التحالفُ الصامِت: سرُّ الاتفاق السعودي ـ الباكستاني
كابي طبراني*
بعد مرور أكثر من شهرٍ على توقيع اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية وباكستان في 17 أيلول (سبتمبر) الفائت، لا تزالُ أصداءُ هذه الخطوة تتردّد في أرجاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا. فالاتفاقُ الذي رآه البعض في بدايته مجرّدَ مبادرةٍ رمزية، سرعان ما تبيّنَ أنه إعلانٌ واضح عن نوايا جادة لإعادة رسم موازين القوى والتحالفات في المنطقة. لقد وُلِدَ هذا الاتفاق في لحظةِ أزمة، لكنه يعكسُ حساباتٍ دقيقة ورغبةً متبادلة في التكيّف مع عالمٍ لم تَعُد الهيمنة الأميركية فيه مُطلقة كما كانت.
جاءت المبادرة في أعقاب الضربة الإسرائيلية على أهدافٍ تابعة لحركة “حماس” في الدوحة مطلع أيلول (سبتمبر)، وهي ضربةُ هزّت ثقة دول الخليج في المظلة الأمنية الأميركية. وفي خضمِّ هذه الأزمة، سارع رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف إلى زيارة قطر تضامُنًا، برفقة قائد الجيش المارشال عاصم منير، في تحرّكٍ ديبلوماسي جريء عبّرَ عن رغبة إسلام آباد في استعادة دورها الإقليمي. وبعد أيامٍ قليلة، تمَّ الإعلانُ في الرياض عن توقيعِ اتفاقِ دفاعي تاريخي بين البلدين، ينصُّ على أنَّ “أيَّ عدوانٍ على أيٍّ من الطرفين يُعَدُّ عدوانًا على الطرف الآخر”.
هذا النصّ الذي يَستحضِرُ روحَ المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو) حمل رسالة مزدوجة: رسالةُ ردعٍ إلى الخصوم، ورسالةُ طمأنة إلى الحلفاء. ومع أنَّ بعضَ التصريحات الأوَّلية من الجانب الباكستاني ألمحَ إلى إمكانية شمول الاتفاق “كل الوسائل العسكرية”، بما فيها القدرات النووية، فإنَّ المسؤولين في البلدين تجنّبوا تأكيد هذا البُعد علنًا. ومع ذلك، فإنَّ الغموضَ هنا مقصودٌ وله وظيفة ردعية بحد ذاته: فهو يمنحُ السعودية شعورًا بأنها محمية بمظلّةٍ نووية غير معلنة، ويمنح باكستان نفوذًا سياسيًا ومعنويًا يتجاوز حدود جنوب آسيا.
بالنسبة إلى باكستان، يُمثّلُ الاتفاقُ تحوُّلًا استراتيجيًا كبيرًا في سياستها الخارجية. فهو يُحوّلُ عقودًا من التعاون العسكري غير الرسمي مع المملكة إلى شراكةٍ مؤسّسية واضحة. فمنذ السبعينيات الفائتة أرسل الجيش الباكستاني طيّارين ومُدرِّبين للمساعدة على بناء قدرات القوات السعودية، وشاركَ آلافُ الجنود في حماية أراضي المملكة. الجديد هذه المرة أنَّ التعاونَ لم يَعُد مجرّدَ تقليدٍ تاريخي، بل أصبحَ أداةً سياسية لتعزيز موقع باكستان كقوة أمنية في العالم الإسلامي، وكشريكٍ لا غنى عنه في معادلات الأمن الخليجي.
أما السعودية، فتنظر إلى الاتفاق باعتباره ركيزةً جديدة في سياستها الرامية إلى تنويع شراكاتها الدفاعية وتقليص اعتمادها المفرط على الولايات المتحدة. فبعد سنواتٍ من خيباتِ الأمل في الموقف الأميركي من التهديدات الإيرانية والهجمات الإسرائيلية الأخيرة، بدأت الرياض تبحث عن بدائل تضمن أمنها وسيادتها بدون أن تربطَ مصيرها بتقلبات السياسة الأميركية. وهنا يأتي التعاون مع باكستان كخيارٍ واقعي ومفيد، خصوصًا أنَّ لدى الأخيرة خبرات صناعية دفاعية متطوّرة يُمكنُ أن تساعدَ المملكة في تحقيق أحد أهم أهداف “رؤية 2030”: بناء صناعة دفاعية محلية قوية ومستقلة.
ويُضافُ إلى ذلك البُعدُ الاقتصادي الواضح للاتفاق. فإسلام آباد تمرُّ بأزمةٍ مالية خانقة، والمساعدات السعودية –من قروضٍ مؤجلة وسندات نفطية واستثمارات بمليارات الدولارات– تمثّلُ شريانَ حياةٍ لاقتصادها. في المقابل، تحصلُ الرياض على شريكٍ عسكري موثوق وخبرة قتالية اكتسبها الجيش الباكستاني عبر عقود من المواجهة والتأهب. إنها صفقة متبادلة المصالح: حماية مقابل استقرار، واستثمار مقابل نفوذ.
لكنَّ الاتفاقَ لا يقتصرُ على البُعدَين الثُنائيَين فحسب، بل يتجاوزهما إلى حسابات أوسع تمسُّ واشنطن وبكين معًا. فالولايات المتحدة، رُغمَ استمرار شراكاتها الدفاعية في المنطقة، تجدُ نفسها اليوم أمامَ واقعٍ جديد يُقلّصُ من احتكارها لمنظومة الأمن الخليجي. ولم تُفلِح مبادرة الرئيس دونالد ترامب الأخيرة بإصدارِ ضمانٍ أمني لقطر عقب الضربة الإسرائيلية في طمأنة العواصم الخليجية، بل عمّقت قناعتها بأنَّ الحماية الأميركية أصبحت مشروطة ومتأخِّرة.
في المقابل، اختارت الصين الصمت، لكن صمتها كان أبلغ من التصريحات. فبكين التي ترتبطُ بعلاقاتٍ عسكرية واقتصادية وثيقة مع باكستان من خلال “الممر الاقتصادي الصينيـالباكستاني” ترى في انضمام السعودية إلى هذا المسار فُرصةً لتعزيز نفوذها بهدوء. فالتعاون الدفاعي بين الرياض وإسلام آباد يفتحُ البابَ أمامَ توسيع دور الصناعات العسكرية الصينية في الخليج، وربما أمامَ تعاوُنٍ نووي مدني مستقبلي. فبينما تتعثّر مفاوضات السعودية مع واشنطن حول شروط التعاون النووي، تبدو التكنولوجيا الصينية، التي اعتمدتها باكستان فعلًا في مفاعلات “هُوالونغ وان”، خيارًا مُغريًا وواقعيًا.
بهذا المعنى، يُعيدُ الاتفاقُ رسمَ خريطة العلاقات في أوراسيا، مُكوِّنًا مُثلَّثًا جديدًا يربط الرياض وإسلام آباد وبكين، تدفعه مصالح متقاطعة ورغبة مشتركة في التحرُّر من الضغوط الأميركية. هذا التوجه لا يُلغي أهمية الدور الأميركي في المنطقة، لكنه يضعُ حدًّا لاحتكاره.
ورُغمَ كلِّ ما يُقال عن تحالفٍ إسلامي جديد أو نظامٍ أمني بديل، تبقى حدود الاتفاق واقعية. فباكستان لن تُخاطِرَ بتحويل مواردها العسكرية بعيدًا من جبهتها الشرقية مع الهند، والسعودية بدورها لا تستطيع الإضرار بعلاقاتها الاقتصادية المتنامية مع نيودلهي، أحد أكبر شركائها التجاريين. لذلك، يُتَوَقَّع أن يظلَّ التعاون في إطار التدريب والتخطيط الدفاعي وتبادل المعلومات، أكثر منه استعدادًا لخوضِ حروبٍ مشتركة.
ومع مرورِ أكثر من شهرٍ على توقيع الاتفاق، باتَ واضحًا أنَّ أهميته تتجاوز الأبعاد العسكرية إلى رمزيته السياسية. فهو يعكسُ نهاية مرحلة أحادية القطبية في الخليج وبداية نظام أكثر مرونة وتعدُّدية في التحالفات. كما يُظهِرُ أنَّ القوى الإقليمية باتت تُفضّلُ تنويعَ خياراتها بدلًا من الارتهان الكامل لقوةٍ واحدة، أيًّا كانت.
اتفاقُ الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان لا يؤسّسُ لحلفٍ عسكري جديد بقدر ما يُجسّدُ منطق العصر الحالي: المرونة الاستراتيجية بدلاً من الولاء الثابت. فبالنسبة إلى باكستان، هو وسيلة للعودة إلى الواجهة الدولية وتعزيز موقعها الاقتصادي؛ وبالنسبة إلى السعودية، هو رسالة إلى واشنطن مفادها أنَّ لديها خيارات أخرى؛ أما بالنسبة إلى الصين، فهو فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها من دون أن تُطلق أو تنطقَ كلمة واحدة.
يبقى السؤال المطروح هو ما إذا كان هذا التعاون سيتطوّر إلى شراكةٍ استراتيجية دائمة أم أنه سيظلُّ مجرّدَ خطوةٍ رمزية في لحظةِ اضطرابٍ إقليمي. فالمستقبلُ سيتوقّف على قدرة الطرفين على إدارةِ توازُنٍ دقيق بين الطموح والحذر. لكن ما يُمكنُ الجزمُ به اليوم، هو أنَّ أمنَ الخليج لم يَعُد حكرًا على الولايات المتحدة وحدها، وأنَّ الرياض وإسلام آباد قد دشّنتا معًا فصلًا جديدًا في معادلة القوة في المنطقة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani