قوية” -التي قد تبدو أحادية الجانب ومُهدِّدة- إلى سردية بناء “منطقة قوية”. على سبيل المثال، يُمكن للمسؤولين الإيرانيين إعادة صياغة القدرات العلمية والثقافية لبلادهم كموارد يُمكِنُ أن تُفيدَ منطقة غرب آسيا بأكملها، بدلًا من اعتبارها دليلًا على نفوذ إيران.
لكن على دول المنطقة الأخرى أن تضطلع بدورها في كسر حلقة التسييس الأمني. ولتحقيق ذلك، ينبغي عليها التركيز على عزل الشخصية الإقليمية الأكثر مسؤولية عن تسييس إيران: نتنياهو. فقد أثبت هو وحلفاؤه أنهم يعتبرون السلام والاستقرار تهديدًا وجوديًا لمصالحهم. وهذا ما يميّزهم عن إيران، التي تأسست -وفقًا للمادة الثانية من دستورها- على “رفض جميع أشكال القمع، والخضوع للقمع، والهيمنة على الآخرين، والخضوع للهيمنة”، و”استخدام العلوم والتكنولوجيا والنتائج المتقدِّمة للتجارب الإنسانية وتطويرها” بما “يحقق الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلًا عن المساواة والعدالة والتضامن الوطني”.
يُوَفِّرُ سلوكُ إسرائيل الأخير فرصةً للقادة الإيرانيين. فقد أدت الجرائم المروِّعة في غزة إلى استنكارٍ عالمي وأيقظت الضمائر متجاوزةً الحواجز الإيديولوجية. لكن قلّما نجدُ حكوماتٍ أكثر اتساقًا من طهران في انتقاد إسرائيل والدفاع عن الفلسطينيين. وبالتالي، يمكن للمسؤولين الإيرانيين التعاون مع المنظمات والمؤسّسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، لتعزيز التعاطف العالمي وبناء توافق قوي ضد الفصل العنصري والإبادة الجماعية والعدوان. ومن خلال ذلك، قد تتمكّن إيران من تحييد، بل وربما عكس، مسارها الأمني. فليس من المنطقي أن تُعامَلَ إيران بتُهَمِ الانتشار النووي في حين أنَّ الجهة الرئيسة التي تُوجِّهُ هذه التُهَم هي نظامٌ يمتلك ترسانة نووية غير شرعية.
التعايُش السلمي
ستظلُّ أولوية إيران في سياستها الخارجية هي جوارها. مع ذلك، ينبغي لطهران أن تسعى إلى تعميق علاقاتها في أماكن أخرى، بما في ذلك التعاون الوثيق مع روسيا. ويُعَدُّ التنسيقُ مع الصين، القوة العالمية الصاعدة، ضرورة حتمية. لكن بإمكان طهران أيضًا الاستفادة من تحسين علاقاتها مع أوروبا وإدارة خلافاتها مع الولايات المتحدة. من شأنِ ذلك أن يضمَن أن تكونَ إيران شريكًا جادًا ومُتكافئًا وطويل الأمد للصين وروسيا، لا أن تنخرطَ معهما بدافع اليأس المفروض.
قد تكون إدارة الخلافات مع الولايات المتحدة واحتوائها ضرورية أيضًا لكسر حلقة التسييس الأمني. ربما لم تَبذُل أيُّ حكومةٍ جهودًا لعزل إيران بقدر ما بذلتها واشنطن. (علمًا أنَّ إسرائيل بذلت جهودًا كبيرة لإقناع الولايات المتحدة بالعداء تجاه إيران والإيرانيين). لذا، ينبغي لطهران أن تنظرَ في إمكانية استئناف الحوار المباشر مع واشنطن، على قدم المساواة. يجب إدارة التوقُّعات، إذ لا يمكن أن يكونَ هدفُ المحادثات استعادة العلاقات الوديّة بين البلدين. توجدُ خلافاتٌ مُستَعصية بين إيران والولايات المتحدة، مُتجذِّرة في الهوية والإيديولوجيا، لا يمكن لأيٍّ منهما التنازُل عنها بشكلٍ واقعي: فبالنسبة إلى واشنطن، يشمل ذلك طبيعة المؤسّسة السياسية الثورية في إيران وموقفها من إسرائيل؛ أما بالنسبة إلى طهران، فيشمل ذلك دعم واشنطن الأعمى لإسرائيل وحضورها العالمي. ولكن من خلال الاتفاق على الاختلاف في هذه الخلافات الإيديولوجية، يمكن للمفاوضين إيجاد سُبُلٍ لمنعها من إشعال أزمات لا داعي لها. كما يمكنهم حل العديد من نزاعاتهم السياسية من خلال الأخذ والعطاء المُتبادَل.
ويأتي على رأس القائمة البرنامج النووي الإيراني والعقوبات الأميركية، وهما المحوران اللذان صُمِّمَ الاتفاق النووي الإيراني لمعالجتهما. يجب على الولايات المتحدة أن تُدرِكَ أنها لا تستطيع القضاء على القدرات النووية الإيرانية الكبيرة، لأنَّ معظمها قدرات محلية الصنع ويمكن إعادة بنائها. ولكن يمكن للبلدين الاتفاق على هدفَين مشتركَين: ألّا تصنعُ إيران أسلحة نووية، وألّا تُهدّد الولايات المتحدة إيران أو تُشِنُّ حربًا عسكرية أو اقتصادية ضدها. ولتحقيق هذه الغايات، يمكن لإيران أن تُقدِّمَ الشفافية، وفرض قيود على التخصيب، وآلية إقليمية محتملة، مثل اتحاد تخصيب اليورانيوم. أما الولايات المتحدة، من جانبها، فسيتعيّن عليها رفع عقوباتها الخاصة والسماح برفع عقوبات الأمم المتحدة.
بإمكان إيران تعزيز التوصُّل إلى اتفاق من خلال مزيد من الشفافية بشأن برنامجها النووي عبر التعاون المُناسِب مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويشعرُ المسؤولون الإيرانيون بقلقٍ مُبرَّر من أنَّ أيَّ معلومات يُقدِّمونها للوكالة ستُستَخدَم لأغراضٍ عسكرية، نظرًا لاعتقادهم بتسريب معلوماتٍ سرّية من الوكالة في الماضي. كما أساءت إسرائيل استخدام تصريحات مدير الوكالة في حزيران (يونيو)، التي قال فيها إنَّ طهران “لم تُجب، أو لم تُقدّم إجابات ذات مصداقية فنية، على أسئلة الوكالة”، لتبرير حملة القصف التي شنتها في ذلك الشهر. وبالتالي، يحقُّ لإيران أن تُطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالالتزام التام بإجراءاتها وقواعد سلوكها المتعلّقة بالحياد والموضوعية والسرّية ومُراعاة مخاوف الأمن القومي، مُقابل استمرار التعاون. ولكن طالما تتمُّ إدارةُ هذه المخاطر، فإنَّ فوائد التعاون ستكون تفوق مخاطره. ومن شأن الشفافية مع الوكالة أن توقف نشر الروايات الأمنية غير المُثبتة حول إيران، وأن تُسهّل التوصُّل إلى اتفاقٍ سياسي مع الولايات المتحدة.
إذا طبّقت طهران وواشنطن اتفاقًا نوويًا مُحدّثًا، فقد يتمكّن البلدان أيضًا من معالجة قضايا شائكة أخرى، كالأمن الإقليمي، والحدّ من التسلّح، ومكافحة الإرهاب. فعلى سبيل المثال، قد يُطلَبُ من إيران التعهُّد بعدم مهاجمة الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة، مقابل ضمانة مماثلة من الولايات المتحدة وشركائها. وقد تتعهّد طهران أيضًا بعدم استخدام قدراتها العسكرية إلّا في حالة الدفاع عن النفس ضد أيِّ هجومٍ مسلّح سابق، استنادًا إلى التزامٍ مُتبادَل. مع ذلك، سيتعيّن على الولايات المتحدة التعامل مع مظالم إيران الأمنية، بما في ذلك وجودها المُهدِّد حول إيران، والتدفق غير المسبوق للأسلحة الأميركية المتطوِّرة إلى المنطقة. ورُغمَ قلق واشنطن بشأن مشتريات إيران الدفاعية، فإنَّ طهران لا تُنفق سوى جُزءٍ ضئيل مما يُنفقهُ حلفاء أميركا في المنطقة على المشتريات العسكرية، سواءً من حيث القيمة الحقيقية، أو نصيب الفرد، أو النسبة المئوية من الناتج القومي الإجمالي.
وقد تجد إيران والولايات المتحدة أيضًا فُرَصًا للتعاون الفعّال بينهما. فإيران، على سبيل المثال، تمتلك شبكة قوية من الجامعات؛ تتمتع إيران بسكانها الكثر ذوي التعليم العالي، وقطاعها الخاص المزدهر ذي الروابط التاريخية العريقة بالأسواق العالمية. في الواقع، تُعدّ إيران من أكثر الاقتصادات استقرارًا وربحيةً في العالم، ما يجعلها من أكثر الاقتصادات غير المُستَغَلَّة على نطاقٍ واسع. وبذلك، يُمكن لإيران والولايات المتحدة التعاون في قضايا علمية وتكنولوجية مهمّة.
وبالمثل، قد يجد البلدان مجالات لتنسيق السياسة الخارجية في المدى القصير. فقد تعاونت طهران وواشنطن، على الرغم من اختلافاتهما الاستراتيجية، في أفغانستان والعراق في مطلع هذا القرن، وضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العقود الأخيرة. واليوم، يواجهان تحديات مشتركة مجددًا في مسائل التطرُّف، فضلًا عن التهديدات التي تواجه حرية الملاحة. ويمكن أن يصبح هذا التعاون سبيلًا لفضّ النزاعات على الأقل في المدى القصير، إن لم يكن للتنسيق. كما ستستفيد إيران والولايات المتحدة من بعض التعاون في مكافحة تهريب المخدرات الدولي. وبحكم موقعها على طول طرق العبور الرئيسة للمخدرات الآتية من أفغانستان، فقد تحمّلت إيران نصيبًا غير متناسب من التكاليف البشرية والمالية لجهود مكافحة المخدرات، بما في ذلك آلاف الضحايا في صفوف قوات إنفاذ القانون. ومن شأن التنسيق الهادئ، سواء من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية أو المساعدة التقنية أو دعم آليات المكافحة الإقليمية، أن يعالج تهديدًا أمنيًا مشتركًا من دون الحاجة إلى توافُقٍ سياسي بشأن خلافاتٍ إيديولوجية أوسع.
الأفعالُ وردودُ الأفعال
وضعت دوّامة التسييس الأمني إيران والمنطقة ودول حلف شمال الأطلسي، ولا سيما الولايات المتحدة، في مأزقٍ مُعقَّد ومُتفاقِم. فبدلًا من أن تُقلِّلَ التدابير الدفاعية والردودية الإيرانية من التهديدات، زادت من حدة التصوُّرات الأمنية تجاه إيران، وساهمت في ترسيخ فكرة أنَّ الجمهورية الإسلامية دولةٌ خطرة. ويُعدّ كسر هذه الدوامة ضرورة حيوية لطهران. وعلى الرُغم من أنَّ الفكرة القائلة أنَّ إيران تُمثّل تهديدًا وجوديًا خاطئة تمامًا، إلّا أنَّ هذا التصوُّر خلقَ تهديداتٍ وجودية للإيرانيين، وهو ما تجلّى بوضوحٍ مُؤلم في هجمات حزيران (يونيو).
يتطلّبُ الخروج من دائرة التسييس الأمني مجموعة من الاستراتيجيات المُتزامنة والشاملة والمُنَسَّقة. ويستلزمُ ذلك ديبلوماسية إقليمية وعالمية فعّالة ومتوازنة، وإصلاحات داخلية، وتدابير لبناء الثقة على الصعيدَين المحلي والدولي، والعودة إلى القوة الفكرية للثورة الإسلامية، وتعزيز القدرات الدفاعية للبلاد بطريقةٍ غير استفزازية، وتغييرًا في استراتيجية التواصل.
في الوقت نفسه، يُعَدُّ كسرُ حلقة التسييس الأمني أمرًا بالغ الأهمية للولايات المتحدة وأوروبا. ينبغي عليهما البدء بالتعامل مع إيران كشريكٍ لا كتهديد، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ ذلك سيُعزّزُ مصالحهما. فبانخراطهما في خطابٍ عدائي وتسييسي ضد إيران، صعّدت الولايات المتحدة وأوروبا التوتّرات الإقليمية والعالمية بدون تحقيق أيٍّ من أهدافهما المعلنة. سيكون من الأجدى لهما احترام استقلال إيران وكرامتها وحقوقها المشروعة، مع إعادة توجيه تركيزهما نحو السبب الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة: سلوك إسرائيل غير القانوني وغير المعقول.
إيران وسيط طبيعي، فثقافتها وتاريخها وموقعها الجغرافي تُؤهّلها لتيسير الحوار والتعاون بين آسيا وأوروبا. كما يُمكنها أن تكونَ مركزًا للتجارة، لا سيما مع دول آسيا الوسطى غير الساحلية. ويُؤهِّلها رأس مالها البشري لتكونَ شريكًا رئيسًا في الابتكار التكنولوجي العالمي. إنَّ كَسرَ حلقة التسييس الأمني في إيران، والسماح لها بالارتقاء إلى مكانتها اللائقة، سيُسهِمُ في تحقيق السلام والتنمية والاستقرار لعقودٍ مقبلة.
- محمد جواد ظريف هو أكاديمي وسياسي إيراني، يشغل منصب أستاذ مشارك في الدراسات العالمية بجامعة طهران، وهو مؤسس ورئيس شركة “معماريو الإمكانيات”. وعلى مدى ثلاثة عقود، اضطلع بأدوارٍ محورية في السياسة الخارجية الإيرانية، شملت منصب نائب رئيس الجمهورية، ووزير الخارجية، والمندوب الدائم لإيران لدى الأمم المتحدة.
- أمير بارسا غارمسيري هو طالب دكتوراه في الدراسات الأميركية في كلية الدراسات العالمية بجامعة طهران.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفِّيرز” الأميركية.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.