إيران وأزمةُ مُنتَصَفِ العُمر: عندما يَتَحَوَّلُ الجمودُ خطرًا في زمنِ التحوُّلات الكبرى

نادرًا ما يُمكِنُ فَهم إيران الحديثة خارج سياقها الإقليمي. فعلى الرُغم من خصوصيتها المذهبية، وذاكرتها الإمبراطورية، وبُنيتها السياسية المُعقّدة، فإنَّ تحوّلاتها الكبرى كانت، في معظم الأحيان، جُزءًا من الموجة نفسها التي اجتاحت العالمَين العربي والإسلامي. أحيانًا سارت إيران مع التيار، وأحيانًا سبقته، لكنها نادرًا ما وقفت خارجه.

الإمامان روح الله الخميني وعلي الخامنئي: من الثورة إلى السلطة، رموزٌ باقية وزمنٌ تغيّر.

ملاك جعفر عبّاس*

صحيحٌ أنَّ زلزالَ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ضربَ غزة أوّلًا، لكن ارتداداته العنيفة حَرّكت الصفائح التكتونية للسياسة الشرق أوسطية، وخلقت حقلًا هائلًا من الرمال المُتحرِّكة لا قدرة لأحدٍ على الخروج منه إلّا بقدرٍ عالٍ من الديناميكية والبراغماتية. فقد أَخرجَ التفوُّقُ الإسرائيلي فصائل “محور المقاومة” من الخدمة كخطِّ دفاعٍ مُتقدِّمٍ عن الأمن القومي الاستراتيجي الإيراني، وفي مقدمتها “حزب الله” و”حماس”. وتعرَّضت طهران، لأول مرة منذ الحرب العراقية–الإيرانية، لضربةٍ مباشرة. ثم سقط النظام الأسدي، ففقد المحور عمقه الاستراتيجي وخط إمداده.

كان “إعلانُ شرم الشيخ” إيذانًا ببدءِ تحوُّلٍ كبير في منطقتنا، عنوانه السلام المدفوع بالمصالح المشتركة وخطط التنمية العابرة للحدود، أو هكذا صَدَّقَ البعض. انخرطَ الجميع، بدرجاتٍ متفاوتة، في هذا المسار، ما عدا إيران. فبعدَ عامَين على “الطوفان”، تبدو الجمهورية الاسلامية عالقة في لحظةٍ مُتجمِّدة من الزمن، لحظة سيطرت فيها على أربع عواصم عربية وفرضت شروطها على المفاوض الأميركي والجار العربي.

راهنَ كثيرون على قدرة النظام الإيراني على المناورة في الميدان وعلى طاولة المفاوضات النووية، وسُكِبَ حبرٌ غزير عن “الحذاقة الفارسية” وقدرات “تاجر البازار” و”صانع السجّاد” في الالتفاف وتدوير الزوايا. غير أنَّ هذه الحذاقة لم تَفهَم، على ما يبدو، عمقَ التغيير المطلوب لإلحاق طهران بركب العصر الجديد. فبدت إيران–النظام أشبه بمرشدها: هَرِمة، تنتمي إلى زمنٍ غابر، فقدت لغة التواصل مع مجتمعٍ ديناميكي حيّ، يُتقِنُ لغةَ العصر الرقمي ويتطلّعُ إلى مستقبلٍ أكثر إشراقًا لأبنائه.

المُفارقة أنَّ إيران، التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها دولة “مختلفة”، تبدو اليوم في حالة من الاختلاف السلبي عن الإقليم. ليس لأنَّ المنطقة وصلت إلى السلام أو الديموقراطية أو الاستقرار الكامل، بل لأنَّ “منطق الحكم نفسه” بدأ يتغيّر في أماكن كثيرة، بينما لا تزال طهران أسيرةَ معادلاتٍ صيغت في زمن مضى. لكن الحال لم يكن دائمًا كذلك.

من الدستورية إلى الدولة: إيران في قلب أسئلة عصرها

طرحت الانتفاضة الدستورية في مطلع القرن العشرين أسئلة الحكم وحدود الملكية وموقع الدين من الدولة. وهي أسئلةٌ لم تكن إيرانية خالصة، بل شغلت مُفكّري عصر النهضة العربية، كما شغلت علماء النجف الذين أثروا بدورهم مباشرة في تشكيل الوعي السياسي لعلماء الدين وكثير من السياسيين في طهران.

كانت أفكار مونتسكيو وفولتير وروسو وألفييري تُترجم إلى العربية والفارسية، وتُقرأ في دمشق وبغداد وطهران، وتُصهَر في القوالب الثقافية العثمانية والقاجارية، لتعود فتظهر في كتابات الكواكبي والنائيني وغيرهما. ويشير الكاتب المتخصص في الشؤون الإيرانية الدكتور سعود المولى إلى أنَّ “الكتاب الذي أعطى المضمون السياسي التنظيمي للانتفاضة الدستورية كان كتاب الشيخ محمد حسين النائيني، الذي كان يعيش في النجف. فقد صدر كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” في الزمن نفسه الذي صدر فيه “طبائع الاستبداد ومصائر الاستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي، وتشابها في مضامينهما إلى حدٍّ كبير”.

لم تستورد إيران “المشروطة” من الخارج، لكنها تحرّكت داخل فضاء فكري إقليمي وعالمي مشترك، رأى في الملكية الدستورية جسر عبور نحو الدولة الحديثة.

التحديث من فوق… ثم كسر المسار

مع صعود رضا شاه بهلوي في عشرينيات القرن الماضي، دخلت إيران مرحلة بناء الدولة من فوق، عبر فرض النظام، وإعادة تشكيل المجتمع، وتقليص مساحة السياسة، في تماهٍ واضح مع المسار الذي اختطه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ما بعد الخلافة. شهدت إيران طفرة عمرانية وتنموية هائلة، فُرضت خلالها القيم العلمانية، ومُنِعَ الحجاب، وتقلّصت الحياة السياسية إلى حدّ التلاشي.

إلى أن جاء محمد مصدّق.

شكّل مصدّق لحظة كسر في المسار الذي رسّخه رضا شاه. لم يكن ثوريًا ولا راديكاليًا، بل رجل قانون ودستور. وكان تأميم النفط أكثر من قرار سيادي؛ كان إعلانًا بأنَّ الدولة يمكن أن تستند إلى الإرادة الشعبية، لا إلى العصا وحدها. وصل صدى التأييد الجارف لمصدّق إلى القاهرة، فحذا جمال عبد الناصر حذوه، وصنع مجدًا حفظته له مصر حتى اليوم بتأميم قناة السويس.

مرة أخرى، لم يكن مزاج الإيرانيين مختلفًا عن مزاج المصريين أو الجزائريين. كانت لحظة حركات التحرر الوطني، التي أدركت سريعًا أنَّ الدولة لا تُحكَم بالشرعية وحدها، بل بالقوة التي تُحصّنها. استوعب الشاه الابن هذه المعادلة بعد الانقلاب، كما استوعبتها الأنظمة العربية، التي بنت دولًا قوية ظاهريًا، هشّة من الداخل.

الإسلام السياسي: من الأفكار العابرة للحدود إلى الدولة

مع تعاظم سلطة محمد رضا شاه، تحوّلت إيران إلى دولة أمنية بوجهٍ عصري. ازدهر الاقتصاد، وتمدّدت الطبقة الوسطى، لكن السياسة غابت مجددًا، ومعها القدرة على امتصاص الغضب الشعبي. وحين انفجر هذا الغضب أواخر السبعينيات، لم ينفجر باسم الدستور أو القومية، بل باسم الدين.

جاءت الثورة الإسلامية عام 1979 في لحظةٍ إقليمية مأزومة: القومية العربية في أفول، مشاريع التنمية فشلت، والأنظمة فقدت شرعيتها. لم تكن الثورة نتاج تديُّنٍ مفاجئ، بل نتيجة تراكم طويل من الإقصاء السياسي والاختناق الاجتماعي. وقد نجحت لأنها التقطت لغة الشارع، وقدّمت سردية واضحة عن العدالة والاستقلال والقطيعة مع التبعية.

لم يأتِ الإسلام السياسي الإيراني من فراغٍ فكري مُغلَق، بل تشكّل في تفاعل مع أدبيات “الصحوة الإسلامية” العابرة للحدود، التي حمل رايتها تيار “الإخوان المسلمين”. فقد ساهمت كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، حول مفاهيم الحاكمية والجاهلية، في تهيئة المناخ الفكري الذي طوَّرَ الإمام روح الله الخميني من خلاله نظريته في الدولة الإسلامية تحت عنوان ولاية الفقيه.

وفي غفلةٍ من أجهزة استخبارات الحرب الباردة المُنشغلة بملاحقة المعارضين اليساريين، كما يؤكد الباحث الإيراني محسن ميلاني في كتابه “صناعة الثورة الإسلامية: من الملكية الى الجمهورية الاسلامية”، فاجأ الخميني العالم بوصوله إلى السلطة، مُعلنًا قيام أول دولة يحكمها الإسلام السياسي، طامحًا إلى أن يكونَ زعيمًا إسلاميًا لا إيرانيًا فحسب. وقد فصّل المفكر الإيراني الأصل فالي نصر في كتابه “الصحوة الشيعية” كيف ألهب وصول الخميني إلى السلطة مخيّلة الإسلاميين في المنطقة، وأثار في المقابل رعب دوائر صنع القرار، التي رأت في هذا المدّ تهديدًا وجوديًا، فاستثمرت في الفكر المضاد، لتبصر حركات السلفية الجهادية النور.

من الثورة إلى إدارة الأزمات

خرجت الجمهورية الإسلامية مُنهَكة من حرب العراق، لكن النظام خرج متسلّحًا بالشرعية القتالية، وبجيشٍ رديف عُرف بالحرس الثوري، الذي سرعان ما أصبح الأداة الأعتى للنظام في الداخل والخارج. وكان هو الآخر امتدادًا لحالة ميليشياوية انتشرت في بلدان أنهكتها الحروب الأهلية، من أفغانستان إلى يوغوسلافيا، مرورًا بلبنان.

قوّضت ثُنائية الثورة والدولة إمكانية تحوّل إيران الى دولةٍ طبيعية بعد الحرب. فُتح المجال نسبيًا في عهد أكبر هاشمي رفسنجاني، ثم خاض محمد خاتمي تجربة إصلاحية اصطدمت ببُنية نظامٍ صُمِّم ليقاوم التغيير من الداخل. وكان وصول محمود أحمدي نجاد إيذانًا بإحكام الحرس قبضته على الدولة، التي تحوّلت تدريجًا من الفكر الثوري إلى العقلية الأمنية، بحسب توصيف سعود المولى.

منذ ذلك الحين، دخلت إيران مرحلة “إدارة الأزمات بدل حلّها”. توالت الاحتجاجات: من الثورة الخضراء عام 2009، إلى موجات 2017 و2019 و2022، كاشفةً أنَّ مجتمع السبعينيات لم يعد هو نفسه. لم يُردِّد جيل الألفية شعاراتٍ إيديولوجية ولا مطالب كبرى؛ صارت الحياة اليومية، والاقتصاد، والمحاسبة، والكرامة في صدارة الغضب.

بدا في كلِّ تلك المراحل أنَّ الهتاف في طهران يلاقي الهتاف في دمشق، والقاهرة، وبيروت، وبغداد. لكن إدارة الأزمة اختلفت. نجح “الربيع العربي” في تغييرِ أنظمةِ حُكمٍ في دولٍ عدة، بينما امتلك النظام الإيراني قدرة هائلة على الاحتواء والبطش، مُستندًا إلى جهازٍ أمني متماسك ومؤسسات ترى في الاحتجاج تمرُّدًا وتهديدًا وجوديًا لا مطلبًا سياسيًا. سقط النظام أخلاقيًا أمام سرديته، وهنا تحديدًا يكمن مأزق الجمود.

حين يصبح الجمود خطرًا وجوديًا

لا يُمكِنُ اختزال المأزق الإيراني اليوم في الشقِّ الاقتصادي أو البيئي، ولا في جمود المفاوضات النووية فحسب. إيران تعيش أزمة لغة سياسية فقدت قدرتها على التخاطب مع شعبها ومع العالم، وأزمة عقل استراتيجي فقد البصيرة، وأزمة تعريف للدور في إقليم يعيد ترتيب أولوياته.

لم يخلق زلزال السابع من تشرين الأول (أكتوبر) هذا المأزق، لكنه كشف بوضوح عمق التكلّس في بنية النظام. فبدت أدوات النفوذ التي استثمرت فيها طهران لعقود مُنتهية الصلاحية أمام التطور التكنولوجي الهائل. ورثت إيران، على نحوٍ ساخر، لقب خصمها العثماني التاريخي، لتغدو “مريض الشرق الأوسط” الجديد كما وصفها الكاتب المتخصص في الشأن الإيراني مصطفى فحص.

إيران ليست خارج التاريخ. مجتمعها الفتي يعيش أحلام الجيل الجديد ويتحدث لغته ويتطلع إلى ملاقاته. هي تمتلك كل مفاتيح التحول، لكن اليد القابضة على القرار تبدو في حالة موت سريري لا صبر استراتيجي. هل تنبض شوارع طهران بالثورة مجددًا؟ لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، لكن الثابت في علم الفيزياء أنَّ الجمود في حقلٍ من الرمال المتحرّكة يؤدي حتمًا إلى الغرق فيها، وأنَّ رياح التغيير لا تهبُّ دائمًا من الغرب.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى